الإمارات (2)

د. عثمان قدري مكانسي

بقلم: د. عثمان قدري مكانسي  

" عجمان "

لئن كان ما بين الشارقة ودبي أقل من خمسة كيلو مترات من المسافة التي كانت فارغة –وقد بنيت اليوم بشكل عصري يبهج المنظر- فليس بين الشارقة وعجمان، وهي إلى الشرق من الشارقة، أي فاصل، إلا الشارع على يمينه دور ومحلات تتبع الشارقة وعلى الطرف المقابل دور ومحلات تتبع عجمان، وتقف سيارة شرطة كل منهما على حدودها لا تتدخل فيما يجري في الطرف الآخر إلا للمساعدة –إن طُلبت- أو للزيارة.. وهذا يذكرنا بأصابع البريطانيين الخبيثة في زرع الفتن والكراهية بين الناس، والحكام.. فهذا لي وهذا لك، ولا تتعد حدودي"وكن مني على حذر" وإياك والاقتراب من عريني.. وما إلى ذلك من خَلْق للضغائن وتثبيت للأنانية، وقضاء على الشعور بالأخوّة.

عجمان شبه منحدر قاعدته على شاطئ الخليج أحد عشر كيلو متراً، وقاعدته الأخرى في الصحراء ثلاثة عشر كيلو متراً وبينهما ضلعان طولهما ستة وعشرون كيلو متراً.. وهذه "المزرعة" الصغيرة تدعى إمارة لها ما للدول الكبرى من حكومة وتوابع وهيكل الدولة..؟!! واقتصادها يقوم على مساعدة الأخت الكبرى لها "أبو ظبي" وما تبيعه من خمور محلية ومستوردة للإمارات الأخرى فهي بحمد الله إمارة ومسلمة اقتصادها حلال..!!

وقد سمح للعرب أن يبنوا جنوب عجمان مدينة "النعيميّة" وأن يتملكوا فيها البيوت والمحلات التجارية، وكانت الشارقة مثلها تسمح للعرب أن يشتروا العمارات والدور، ولكنْ بضغط من حكومة "أبي ظبي" منعتا ذلك، فلا يجوز بعد عام سبعة وتسعين وتسع مئة وألف إلا للإماراتيين أن يتملكوا الأرض وما عليها.. ولا أنسى أن أقول: لم تكن "دبي" تسمح لأهل "أبو ظبي" ولا "أبو ظبي" لأهل "دبي" أن يشتروا الأرض أو العقارات في الإمارة الأخرى، فهل يُسمح للعربي "الوافد" أن يفعل ذلك؟

ونحمد الله تعالى أنهم يسموننا في الإمارات "وافدين" وهي –أي هذه الكلمة- إشعار لنا بالغربة، فلو عشت أيها العربي عقوداً من الزمن في الخليج فأنت غريب.. غريب.. نحمد الله أننا "وافدون" فالسعودية تطلق على العرب والمسلمين القادمين إليها "الأجانب" وهي كلمة أشدّ وطأً من "الوافدين" وأكثر إيلاماً.. وقد كان ما أرادت بريطانيا وأوروبا من زرع الفرقة والتباعد بين المسلمين، والإيهام لكل أهل بلد أن لهم سمات تخالف بعض سمات إخوانهم في البلدان الإسلامية المجاورة، ونجحت في طريقتها "فرّق تَسدْ" في بعثرة الأمة، وإضعافها إلى أزمان، لا يعلم إلا الله متى تعود فيه إلى رشدها.

"أم القيوين"

خامس الإمارات من حيث الترتيب الجغرافي إلى الشرق الجنوبي من عجمان، وهي أصغر منها عدد سكان، فما كان أهلها الأصليون يتجاوزون سبعة آلاف نسمة.. ومساحتها أكبر من مساحة عجمان، وتقع على رأس يحيط به الخليج وبحيرة كبيرة تكاد تكون مستديرة الشكل تبهج الناظرين، أكثر سكانها صيادون، وأميرها الضاحك دائماً لا يفارق رئيس الدولة في الحل والترحال، وحسب التعداد السكاني لعام ستة وثمانين وتسع مئة وألف كان عدد الناس من كل الأعراق مليوناً وست مئة ألف 18% ثمان عشرة بالمئة منهم مواطنون ومتجنّسون وأكثر هؤلاء المتجنسين من إيران "بلوشستان" ومن الهند وأغلب المواطنين يتكلمون "الأوردو" لغة الهند والباكستان.

