الإمارات (1)

د. عثمان قدري مكانسي

بقلم: د. عثمان قدري مكانسي

مساء العشرين من أيلول عام اثنين وثمانين وتسع مئة وألف ودعت الوالدين رحمهما الله تعالى في بيتهما وانطلقنا أنا وزوجتي إلى مطار عمان في بلدة (ماركا) وانتظمنا في الصف المؤدي إلى إجراءات السفر والتأكد من صلاحية التذاكر ووزن الأمتعة.. وجاء دورنا, فقدمت إليه البطاقتين إلى دبي ودفعت المتاع إلى الوزن, وكانت الأمتعة كثيرة فنحن مسافران من الأردن نهائياً - كما كنا نظن فهي ليست بلدنا وإن احتضنتنا أكثر من سنتين ونحن، كما كنا نظن، عائدون إلى سورية إن عاجلاً أو آجلاً. و(آجلاً) هذه ما كنا نتخيل أنها ستطول ثلاثة عقود تقريباً . وعلى هذا فالوزن زاد خمسين كيلو جراماً عن الأربعين المجانية, وقد ندفع للوزن مبلغاً يتجاوز خمس مئة دولار, كل هذا كان في الحسبان, أما ما كان من تقدير الله تعالى فقد كان لصالحنا دون أن ندري ولو خططنا له لما كان أفضل مما حصل..

قال الموظف: ليست عندكم OK.

قلت: وكيف؟ هاتان البطاقتان فيهما ذلك.

قال: كان يجب أن تثبتا الحجز قبل السفر بيومين.

قلت: والآن ماذا نفعل؟ وأمتعتنا معنا وقد ودعنا الأهل والأصدقاء؟!

قال: تذهبان إلى أقرب مركز تابع لشركة طيران عالية, فتثبتان الحجز في أول طائرة متجهة إلى دبي, وسيكون حظكما رائعاً إن وجدتما مكانين, فهذه أيام العودة إلى الخليج, وقلَّ أن يجد أحدهم مكاناً في الوقت الذي يريد..

نظر أحدنا إلى الآخر محوقلاً، مسترجعاً. لقد تركنا بيتنا وسلّمنا مفتاحه لصاحبه وسنعود لنبقى في بيت الوالدين.

قال أحد العاملين:

- انتظرا قليلاً, فقد يتأخر بعض المسافرين فتأخذان كرسيين ولا تبتعدا عن المكان..

وبعد قليل سمعنا من يقول:

- النداء الأخير إلى المسافرين على خطوط الملكية الأردنية (عالية) التوجه فوراً إلى القاعة…

وجاء أحد الموظفين مسرعاً يقول لمسؤوله:

- هناك عشرة أماكن, أرجو الإسراع..

طلب إلينا الموظف، وكنا سبعة، أن نعطيه البطاقات وجوازات السفر وحملنا الأمتعة فدفعناها إلى الوزن -دون أن توزن- فهم مسرعون.. وهكذا.. كنا على متن الطائرة بعد أقل من نصف الساعة, وأخذنا مكاننا بين المسافرين ووفروا علينا مبلغ خمس مئة دولار.. كنا سندفعها لو أننا ثبتنا الحجز قبل يومين من السفر.. وأقلعت الطائرة نحو المجهول.. وسلمنا أمرنا إلى الله تعالى..

الإمارات في اليوم الأول

وصلت الطائرة إلى مطار دبي قبل الفجر من يوم الجمعة بساعتين تقريباً وفتح باب الطائرة, وبدأ الناس يخرجون منها, وحين وصلت إلى الباب وصرت أمامه عدت فجأة خطوة إلى الخلف فقد لفحني الهواء الحار المبلل وظننت نفسي داخلاً إلى حمام شامي - لقد كانت درجة الحرارة مرتفعة ويزيدها حرارة أن نسبة الرطوبة فيها عالية.. هذا الجو عايشناه ستة عشر عاماً فأنسانا - تقريباً - جو الشام الرائع حتى عدنا إليه.

