أول رحلة إلى بلاد الشام

أول رحلة إلى بلاد الشام

د. يوسف القرضاوي

في أوائل شهر أغسطس سنة 1952م، أي بعد حوالي مضي أسبوعين على قيام ثورة 23 يوليو جاءني أمر من الأستاذ الهضيبي المرشد العام أن أتهيأ لرحلة إلى بلاد الشام: لبنان وسوريا والأردن، أنا والأخ الفاضل الأستاذ محمد علي سليم من إخوان الشرقية، توثيقا للصلة بالإخوة هناك، وتعميقا للتربية عندهم.

وكانت هذه أول رحلة لي خارج مصر، وقد رحبت بها كل الترحيب، فالسفر نصف العلم، وفي أمثالنا قالوا: الذي يعيش يرى كثيرا، قيل: لكن الذي يسافر يرى أكثر، وقد حفظنا من شعر الإمام الشافعي:

مـا  في المقام لذي عقل وذي iiأدب
إنـي رأيـت وقـوف الماء iiيفسده
والـتـبر  كالتُرْب ملقى في iiأماكنه
فـإن تـغـرّب هـذا عـز iiمطلبه



مـن راحة، فدع الأوطان iiواغترب
إن سال طاب، وإن لم يجر لم يطب
والعود  في أرضه نوع من iiالحطب
وإن  تـغـرّب ذاك كان iiكـالذهب

لهذا استبشرت بهذه الرحلة لأرى فيها الدنيا والناس، وأتعلم من مدرسة الحياة لا من الكتب وحدها، وفيها كانت لي هناك أوليات شتى: فهي أول مرة أستخرج فيها جواز سفر، وأول مرة أركب فيها الباخرة إلى خارج مصر، فقد ركبت الباخرة (عايدة) إلى الطور، وأول مرة أركب فيها الطائرة عائدا إلى مصر من عمَّان، وأول مرة ألبس فيها قميصا وبنطلونا، وأول مرة أضطر للتعامل مع إخواني باسم غير اسمي، وأول مرة أحمل فيه نقدا غير العملة المصرية، وأتعامل به... إلى آخره.

كانت الثورة في أيامها الأولى، ولم يكن يُسمح لأحد بالسفر إلا بتصريح من رجال الثورة، ولا بد أن يكون التصريح مسببا، ولكن كانت العلاقة حسنة بين رجال الثورة والإخوان، فاستطاع الأستاذ منير دلَّة عضو مكتب الإرشاد أن يستخرج لي تصريحا بالسفر، مندوبا لشركة أدوات كهربائية يملكها أحد الإخوان.

وكان علينا أن نسافر بأرخص الوسائل حتى لا نكلف الجماعة الكثير، فكانت الباخرة هي الأرخص، وعلينا أن نختار أرخص الدرجات في الباخرة، وهي ما يسمونه (أون دك) أي على السطح، وكان الأخ سليم هو الذي يتولى الصرف.

ووصلنا إلى الإسكندرية، وألقيت محاضرة بدار الإخوان هناك، وبتُّ عندهم، لنسافر من الغد إلى بيروت.

وركبنا الباخرة (سيبيريا) على ما أذكر، وأخذنا موقعنا على سطحها، وقلنا: بسم الله مجراها ومرساها، وكان السطح جميلا جدا، وخصوصا بالليل، تطالعنا نجوم السماء، التي جعلها الله زينة ومصابيح للسماء "وزينها للناظرين"،وكان البحر الأبيض في غاية الروعة والجمال والجلال، والباخرة الكبيرة تشق عبابه في قوة وانسياب، وأتذكر قوله تعالى:

(ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام) الشورى: 32.

وفي اليوم التالي، وصلنا إلى بيروت، وهي مدينة هادئة جميلة، ومعظم شوارعها لا يتسم بالسعة، ولم يكن فيها في ذلك الوقت أي ازدحام في الشوارع أو في المواصلات، بل الحياة رحبة كنسيم البحر الذي يهب عليها، ولم يكن للإخوان وجود رسمي بها، ولكن كانت هناك جماعة (عباد الرحمن) التي أسسها الداعية والمربي الفاضل الأستاذ محمد عمر الداعوق، فتعرفنا على من لقيناه منهم، ولا أذكرهم الآن، ولم يكن الأستاذ الداعوق حاضرا ببيروت.