أما الهنود فذكرت الإحصائية أنهم 36% ستة وثلاثون بالمئة، والباكستانيون 26% ستة وعشرون بالمئة، وهذا بعني أن 75% خمسة وسبعين بالمئة من سكان الإمارات يتحدثون الأوردو، فلما جاءت "أنديرا غاندي" رئيسة وزراء الهند إلى دولة الإمارات، واستقبلها الهنود قالت: أشعر أنني في إحدى ولايات الهند، واقترح أحدهم تسمية جديدة لدولة الإمارات فقال: "دولة الإمارات الهندية المتحدة" ولعل في هذه التسمية كثيراً من الحق.. فنسبة من يتكلم العربية في الإمارات نفسها لا تتجاوز 30% الثلاثين في المئة.

- وسباق "الهجن" مواسمه كثيرة في كل إمارة، ويصرف على هذه المهرجانات أموال طائلة جعلت المدرسين الاتحاديين بين عام اثنين وثمانين وستة وثمانين يتمنّون أن يعملوا مروّضين للإبل لا مربّين للأولاد، فقد كانت الرواتب تتأخر في هذه الأعوام كثيراً، وضج الموظفون الاتحاديون، وأذكر أننا عام ستة وثمانين أخذنا راتب شهر تشرين الأول في نهاية تشرين الثاني، وقد قلت والمرارة تملأ نفسي ساخراً مما يجري بعد أن علت الهمسات، وبدا التساؤل واضحاً عن التبذير في الصرف على "الهجن" والتأخير عن مربي الأجيال:

راتب الشـهر تولّـى       صرفُه للهجـن أولى

أو لتجـديـف ولهـوٍ      طعمُه أنقـى وأحلـى

أو لخـيـلٍ وسـباقٍ       أو لهزِّ الخصر أهـلا

لا تظنّوا أجـركم  يأ        تي إليكم ! ألف كـلاّ

هـذه أحـلامُ غُفـلٍ        ترتجي أشياءَ جُلّـى!

كلَّ شهر ترتجون الرّ       اتب الطيّـار؟ مهـلا

فكّروا في غير هـذا        لا تعيشوا الدهر جهلا

"رأس الخيمة"

سادس الإمارات شرقاً بعد أم القيوين، والمسافة بينها وبين الشارقة حوالي ثمانين كيلو متر، تمتاز أرضها أنها ترابية، والزراعة فيها متقدّمة نوعاً ما وأمراؤها وأمراء الشارقة من عشائر "القاسميّة" المعروفة بجهادها القديم ضد البرتغاليين والإنجليز، وعلاقة حكامهما متميزة، والتمسك بالدين في هاتين الإمارتين أربى من غيرهما..

ورأس الخيمة يقسمها خور بحري إلى قسمين جديدهما إلى الشرق على حدود عُمان "الهرمزية" فرأس هرمز على فم الخليج يتبع عُمان، وهذه المنطقة من عُمان يفصل بينها وبين الدولة الأم رأس الخيمة "وخورفكان" وهي تابعة للشارقة ثم إمارة الفجيرة.

وهذا التداخل بين الإمارات وعمان كثير، صنعه الإنجليز حتى يظلوا المرجع لنزاعات هذه الإمارات.

وكانت الإمارات تسمى في أوائل القرن العشرين "المشيخات المتصارعة" ثم صار اسمها "المشيخات المتهادنة" ثم "المشيخات المتصالحة" ثم "الإمارات العربية المتحدة".

ففي منطقة "الردّة" دبا حيث حروب الردّة بين جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وبين مسيلمة الكذاب، نجد سهلاً تتقاسمه دولة عمان وإمارة الفجيرة وإمارة الشارقة، وحين تذهب إلى "العين" وهي مدينة تابعة لإمارة أبي ظبي من طريق دبي تدخل عدة كيلو مترات في ولاية "البريمي" التابعة لعمان، وتجد بين "خورفكان" و"الفجيرة" قرية تابعة لعمان، ناهيك عن تداخل القرى والأفلاج بين مجموع الإمارات وكل واحدة تتبع إمارة أخرى.. وتعارف الناس على هذا ورضي كل أمير بقسمته، وقد تطفو على السطح فيها بعض النزاعات غير المؤثرة في الحياة اليومية كثيراً.