واستقبلنا مندوبان عن وزارة التربية الإماراتية.. كنا حوالي اثني عشر مدرساً ومدرسة, وركبنا باصاً صغيراً، كانوا يريدون استضافتنا في مسكن للمدرسات العزباوات أو اللواتي جئن دون أزواجهن, إحدى المدرسات اللواتي كن يعملن مع زوجتي في كلية المجتمع الإسلامي في الزرقاء لحقت بزوجها في الإمارات قبل أشهر من سفرنا أعطتها رقم الهاتف وطلبت إليها بإلحاح -لأنها صديقتها- أن ننزل عندهما في الأيام الأولى من مجيئنا وذكرت أنهما يسكنان في عجمان, وكان زوجها عبد الله الخطيب مدرساً للتربية الإسلامية في عجمان نفسها, وارتقى موجهاً للمادة نفسها قبل أن نترك الإمارات عائدين إلى الأردن بعد ستة عشر عاماً من ذهابنا إليها.

قلت للمندوب، وكان فلسطينياً مثل صاحبنا الخطيب:

- أتعرف الأستاذ عبد الله الخطيب في عجمان؟

قال هو صاحبي.

قلنا: خذنا إلى بيته, جزاك الله خيراً.

قال برحابة صدر: كما تشاءان..

وانطلق الباص يحملنا جميعاً، وأنزل بعض الزملاء في مساكن قريبة من أماكن عملهم وأوصلنا إلى عجمان.. إلى بيت الأستاذ عبد الله..

وطرقنا الباب قائلين: إنه قد أذن للفجر أو كاد ولا بد أن هذا الأخ يجهز نفسه لصلاة الفجر, فلن نكون ثقلاء حين نطرق بابه..

لم يفتح الباب لأن الرجل وأسرته ذهبوا في عطلة نهاية الأسبوع إلى الفجيرة في زيارة أخته هناك.

هذا ما قاله الأستاذ الحموي أحمد منصور مدرس اللغة العربية, جاره، حين رنَّ جرس البيت كثيراً.. كان المندوب معنا فقال: آخذكما إلى بيتي أو إلى أحد المساكن - كما تشاءان..

فقلنا له: بل خذنا إلى أقرب مسجد كبير في البلدة..

وهكذا كان ففي مدخل مدينة عجمان وعلى بعد مئات الأمتار على اليمين بناءان كبيران في ذلك الوقت كل منهما يحوي ثمانية طوابق, في كل طابق أربع شقق وأمامهما مسجد كبير, بناهما والمسجد ثري من الكويت لقبه (الحساوي) وله في الشارقة برج عال كان يعد أعلى بناء فيها, ارتفاعه سبعة عشر طابقاً (دوراً).

دخلنا المسجد, ووضعنا الحقائب في مدخله, وكان المصلون يتقاطرون إلى محرابه, وكان دخول زوجتي - صلاة الفجر - خارجاً عن المألوف, فقد كانت النساء يصلين الفجر خاصة في بيوتهن, فرأيت نظرات المصلين ترسم علامات الاستفهام والتعجب إذ رأوها تتجه إلى خلف صفوفهم في الزاوية البعيدة ذات الضوء الخافت, وخطوت إلى الصف الثالث فصليت تحية المسجد وسنة الفجر, ثم جاءت عيناي في وجوه المصلين تبحث عن وجه شامي ترتاحان إليه.. ورأيته فقد كان دمشقياً في الأربعين من عمره لطيف النظر حيي المنظر, تقدمت إليه, وعرفته بنفسي وسألته إن كان بين المصلين حلبي يعرفني عليه فأمضي الليلة عنده.. ابتسم وابتسمت بدوري ثم أقيمت الصلاة, فأديناها ثم صحبنا الرجل إلى شقته وحمل معي الحقائب، وكان بيته في أحد البناءين المقابلين للمسجد.