وكان في بيروت الأستاذ الفضيل الورتلاني أحد مشاهير علماء الجزائر الذين نفتهم فرنسا من الجزائر، لخطورتهم ونشاطهم، وقد بقي في القاهرة مدة من الزمن، وكان على صلة وثيقة مع الأستاذ البنا، وقد كلفه الأستاذ البنا بملف (اليمن) والاتصال بأحرارها ورجال الإصلاح فيها، وكان له دور معروف غير منكور في انقلاب اليمن على الإمام يحيى حميد الدين، وقد فشل الانقلاب الذي قام به ابن الوزير، وسيف الإسلام إبراهيم ابن الإمام يحيى، بعد أن نجح أول الأمر، ولكنه لم يستقر، وقد فر الأستاذ الورتلاني من اليمن، وحاول أن يجد بلدا يؤويه، فلم يجد، وظل على ظهر الباخرة شهرين، حتى استطاع بوسيلة وأخرى أن ينزل إلى بيروت، ويُعرف بين الناس باسم (أبو مصطفى) وكانت فرصة طيبة لي أن التقيت به وتحدثت طويلا إليه، واستمعت إلى أفكاره في الإصلاح، واقترحت عليه أن ينزل إلى مصر، بعد تغير الوضع

وزوال الملكية، ووافق على ذلك، على أن ينزل في صورة تليق بمكانته وتاريخه.

بقينا في بيروت نحو ثلاثة أيام، ثم عزمنا متوكلين على الله أن نتوجه إلى دمشق عن طريق البر طبعا، وكان الأخ محمد سليم قد اقترح علي أن أغير زيي الأزهري، لأنه يلفت النظر في سوريا، في حين نريد أن نقضي أيامنا في ربوعها بلا ضجيج ولا إعلان.

ولهذا اشتريت قميصا وبنطلونا، وخلعت الكاكولة والعمامة، ولبستهما لأول مرة، وكان هو الأليق بالحال في سوريا، فقد دخلت سوريا عصر الانقلابات العسكرية من حسني الزعيم إلى الحناوي إلى أديب الشيشكلي، الذي يحكم سوريا حاليا، وقد كانت قبضة الحكم العسكري قوية، ورجال المكتب الثاني يسيطرون على أزِمَّة الأمور.

لهذا لم يكن من الحكمة أن أتحرك بالزي الأزهري الذي يجعل الأصابع تشير إليّ حيثما ذهبت، بل اقترح علي الإخوة المسؤولون في دمشق، ومنهم الأخ كاظم نصري، والأخ علي الحسن المسؤول عن الأسر، أن أختار اسما آخر أتعامل به مع الإخوان، فاخترت اسم (عبد الله المصري) حتى لا يكون فيه كذب، فأنا عبد الله، ومصري.

وعرفني عامة الإخوان السوريين بهذا الاسم، إلا أخوين أو ثلاثة، ورتب لي الأخ علي الحسن لقاءات مع عدد من الأسر، ألتقي بهم في سرية وتكتم حتى لا نُكشف أمام جهات الأمن المفتحة الأعين.

وفي ليلة من الليالي كنت في بيت أحد الإخوان الدمشقيين، ألقي عليهم درسا، مع حرصي على خفض صوتي، إلا أن طبيعتي غلبتني، وارتفع صوتي دون أن أشعر، وهو صوت مصري اللهجة، وسرعان ما سمع الإخوة طَرْقًا على الباب، فقالوا: المكتب الثاني، وهنا أدخلوني إلى مكان الحريم في الداخل، وفُتح الباب، وإذا هو أحد رجال الأمن، اقتحم عليهم الباب، ودخل الحجرة التي فيها الإخوان، فقال: هل عندكم ضيف؟

فقالوا: ليس عندنا أحد، ولكنا نجلس لتلاوة القرآن، ويحدثنا أحدنا في تفسير بعض الآيات، ولم يجترئ الرجل أن يفتش حجرات الحريم، ومرت الليلة بسلام.