فإذا ما انطلقت من الشارقة جنوباً خمسين كيلو متراً مررت على مطار الشارقة وبعض المتنزهات الجميلة لهذه الإمارة، فوصلت إلى بلدة "الذيد" التابعة للشارقة، وهي واحة عذبة المياه كثيرة المزارع طيبة الهواء، بدأت المدينة تغلّفها من نواحيها كلها، وإلى شرقها الشمالي "فلج المعلا" التابعة لأم القيوين، وهي امتداد لواحة الذيد، بدأت كذلك الحضارة تدخلها فإذا انطلقت إلى الشرق الجنوبي باتجاه الفجيرة وصلت بعد أربعة عشر كيلو متر إلى منطقة تابعة للفجيرة تدعى "السيجي" وما أدراك ما السيجي؟! قبل الدخول إليها تتوقف الصحراء وتبدو الأرض ترابية تمتزج ببعض الصخور، فيها وادٍ تملؤه المياه حين تكثر الأمطار، فيجري نهيراً جميلاً عذباً رقراقاً.. وفي قرية السيجي سدّ صغير في فم الوادي يحبس الماء فيكون وراءه بركة عمقها يزيد على ثلاثة أمتار ومساحتها حوالي أربعة دونمات، ثم تنزل المياه على شكل شلال، فيملأ الحفر الطبيعية بين الصخور، فتكون بِركاً صغيرة يسبح فيها الصغار والكبار ثم تستوي الأرض في وادٍ –كما ذكرت- تستفيد المزارع حوله من مائه، وكثيراً ما كنا نذهب والمطر منهمر إلى السيجي لنجلس في السيارة مطلين على السدّ والشلال والبرك، وقد نذهب في اليوم التالي بعد الدوام المدرسي لننعم بالغداء هناك بجمال الطبيعة الغنّاء.

فإذا انطلقنا إلى الشرق كان الوادي رفيقنا، وكثيراً ما ننزل فيه، فنشوي اللحم ونخوض في مياهه فيأسرنا إلى الليل فنعود أدراجنا إلى الشارقة، وقد نغالب أسره، فنصل إلى الفجيرة.

ذكّرني هذا الوادي الجميل ذو الأثر الطيب في نفوسنا ودعوته إيانا للنزول فيه بقصيدة أبي الطيب المتنبي يصف "شعب بَوّان" فيها وجذبَه الفرسان وخيلَهم بجماله وطيب هوائه وكثرة مائه وشجره:

مغاني الشعب طيباً في المغاني     بمنزلـة الربيـع من الزمـان

طبت فرساننا والخـيلَ حتـى     خشيتُ، وإن كَرُمن من الحران

"الفجيرة"

هي الإمارة السابعة على بحر العرب يحدّها من الجنوب سلطنة عُمان، ومن الشمال مدينة خورفكان، وهي ثغر الإمارات الأول على هذا البحر، هواؤها حار، وحرارتها جافة، تعتبر من أفقر الإمارات لكنها في الآونة الأخيرة تحسنت تحسناً ملحوظاً كجارتها خورفكان، اتصلت ببلدة تابعة للشارقة في الشرق "كلباء" ثم عمان، وكان سبب تحسنها حرب العراق الأولى فهي بعيدة عن الخليج، وليست عرضة لصواريخ العراق -إذ ذاك- كما هي أبو ظبي ودبي والشارقة، فإذا سرنا نحو الشمال عشرين كيلو متر وجدنا مدينة "خورفكان" وسميت كذلك لأن البحر دخل فيها خليجاً يحده من طرفيه رأسان من اليابسة، فكأنهما فكّان والخليج تجويف الفم.. والمسافة بين هذه المدينة والشارقة مئة وعشرون كيلو متر يستغرق ذهابنا إليها ساعتين تقريباً وكنت أمازح زوجتي فأقول لها لو كانت هذه المدينة خور فك واحداً لذهبنا إليها في ساعة واحدة، ولكنها "خورفكان".

"العين"

واحة في صحراء إمارة "أبي ظبي" تبعد عنها مئة وخمسين كيلو متر، وعن دبي مئة وسبعين، كان الطريق إليها في الثمانينات من دبي مزعجاً لكنه في التسعينات صار عريضاً ومريحاً، والاستراحات على الجانبين جيدة، دورها صحراوية واسعة الفناء، شوارعها كلها مزدوجة عريضة، على أطرافها الأشجار الباسقة، والرياض الغنّاء، وقصور أمرائها كثيرة فخمة وأحياؤها نظيفة مريحة تسرّ العين لأنها العين، وتبهج الفؤاد. كلما زرناها شعرنا بالهدوء والراحة والجمال، تقل الرطوبة فيها على عكس المدن الأخرى، وتشتد حرارتها في النهار بسبب الصحراء وتعتدل في النصف الثاني منه وفي الليل.