كانت زوجته مثله لطفاً وأخلاقاً فاستقبلت أم حسان كعادة "الشوام" الدمشقيين، وقدما لنا شيئاً من خفيف الطعام ثم قادانا إلى غرفة صغيرة نظيفة سرعان ما استلقينا على فراش مُعد نظيف وغططنا في سبات عميق.

بعد ثلاث ساعات سمعنا طرقاً على الباب، وصوتاً نسائياً عرفنا فيه صاحبة البيت التي قدمت لزوجتي إفطاراً أقل ما يوصف أنه يدل على ذوق وفهم، ثم عدنا إلى النوم لنصحو على صوت الرجل يدعوني إلى صلاة الجمعة، فتوضأت ونزلت معه.. ما أجمل أن يكون المسجد على خطوات من البيت!!

كان الخطيب حَموياً اسمه إبراهيم اليوسف، وكانت خطبته نارية كال فيها للنظام السوري من الهجاء وهاجمه فيها هجوماً عنيفاً، وهذا الرجل كان يظن أن أيام البعث قاربت على الانتهاء فركب موجة المعارضة الإسلامية، فلما طال الأمر عليه زار السفير السوري في الإمارات واعتذر عما بدر من "سوء أدبه" وزعم أنه رأى حافظ الأسد في المنام يدعوه إليه، إلى الحق والهدى!! وتاب عن دينه وخلقه وأناب إلى النظام وتاب ونزل إلى دمشق معززاً مكرّماً يلهج بالثناء ويكيل المديح لمن ذبح من أبناء مدينته فقط أكثر من ثلاثين ألفاً على رواية "باتريك سِلْ" خمسة وأربعين ألفاً منهم.. ويوم القيامة قريب لذوي الأبصار والعقول: "إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً".

وعدنا إلى بيت الرجل، وأنا أفكر أن أعتذر إليه بعد الغداء، وأطلب منه أن يوصلنا إلى أقرب فندق، فقد أخجلني كرمه ولطفه، وما إن استقرّ بنا المقام حتى قرع جرس البيت وكانت المفاجأة السارّة التي ردّت إليّ روحي، وملأت بالبشر جوانحي.. لقد دخل الأخ الحبيب وليد الحجار "أبو بكري" ولم أكن رأيته منذ اثني عشر عاماً، أو يزيد، فقد كنا في جامعة حلب، هو في العلوم السياسية والإدارية، وأنا في الآداب وكان عناق وشوق وسلام حار، يقول مضيفنا:

- من رأى أحبابه نسي أصحابه.

قلت صادقاً: لا أنسى –والله- فضلك، فقد غمرتني به وأحطتني وقت الحاجة بالأخوّة، وهيأت لي أسباب الراحة، فأنا وزوجتي مدينان لأسرتك مقرّان بشمائلكم السامية إلى يوم لذيذ، فجزاكم الله كل خير، وحباكم وافر الأجر.

وانتقلنا بعد الغداء إلى الطابق الرابع.. إلى دار أبي بكري، فتمم وزوجته الفضل الذي بدأه صاحبنا الدمشقي، وأبيا إلا أن نمكث عندهما إلى أن نستلم العمل الذي جئنا به.

حين كلمنا الوالدين في عمان أخبرناهما أننا في الإمارات نفتح نوافذ الغرف كي يدخل الهواء الساخن فينعش النفوس.. والعادة في بلاد الشام وغيرها من البلدان المعتدلة أن الإنسان يفتح النوافذ لتدخل النسائم الباردة اللطيفة في الصيف إلى الغرف فتدغدغه وتبعث لشديد البرودة في أعطافه وتخفف من الجو القاتم فيها. أما عند أبي بكري والهواء البارد المنبعث من المكيفات المركزية يقرص الأجسام فنضطر إلى فتح النوافذ قليلاً للهواء الرطب الحار فنوازن الحرارة ونجعلها معتدلة..