إلى مدينة حمص:

ورأى الإخوان أن الجو في دمشق غير مساعد، وأن أعين الأجهزة الأمنية متيقظة، ولذا ينبغي أن نشد الرحال إلى (حمص)، فهي أخف وأهدأ، وليس فيها من ترصد الأجهزة ما في دمشق، وفعلا سافرت أنا والأخ محمد سليم إلى حمص، وهي مسقط رأس الداعية الكبير الشيخ الدكتور مصطفى السباعي، المراقب العام للإخوان في سوريا، والذي اضطره الحكم العسكري أن يغادر سوريا إلى لبنان، فلا يمكن لمثله المقام تحت وطأة هذا الحكم، إلا أن يكون داخل السجن، ولذا لم أسعد بلقاء الشيخ الجليل أثناء وجودي بسوريا، ولم يكن هناك إمكان للعمل العلني، فلم يبق إلا عمل الأسر السري، وهكذا تضطر الأنظمة الدكتاتورية الإخوان ـ وغيرهم ـ إلى العمل تحت الأرض، بدل العمل تحت سمع القانون وبصره.

 وقد استضافني أخ كريم في بيته، وهو نور الدين شمسي باشا، وكان يعمل بالتعليم على ما أذكر، وكنت ألتقي بالإخوان يوميا في إحدى المزارع أو الحدائق القريبة، نلتقي على صلاة الفجر، ثم نجلس جلسة روحية، ألقي عليهم فيها بعض المعاني والخواطر الربانية، ونتذاكر بعض المسائل الشرعية، والقضايا العامة، ثم

نقوم إلى التدريبات الرياضية، ونتناول الفطور، ثم ننصرف، وأحيانا نلتقي لقاءات خاصة في بعض البيوت.

وكان على رأس الإخوان في حمص الأستاذ عبد المجيد الطرابلسي، الذي كان يتوقد حماسا ونشاطا في ذلك الوقت، ثم تغير حاله بعد ذلك في عهد الوحدة مع مصر، وانضم إلى الناصريين، ثم وَالَى الحكومة، وعُيّن وزيرا للأوقاف في سوريا، واستمر في الوزارة عدة سنوات، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم يا مقلب القلوب والأبصار، ثبت قلبي على دينك.

 بقيت في حمص نحو عشرة أيام مليئة بالحيوية والنشاط في إطار السرية المفروضة على العمل الإسلامي، وكان يقيم في حمص أخونا محمد نجيب جويفل رجل النظام الخاص، وهو صديق رفيقي محمد علي سليم، وكلاهما شرقاوي، ولكنه لم يكن موجودا بحمص ولا بسوريا فترة بقائي بها، فلم يتح لي أن ألقاه.

 وقد اختلف الإخوة السوريون في دور جوينل في إخوان سوريا، وبعضهم يحمّله تبعة ما حدث من انقسام هناك، وليس عندي علم بتفاصيل ذلك، وقد أفضى إلى ما قدم، سامحه الله وجزاه بنيته.

 إلى مدينة حماة:

ومن حمص انتقلت إلى مدينة (حماة) لألتقي بالشيخ عبد الله الحلاق المسؤول عن الإخوان بها، والتقيت بعدد من الشباب بها في عدة جلسات، ومن أهم ذكرياتي بحماة:

أن زارني في مقري عالم حماة وخطيبها ومرشدها العلامة محمد الحامد، الذي أبى إلا أن يحمل لي معه الحلوى الحموية الشهيرة (الشعيبيات) وقد احتفى بي الشيخ الجليل، وسألني عن أحوال الإخوان، وعن عدد من أصدقائه منهم، وأول من سألني عنه هو صديقه الشيخ عبد المعز عبد الستار، فقد كانت بينهما -أيام دراسته في بمصر- مودة عميقة، ورابطة وثيقة.

ولحقنا ـ ونحن في حماة ـ الأخ أحمد عادل كمال، قادما من القاهرة، وهو من الإخوان المسؤولين بالنظام الخاص، ولا أدري هل قدم بأمر من الأستاذ الهضيبي المرشد العام أو جاء بترتيب من النظام الخاص؟

على أية حال، لم يطل بنا المقام في حماة، إنما بقينا بها ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع ودّعتها عائدا إلى دمشق، لأولّي وجهي شطر عمَّان، استكمالا للرحلة المقررة. إلى الحدود السورية:

بعد عودتي إلى دمشق، كان لا بد من ترتيب السفر إلى الأردن، وودَّعني الإخوة في دمشق: الأخ كاظم نصري وإخوانه، وودعتهم متجها إلى الأردن، وعندما وصلنا الحدود السورية فاجأتني مشكلة لم أتوقعها، فقد نظروا في جوازي، وقالوا لي:

-       يا أستاذ، ليس في جوازك تأشيرة إقامة، ولا يمكنك الخروج حتى تحصل عليها،

قلت: والله لا علم لي بذلك، ولم يخبرني الناس الذين كنت ضيفا عليهم بذلك، وعلى كل حال أنا الآن مغادر، ولا حاجة لي إلى تأشيرة الإقامة،

قالوا: يا أستاذ هذا قانون، ولا بد من التأشيرة من دمشق،

قلت: أمري إلى الله، لا بد من الرجوع إلى دمشق بعد قطع هذه المسافة الطويلة، ومن أين لي أن أجد مواصلة ونحن في المساء؟ ولكن الله يسر ذلك، إذ وجدت رجلا تبدو عليه مخايل الصلاح، يركب سيارة خاصة، فشرحت له ظروفي، وضرورة عودتي إلى دمشق، فرحب بي، وأركبني معه لوجه الله.

وعدت إلى دمشق معاتبا الإخوة الذين لم ينتبهوا لأخذ تأشيرة إقامة لي، وبخاصة أن هذه أول مرة أسافر فيها ولا علم لي بإجراءات التأشيرات وما شابهها، فاعتذر الإخوة لي عن هذا الخطأ الذي يحملون تبعته بلا شك، وفي الصباح سارعوا بالحصول على التأشيرة، وسافرت مرة أخرى إلى الحدود، مستوفيا الشروط، وبالفعل منحوني تأشيرة الخروج من سوريا. إلى الحدود الأردنية:

وخرجت من الحدود السورية، لأصل إلى الحدود الأردنية، وهناك فاجأتني مشكلة أخرى جديدة لم أحسب لها حسابا، فقد نظر المسؤول في جواز سفري، ثم وجه الخطاب إليّ، وكنت قد خلعت القميص والبنطلون، ولبست العمامة والكاكولة، فقال لي: يا شيخ يوسف، جوازك ليس فيه تأشيرة دخول.

قلت: نعم، ليس لكم سفارة في دمشق، (كانت العلاقة مقطوعة بين البلدين).

قال: كان عليك أن تحصل على التأشيرة من القاهرة قبل أن تغادرها.

قلت: ربما لم يكن عندي نية لزيارة الأردن في أول الأمر، ثم وجدت نفسي على مقربة من القدس، وأريد أن أصلي في المسجد الأقصى الذي تُشدّ إليه الرحال، هل تمنعني من ذلك؟

قال: يا أستاذ، أنت رجل جامعي، ورجل مثقف، وتعلم أنه لا يجوز لأحد دخول بلد أجنبي إلا بتأشيرة.

قلت له: إن الثقافة التي يعلمونها لنا في الأزهر، لا تعتبر الأردن بالنسبة لي بلدا أجنبيا، إنهم يعلموننا أن المسلمين أمة واحدة، وأن بلاد المسلمين وطن واحد اسمه (دار الإسلام) وأن ابن بطوطة خرج من طنجة من المغرب وجال في البلاد الإسلامية شرقا وغربا، ولم يوقفه أحد ليسأله: أمعك تأشيرة أم لا؟..

وضحك الرجل، واتصل بأحد كبار المسؤولين في الداخلية، أظنه وكيل الوزارة، وقال له: عندي طالب مصري أزهري لا يحمل معه تأشيرة دخول، وهو يجادلنا، ويقول: كيف تمنعوني من الصلاة في الأقصى؟ ويبدو أن هذا المسؤول كان رجلا سمحا، فقال له: أعطه تأشيرة.

وأخيرا وصلت إلى (عمّان) واستقبلني الإخوة بها استقبالا طيبا، وحكيت لهم ما وقع لي على الحدود، وحمدوا الله أن ذلل لي العقبات، وكان للإخوان في عمان دعوة علنية لها دورها وشعبها ووضعها القانوني، وكان على رأسهم الحاج عبد اللطيف أبو قورة المراقب العام للإخوان الذي دعاني على وليمة في منزله، ودعا إليها عددا من الإخوان والوجهاء، وكان هو أول مراقب للإخوان في الأردن، ولكن الذي كان يشرف على العمل وينظمه حقيقة الأخ ممدوح كركر، ومعه مجموعة من الإخوة في عمان: ممدوح السرايرة، ومنصور الحياري، ووليد الحاج حسن، وأبو حكمت وغيرهم.

وكانت (عمان) بلدة محدودة جدا، أشبه بقرية كبيرة، وبيوتها متواضعة، وسكانها قليلون، والحركة فيها خفيفة، والنشاط فيها محدود.