فيها حديقة للحيوانات ومتنزه كبير يقضي أحدنا نهاره كله فيه مستروحاً، وفيها متنزه "العين الفايضة" واستراحتها، وهي ماء عذبة أقيم عليها بركة كبيرة، وشقق مفروشة، يقصدها الناس أيام العطل والأعياد من كل أنحاء الدولة، فيستمتعون بجوها وخضرتها، وإلى الغرب منها جبل "حفيت" العالي شقت الطرقات فيه، وجُهزت الاستراحات، فإذا صعدت إليه في النهار –في شدة الحر- داعبتك النسمات الباردة، وصافحتك لطافتها، فمسحت العرق ولبست شيئاً يشعرك بالدفء، ثم نظرت من بعيد إلى العين وبدأت تترنّم وتغني ثم تسبح الله تعالى في بديع صنعه.

كنا نقطع المسافة بين الشارقة والعين الفايضة، وهي قريب المئتين من الكيلو مترات ذهاباً ومثلها إياباً في الأيام العادية، فنصل العصر ونتغدى في هذا المتنزه –على أن يكون ذلك في الليالي المقمرة- ثم نرتقي جبل حفيت، فنطل على الكون من حولنا بضع ساعات لنعود في النصف الثاني من الليل دون تعب أو ملل لنصحو مبكرين إلى صلاة الفجر ثم إلى المدرسة، وكنا إذ ذاك شابين، رحم الله أيام الشباب:

ألا ليت الشباب يعود يوماً    فأخبره بما فعل المشيب

لقد فعل فعلته فصرنا كهلين بل قريب الستين، ولا تقل:

ليتَ، وهل ينفعُ شيئاً ليت   ليتَ شباباً بيع فاشتريت

لماذا؟ طبعاً لا تقلها فلكل عمر لذته "وما له بداية له نهاية" أما "مسافي" وهي تابعة للفجيرة بعد "الذيد" ويتفرع عنها طريقان أحدهما لليمين إلى الفجيرة، والثاني لليسار إلى دبا ، فجبالها شامخة، ووديانها تجري فيها الجداول وتسكنها الحيوانات الأهلية والضارية، أطللنا عليها كثيراً فهي على إيحاشها رفيق الرومانسيين.. ونحن كذلك.

"أبو ظبي"

أما العاصمة الاتحادية، فحدّث ولا حرج.. مدينة صَرَف على رفع مستواها المعماري حاكمها، فجعلها رائعة البنيان، تسامق السماء، وتطاول السحاب، هي جزيرة موصولة باليابسة بجسر صناعي تنظيمها يأخذ بالألباب، تكثر فيها الحدائق الكبيرة الغنّاء، وشوارعها مزدوجة عريضة يفصل بين طرفي الشارع جزيرة خضراء، فيها فنادق ضخمة من الدرجات الأولى ذوات النجوم الكثيرة، شاطئها من أقصاه إلى أقصاه بساط أخضر واستراحات فخمة، أما كاسر الأمواج الضخم الممتد حول الجزيرة فهو صرح رائع كلّف الإمارة مئات الملايين من الدراهم ليبدو معلماً حضارياً يقصده الزوّار من كل مكان، وتطل منه على أبي ظبي بأنوارها الكثيرة اللامعة.

هذا من الناحية الإيجابية، أما إذا عدنا إلى قوله تعالى: "إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" فإننا نجد مصداق ذلك في مناحي الحياة جلّها من فنادق تستقطب العاهرين والعاهرات، وكثرة الخمور، وأماكن البغاء، وصالات القمار، والمهرجانات المتتابعة على مدار السنة، التي تعكس الفراغ الديني والنفسي، وأبو ظبي في سباق محموم مع دبي في استقدام العروض الفنية والمياعة الخلقية، ويتبدّى أمام كل مؤمن نهاية لا تسرّ الفؤاد لكل المترفين، حين يتلو قوله تعالى:

 "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحقّ عليها القول، فدمرناها تدميرا".

ندعو الله سبحانه وتعالى أن يردهم إلى دينه رداّ جميلاً، وأن يدلهم على الخير، ويرأف بهم، فما نريد لإخواننا أهل الإمارات ولغيرهم من المسلمين سوى الأمن والأمان والحياة النظيفة الشريفة في ظل شرع الله تعالى.