قضينا عند الأخ وليد أسبوعين ثم أصرّ الأخ أبو مجاهد أن ننتقل إليه، فأجبنا طلبه، وكي لا نثقل على الأخ وليد.. فمن أبو مجاهد؟

أخ حلبي من دار الأصيل اسمه زهير، كان في الصف الثالث الابتدائي في مدرسة العرفان في سوق المحمص قرب مسجد بني أمية الكبير في حلب، حين كنت وأخوه منذر في الصف الرابع ونجلس معاً في مقعد كبير واحد، وعلى الرغم من أنه أصغر منا كان أطول قليلاً، وكثير الحركة، يسابق هذا ويصارع هذا، وكان ما يزال لطيف المعشر حلو الحديث، دائم البسمة، كريم الطباع، جميل الصورة والصوت وما أكثر الأمسيات التي تعد بالمئات قضيناها في ربوع الإمارات نستمع إلى "مواويله" وأناشيده يؤديها بإتقان، فتهتز نفوسنا طرباً وأرواحنا نشوة.. مكثنا عنده أسبوعين آخرين إلى أن التحقت أم حسان بإعدادية الشارقة وعينت في إعدادية "السعيدية" في دبي.. واستأجرنا شقة في الشارقة قريبة من مدرستها ست عشرة سنة.. منذ قدمنا الإمارات إلى أن غادرناها.

دبي

فما دبي؟.. صدق من سماها لؤلؤة الخليج..

تقسم الإمارات العربية المتحدة إلى سبع هي على التوالي من الغرب إلى الشرق: أبو ظبي، دبي، الشارقة، عجمان، أم القيوين، رأس الخيمة، الفجيرة.

وإمارة أبو ظبي- العمود الفقري لهذه الدولة- تحتل –تقريباً- خمسة أسداس مساحة الدولة، والسدس الباقي للإمارات الست مجتمعة.

تأتي بعدها في المكانة والترتيب إلى الشرق: دبي.. وهي مدينة ساحلية على الخليج، كانت فيما مضى شرق خور دبي، بينه وبين الشارقة ويسمى "الديرة" وهو أصل دبي، فلما اتسع العمران وكبرت المدينة تجاوزت الخور إلى الغرب، فكان هذا القسم أكبر وأرحب وأنشئ بشكل عصري يأخذ بالألباب وسمي "البرّ".

والقائمون على هذه المدينة –شيوخها وحكامها- أكثر انفتاحاً من غيرهم على الحضارة والمدنيّة، يسايرونها ويسرعون في تجميلها والاعتناء بها، وجعلها إمارة عصرية وسوقاً عالمياً للتجارة.. اعتمدت على البترول في نهضتها التجارية، إلا أنها تتجه أن تكون "هونج كونج" الشرق الأوسط فهي تستقطب الشركات العالمية، والمؤسسات الضخمة في ميناء "جبل علي" وكل مناحي الإمارة.

شوارعها عريضة، وأبنيتها ضخمة متناسقة، تتفنّن في أشكالها، حدائقها كثيرة وكبيرة ومجهزة بما يريح القاصدين ويمتع المتنزهين ويستجلبهم من الإمارات الأخرى والبلدان القريبة والبعيدة، فهي تستقطب الزائرين في مهرجاناتها الشتوية والصيفية على حد سواء.

وعلى الرغم من أنها مدينة تستهوي النفوس والمشاعر، قامت السياحة فيها على تيسير كل السبل للقادمين من فساد أخلاقي مقنّن ودينيّ متعمّد قائم على الاقتصاد الربوي والميوعة والانحلال والسقوط الذريع في عفن المادية.

ولعل القصيدة التالية التي ألقيتُها في أحد الاحتفالات باليوبيل الفضي لاتحاد الإمارات ينبئ عن مرارة في القلب فارت وآهات في الفؤاد ثارت، لم أستطع كبتها فكانت من أسباب انتهاء العمل والخروج من الإمارات..