وقد رتب لي الإخوة عددا من المحاضرات في عمان، وفي عدد من مدن المملكة الأردنية في الضفة الشرقية، مثل السلط، وقد حضر هذه المحاضرة بعض الشباب الذين أصبحوا قادة بعد ذلك، مثل: د. إسحاق الفرحان، وغيره. وكذلك ألقيت محاضرة في مدينة إربد، التي أقيمت المحاضرة فيها في إحدى دور السينما، وحضرها جمهور غفير، وكان من الحضور الأستاذ محمد عبد الرحمن خليفة الذي كان نائبا للأحكام (من الوظائف القضائية في الدولة) وقال لي الأخ الذي عرفني به فيما بيني وبينه: إنه من الإخوان المهمين، الذين يُرجى أن يكون لهم شأن.

كما لقيت عددا من الشخصيات في عمّان منهم الأستاذ أمين بروسك الزعيم الكردي.

وأذكر من الرجال الذين لقيتهم ممن يُنسب إلى التحرير: الشيخ عبد العزيز الخياط، وقد عاد من القاهرة، وكنت أقرأ له مقالات في (مجلة الإخوان) عن العالم الإسلامي، وإن لم يفصح لي بأنه ينتمي إلى التحرير.

وكان من النشاط الذي شاركت فيه في هذه الفترة: معسكر أقيم للتربية والتدريب في أحد الجبال الغربية من عمان، واشترك فيه عدد من الإخوة من مناطق مختلفة من أنحاء الأردن، وكان الأخ أبو أسامة عبد العزيز علي، المدرب العريق في دعوة الإخوان، الذي تخرج على يديه أجيال، وشارك في معارك شتى من معارك الجهاد، هو الذي يقوم بالتدريب الرياضي العنيف الذي يربي الشباب على الخشونة والتحمل والمخاطرة.

وكنت أقوم بالتوجيه الروحي والثقافي في المعسكر، وأشارك الشباب في تدريباتهم الرياضية.

وبقينا أياما طيبة في ظل هذا المعسكر، ثم انتهى، وعاد الإخوان إلى مدنهم ومناطقهم، حاملين ذكريات طيبة، وربما بعض إصابات في أبدانهم تذكرهم بأبي أسامة ومخاطراته. وأذكر ممن كان معنا في هذا المخيم الأخ عبد الله خليل شبيب الأديب والكاتب الذي ذهب بعد ذلك إلى الكويت، وبقي بها سنوات طويلة.

ثم عدت إلى عمان، لترتيب زيارات إلى مدن الضفة الغربية، ولقاء الإخوان بها خاصة، والمسلمين عامة.

إلى مدينة الخليل.. ومواجهة حزب التحرير

ومن عمّان سافرت إلى (الخليل) المدينة التاريخية التي تحتوي قبر إبراهيم الخليل عليه السلام، وقد سميت باسمه، وقد قال علماؤنا: إنه لا يعرف قبر نبي على التحقيق، إلا قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقبر الخليل إبراهيم، فهو في المدينة المسماة باسمه يقينا، وإن كان موضع قبره غير مستيقن، ولكن توارثه الناس، وقد كان رفيقي في زيارة الخليل أحد أبنائها من زملائنا في الأزهر، وهو الأخ حامد التميمي.

 والخليل مدينة تستريح إليها النفس، وتشعر بها بالعبق الإسلامي أينما ذهبت، وقد تعرفت فيها على عدد من الإخوة الكرام على رأسهم أسرة عبد النبي النتشة:

الحاج عيسى عبد النبي، والدكتور حافظ، والحاج عبد الغني وابنه الحاج صالح، وقد نزلت ضيفا عليهم، ووسعني كرمهم وحسن ضيافتهم، وزرت مصنعهم لتعليب المنتجات الزراعية.

 وهناك الشيخ شكري أبو رجب، والدكتور الزير، والأخ فوزي النتشة الشاعر، الذي زادت صلتي به بعد ذلك، بعد مجيئه إلى قطر مُعَلِّما بها.

 وقد بقيت عدة أيام في الخليل كانت من أكثر الأيام فائدة وبركة، وقد ألقيت أكثر من محاضرة بها، وكان أهم ما وقع لي هو النقاش الحاد مع جماعة (حزب التحرير) وقد كان في بداية نشأته، وفي نشاط وتحرك مستمر، وكان الإخوان في حالة ضعف وخمول، وكان التحريريون في الخليل نشيطين جدا، وكان لهم جملة أفكار جديدة شغلوا بها الإخوان، وكانوا مدربين على الجدل فيها، ولم يكن لدى الإخوان دربة على الجدل في مثلها.