"أمر عجيب"

قدمت مرة من أم القيوين وكنت في زيارة للأستاذ الفاضل ذياب القدومي المدرس فيها، عائداً إلى بيتي في الشارقة، ودخلت عجمان حتى وصلت إلى الدوّار قرب جامعة عجمان التكنولوجية، فأذّن للعصر فدخلت مسجد الجامعة، ولما انتهت الصلاة اتجهت نحو الباب، ومما لفت نظري أن شاباً عملاقاً ذا لحية لطيفة كان ينظر إليّ نظرات حسبتها فضولية، ولم أعرفه، فسلمت عليه قائلاً في نفسي لعله ينتظر أحد المصلين من إخوانه أو رفاقه الطلاب فردّ السلام، ولما خرجت من الباب رأيته يناديني باسمي: أستاذ عثمان.. أنا أنتظرك، فلم تجاهلتني؟

قلت: ومَنْ أنت يا ولدي؟ وأنّى لي أن أعرفك حتى أتجاهلك؟

قال: أنا أحد تلاميذك في ثانوية دبي يا أستاذي.

نظرت إليه متعجباً ثم قلت له مبتسماً: لا أتذكر أن أحد تلاميذي بطول خشبة الكهرباء.

ضحك الشاب وقال: هذه عادتك يا أستاذي، لم تغيّرها، تدخل إلى القلوب بأسلوبك الفكاهي المتميز.

قلت: أمتأكد أنك أحد تلاميذي؟ كيف كنت تدخل بين الكرسي والطاولة في الصف؟

ضحك الشاب وقال: لن أذكر اسمي لأنك ستعرفه لو نبهتك إلى جملة كنت تقولها لي.

قلت: هات يا ولدي.. وما أظنني أتذكر فأنا كثير النسيان.

قال: لا.. إنك تعرفني جيداً يا أستاذ.. كنت تقول لي: إن اسمك يا ولدي لا يسمي المسلمون أولادهم به في بلاد الشام، فهو خاص بالنصارى، وكنت تقول أيضاً: إنك التلميذ الليبي الوحيد الذي تتلمذ على يديك..

فتحت له ذراعي وقلبي بآن واحد، وقلت له: أهلاً يا وليد إلياس.. انزل قليلاً حتى أقبّل وجنتيك، وأضمك إلى صدري.. كم أنا مشتاق إليك.. كيف غبت عني فلم أعرفك.. حجبك هذا الطول المفرط وهذه اللحية المحببة، والشباب الناهد، حفظك الله يا ولدي.

قال والابتسامة تملأ فمه، ووجهه يشرق بالإيمان:

ـ  أتذكر يا أستاذي ما كنت تغرسه فينا من معاني الإيمان ، وأفكار التوحيد؟ أتذكر قصصك الهادفة والأفكار الإسلامية التي غذّيتنا بها؟ لقد نما غرسك يا أستاذي وجاء من يقطف ثمرته، فالفضل لله سبحانه في السير على درب الهداية ثم إليك.. لقد كان كلامك نوراً أضاء لي ولكثير من زملائي في الصف فجزاك الله خيراً عنّا.. وأجزل لك المثوبة.

كانت الدموع تتساقط بغزارة، وأنا الذي لم تعتد عيناه الدموع إلا وحيداً كما تساقطت وأنا أسترجع ما قاله لي وأسطر مقاله على هذه الصفحة، وكان قلبي كما هو الآن ينبض بشدة، يا الله إن عملنا معشر المعلمين عمل الأنبياء والمرسلين، اللهم اجعله في صحائف أعمالي..

ودّعت الشاب على لقاء قريب يشاؤه الله تعالى ونحدده نحن مع بعض رفاقه الشباب، وانطلقت إلى الشارقة عن طريق "النعيمية" كان الطريق أمام الجامعة عريضاً مزدوجاً، فما إن انعطفت يميناً في شارع واحد ذي اتجاهين حتى كنت أسير بسرعة ستين كيلو متر في الساعة، وعلى اليسار من الشارع، وسيارة تقترب مني مسرعة أكثر من سيارتي.. لم أنتبه إلا والمسافة بيننا لا تتجاوز الخمسين متراً، وسيكون الاصطدام مروّعاً بقوة مئة وخمسين كيلو متر في الساعة، يا الله يا رب.. وحاولت كبح السيارة وكبح الرجل اندفاع سيارته، ثم توقفنا وجهاً لوجه.. اصطدم قلبي بقلبه وارتعش جسمي وارتعش جسمه، لكن السيارتين لم تصطدما، ولم تهتزا.. نزلت من السيارة لأرى المسافة المتبقية بينهما..

أتدري أخي القارئ كم كانت؟ لن تصدق إذا قلت لك، كاد صدّاما السيارتين يلتصقان، بل إنهما ملتصقان، فلم أستطع رؤية الأرض بينهما وسجدت لله سبحانه هو الحفيظ الرؤوف، البر الرحيم.. يا رب لك الحمد، وأنت وليي في الدنيا والآخرة.. ما أعظمك وما أرحمك بعبادك..