 ولقد لقيت عددا من التحريريين، وجادلتهم في هذه القضايا، مثل قولهم: إن الدعوة التي لا تنتصر بعد ثلاثة وعشرين عاما ـ وبعضهم يقول: ثلاثة عشرة عاما ـ لا بد أن تكون على خطأ، وعليها أن تغير طريقها.

 قلت لهم: ما دليلكم على دعواكم؟

 قالوا: السيرة النبوية.

 قلت: ليس في السيرة دليل على أن هذا أمر لازم، فقد يتحقق الهدف بعد زمن أقل أو أكثر، وفقا للظروف والإمكانات، ووجود العوائق أو عدمها.

 ثم قلت لهم: ما قولكم في سيدنا نوح؟

 قالوا: رسول من أولي العزم من الرسل.

 قلت لهم: كم بقي يبلغ دعوته؟

 قالوا: ألف سنة إلا خمسين عاما.

 قلت: هل حقق هدفه من دعوته؟ فسكتوا.

قلت لهم: أنا أجيبكم من القرآن نفسه:

(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) نوح: 5-7.

وقال تعالى:

(وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ) هود: 40.

حتى إن امرأة نوح لم تؤمن به، وحتى ابنه من صلبه لم يؤمن به، كما صرح بذلك القرآن. هل كان نوح مخطئا في طريقته؟ هل قصّر في تبليغ دعوته؟ كلا. إنه دعا وبلغ وأدى ما عليه، وهو إنما عليه الدعوة، وعلى الله الهداية، عليه البلاغ، وعلى الله الحساب، عليه أن يبذر الحب، ويرجو الثمر من الرب، وهذا هو عمل

الداعية.

وهنا صمت التحريريون، ولم يجدوا جوابا.

وقضية أخرى أثاروها ضد الإخوان، وهي أنهم يشغلون أنفسهم بأعمال هي من صميم أعمال الدولة الإسلامية، مثل الأعمال الخيرية والاجتماعية، من مثل إنشاء المستوصفات والمستشفيات، ودور الأيتام، وأقسام البر والخدمة الاجتماعية، وهذا تخدير للناس عن المطالبة بإقامة الدولة وتنصيب الخليفة، وشغل للناس بالعمل

الخيري عن الدعوة ونشرها.

وكان جوابي عن هذه النقطة يتمثل في عدة أمور:

أولا: أن فعل الخير واجب من واجبات المسلم، وشعبة من شعب وظيفته، فهو مأمور بفعل الخير، كما أنه مأمور بالعبادة والجهاد، كما قال تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ) الحج: 77-78.

ثانيا: أن الفقهاء قد أجمعوا على أن إزالة الضرر عن المسلم، من جوع وعري ومرض وغير ذلك؛ فرض كفاية على الأمة المسلمة، فإذا أهملت الأمة كلها هذه الفريضة الكفائية أثمت جميعا، وفي الحديث: " أطعموا الجائع، وفكوا العاني" وفي الحديث الآخر: "ليس منا من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع" .

ثالثا: أن نشر الدعوة ليس بالكلام وحده، ولا بمجرد تأليف الكتب والرسائل؛ بل يدخل في ذلك الوسائل العملية، التي تحبب الإسلام ودعاته إلى الناس، وهذا ما يستعمله دعاة التنصير، من بناء المستشفيات والمدارس ودور الأيتام والأندية وغيرها، مما يتخذونه وسيلة لكسب قلوب الناس، وضمهم إلى عقيدتهم بعد ذلك.

رابعا: أن للدعوة أهدافا بعيدة مثل إقامة الدولة الإسلامية، وأهدافا قريبة مثل الإسهام الجزئي في إصلاح المجتمع، وهذه الأهداف لا تتعارض. مثل من يزرع النخيل والزيتون، فهو لا يثمر إلا بعد سنوات، ولكن الزارع الموفَّق هو الذي يستفيد من الأرض الفضاء بين الأشجار والنخيل، ليزرعها ببعض الخضراوات السريعة النمو والنافعة، فيستفيد من أرضه، ويستفيد من جهده، ويستفيد من وقته، ولا يقعد عاطلا ومعطلا أرضه حتى يثمر الزيتون أو يثمر النخيل بعد زمن طويل.

خامسا: أن في كل جماعة مستويات متفاوتة من الأفراد وقدراتهم المختلفة، بعضهم يبدع في المجال الفكري، وآخر يبدع في المجال الدعوي، وآخر لا يبدع إلا في المجال الاجتماعي، فلماذا لا توظف طاقات هذا النوع من الناس في خدمة المجتمع، وتخفيف المعاناة عن عباد الله، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن نفَّس عن مؤمن كربة من كربات الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كربات يوم القيامة.

 هذا خلاصة ما رددت به على الإخوة التحريريين الذين جادلوني، وكان منهم الأستاذ أسعد بيوض التميمي خطيب المسجد الأقصى، وقد تخلى عن حزب التحرير بعد ذلك..

بالطبع لم يكن ردي بهذه الألفاظ ولكنها الأفكار الأساسية التي رددت بها عليهم، وكانت حجتي قوية بفضل الله تعالى وتوفيقه، لهذا لم يجدوا ما يقولونه إزاءها.

 وانتعش الإخوان في الخليل واستبشروا، وعلق الأخ فوزي النتشة على هذا النقاش العاصف بقول الشاعر:

 إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر!إلى نابلس وجنين:

 وبعد أن أديت مهمتي في الخليل، كانت وجهتي بعدها ـ وفق الخطة الموضوعة ـ إلى مدينة نابلس، وألقيت فيها محاضرة احتشد لها عدد كبير، ثم دعاني عالمها الفاضل الشيخ مشهور الضامن إلى بيته، وهيأ لنا في اليوم التالي غداء دعا إليه عددا من رجال البلدة وذوي الشأن فيها، ثم التقيت بالإخوة في نابلس لقاء خاصا.

 ثم غادرت نابلس إلى جنين، والتقيت بالإخوان فيها، ورتبوا لي محاضرة في دار الإخوان بها، ومنها وليت وجهي شطر أولى القبلتين، القدس الشريف، فقد طال شوقي إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وكان ينبغي أن أبدأ به، ولكني أسير وفق الترتيب الذي وضعه الإخوان في عمان، فكانت زيارة القدس مسك الختام لمدن الضفة الغربية.

إلى القدس الشريف.. كيف فعلها اليهود؟

سافرت إلى القدس، ونظمت لي محاضرة فيها شهدها جم غفير، وبت بها، وصليت في المسجد الأقصى، لأول مرة في حياتي، كما زرت مسجد قبة الصخرة، وهو تحفة فنية رائعة حقا، وصليت فيه. وزرت رئيس الهيئة العلمية الإسلامية في رحاب المسجد، الشيخ عبد الله غوشة، وسُرّ الرجل بلقائي. كما زرت مسجد عمر بن الخطاب وصليت فيه ركعتين، ثم زرت كنيسة القيامة، وأهم معالم المدينة العربية الإسلامية، ورأيت السلك الشائك الحاجز بين القدسين الشرقية والغربية، ولكن على قرب المسافة بينهما، ما كان أعظم الفرق بينهما في اليقظة والحذر والإعداد والتخطيط للمستقبل؟

 كان أهل القدس الشرقية يمارسون حياتهم العادية، يغدون ويروحون، ويبيعون ويشترون، وهم في غفلة عما يجري من حولهم، وما يدبر لهم من مكايد العدو الذي يحيط بهم إحاطة السوار بالمِعْصَم، وكان أهل القدس الغربية في عمل دائب، وسهر دائم، يواصلون الليل بالنهار، لبناء المستقبل على أنقاض فلسطين والفلسطينيين.

 وكان اليهود المغتصبون للأرض يعملون لأهداف حددوها، في ضوء تخطيط واضح الطريق، بَيِّن المراحل، كانوا يعملون للحاضر مستشرفين المستقبل، وكنا ـ نحن العرب والمسلمين ـ مشغولين بتوافه الأمور عن كبارها، وبأعراضها عن جواهرها، حتى فوجئنا يوما باجتياحنا واغتصاب القدس منا، واحتلالها بجيوشهم، حتى غدونا لا نستطيع أن نقيم صلاتنا في مسجدنا الأقصى إلا بإذن منهم.

 زيارة المخيمات (الكرامة عقبة جبر):

بعد ذلك رتب لي الإخوان زيارة للمخيمات الكبيرة التي تضم اللاجئين الذين فقدوا ديارهم، وأُخرجوا منها بغير حق، وقد زرت من قبل مخيم (الغروب) بجوار الخليل، والآن ننوي زيارة مخيمي عقبة جبر، والكرامة، ولا أذكر أيهما زرته أولا، وأيهما ختمت به، والأرجح أني ختمت بـ (الكرامة) وقد ولد لأحد الإخوة هناك مولود

ذكر سموه (يوسف). وقد لقيني مرة في إحدى رحلاتي الدعوية، وقال لي: أنا يوسف الذي سميت على اسمك حين زرت مخيم الكرامة سنة 1952. ولقد لاحظت ما يعانيه الإخوة اللاجئون، في مأكلهم ومشربهم ومسكنهم وعلاجهم وتعليمهم ورعاية أطفالهم، في هذه المخيمات التي لا توفر الحد الأدنى للعيش الآدمي الكريم الذي يليق بالبشر في عصر يتشدق بحقوق الإنسان.

ولقد خرجت من زيارة هذه المخيمات حاملا أمرين: أولهما: هم ثقيل وقلق شديد لمعاناة هؤلاء الإخوة وعائلاتهم. والثاني: عدوى حُمَّى الملاريا، التي بدأت أشعر بها، ثم اشتدت علي بعد عودتي إلى عمّان، وأصابتني الرعشة الشديدة المصاحبة عادة للملاريا.

العودة إلى عمان ومستشفى. د. ملحس:

وكان لا بد من العودة إلى عمّان، بعد أن طالت الجولة، استعدادا للسفر إلى القاهرة، فقد أوشك العام الدراسي أن يبدأ، وهو العام النهائي لي في كلية أصول الدين، ولكن (الملاريا) حمي وطيسها، واشتدت حرارتها، وهي الحمى التي اشتكى منها أبو الطيب المتنبي حين قال:

وزفـرني كأن بها احتشاما

فـليس تزور إلا في الظلام

بذلت لها المفارش والحشايا

فعافتها وباتت في عظامي!

أحضر الإخوان لي بعض الأطباء ليفحصوني، ويصفوا ماذا يجب أن أتناول من الأدوية التي تبرد حرارة الحمى، ولكن لم يغن ذلك شيئا، فرأى الإخوة جزاهم الله خيرا أن يدخلوني مستشفى خاصا في أحد جبال عمان، اسمه (مستشفى الدكتور ملحس)، وبقيت به نحو أسبوع.

زيارة الشيخ النبهاني:

بقيت في مستشفى ملحس، حتى أبللت (برأت) من مرضي، وقد عادني في المستشفى كثيرون، ولكن أهم من زارني شيخ يلبس جبة وعمامة، أقرب ما تكون إلى عمامة المشايخ المصريين، سألني عن رحلاتي إلى مدن الضفة الغربية والشرقية، وأجبته بأنها كانت طيبة ومفيدة، وأعتقد أنها أفادتني شخصيا، وقديما قالوا: السفر نصف العلم، وأسمعته بعض ما أحفظ في فوائد السفر من الشعر، وتناقشنا مناقشات خفيفة في بعض المسائل العلمية، بما يليق بإنسان على فراش المرض، وفي نهاية الزيارة صافحني الشيخ حفظه الله ولا أذكر هل أنا الذي سألته عن اسمه أو هو الذي بادرني، وقال:

الداعي تقي الدين النبهاني، ورحبت به وشكرته على اهتمامه وزيارته، واعتبرت ذلك فضلا منه، ولعل رجاله رفعوا إليه تقريرا عن هذا الشاب المصري الأزهري الذي غالبهم في مجادلاتهم، فأراد أن يتعرف على شخصي باللقاء المباشر، ولعلها مجرد مجاملة منه، وهي مشكورة على كل حال، وكانت هي المرة الوحيدة التي لقيت فيها الشيخ النبهاني، ولم يتح لي لقاؤه بعد.

 وبعد ذلك خرجت من المستشفى مستعدا للعودة إلى مصر، ولم يكن أمامي إلا السفر بالطائرة، وكانت أول مرة أركب فيها الطائرة، وودعني إخواني وودعتهم، واستودعتهم الله الذي لا تضيع ودائعه، كما دعوا لي أن يزودني الله التقوى، ويهون عليَّ السفر، ويصحبني في الحِل والترحال.