قلت هذه القصيدة بعنوان: "إلى الأحباب"

كنتُ قد زوّيتُ في نفسي كلاماً عاطفيا

كي أجاري الصحب شعراً، يعبقُ الأنفاس ريّا

أسأل الله لإخواني.. صفاءً أبديّا

في الإمارات وفضلاً من عطاياه نديّا

ثم أمضي.. قد زعمتُ أنني قدّمت شيّا

أو يقول الناس: إني شاعر طلق المحيّا

عاش دهراً بين قومٍ فانبرى فيهم وحيّا

كان ذوقاً منه أن يُهدي وشاحاً سندسيا

ثم قلت: الفرحُ فرحي، كلّنا مني إليّا

إن يكونوا من دبي.. أو أكنّى حلبيا

فالإمارات بلادي.. حبها فرضٌ عليّا

عشت فيها خير أيامي شباباً حيَويّا

نلتُ فيها الأمن، والأنس، وقد كان عصيّا

نلت فيها الراحة الكبرى، وقد عشتُ هنيّا

فالهوى يطلب مني نصحَهم نصحاً رضيّا

ليس فيه من مراءٍ، لا أحابيهم دجيّا

إنما فيه وداد خالص ينمو زكيّا

أسّه "التقوى" وقد أفلح من كان تقيّا

*  *  *

هل من "التقوى" اقتصادٌ قد تفشى ربويّا

يغضب المولى، فيودي من تعاطاه صِليّا

هل من "التقوى" اهتمام صارخ يبدو جليّا؟!

بالأغاني مائعاتٍ، قد ملأن الجو غيّا

والصبايا مائلات، والخنا يهوي دَنيّا؟

فانزوى الطهر حزيناً، واختفى الدين حييّا

هل من "التقوى" شيوعُ للهوى دوّى دويّا

وانفلاتٌ من عرى الأخلاق ينساحُ عتيّا؟

يجعل الشبّان بالإفساد.. مسخاً آدميّا؟!

لا إلى الإسلام يُنمى، بل هجيناً أمميّا

*  *  *

وحدة قامت على الأخلاق أولى أن تَزيّا

بالهدى يرفع ذكراً، والضّيا يسمو عَليّا

ثم شرع الله، يحيا الشعب فيه عبقريّا

*  *  *

أفلح الإنسان لما كان لله "تقيّا".

وهذا لا يعني أن الإمارة تخلو من الجمعيات الخيرية، والمؤسسات الأخلاقية التربوية، والمهرجانات الإسلامية التي تقام في المناسبات، ويدعى إليها العلماء والأساتذة.. ويصرف لها المال الوافر، إلا أنها "ديكورات كرتونية" أو ورود متفتحة في مزابل تكتم الروائح العطرة وتئدها في عاتي أسنها ونتنها. ولا ينطبق هذا على دبي وحدها إنما تتسابق إلى تلك الحمأة باقي الإمارات..

الشارقة

إلى الشرق من دبي على ساحل الخليج مدينة كدبي إلا أن صارخ الإثارة فيها أقل، والهدوء فيها أكثر، وكثير من شوارعها عريض أما غالب البناء فيها فمكتظ دون نظام، وتكاد تختنق وأنت تسير في بعض أحيائها لقرب البناء بعضه من بعض، كحي "البوطنية" مثلاً، فعلى الرغم من كثرة البناء والسيارات فإن الشوارع والأزقة ضيقة، والترتيب فيها يكاد ينعدم، أما في الطرف الجنوبي منها وقرب المطار فالشوارع عريضة نظيفة، يسكنها المواطنون الإماراتيون من أبناء الطبقة الغنيّة، وهي في معظمها قصور وفيلات، ويحيط بالمدينة بعض المتنزّهات الواسعة يقصدها أهل المدينة والزائرون ومطار الشارقة أصغر من مطار دبي بكثير إلا أنه مرتّب ومنظّم ويهتم حاكمها –وهو مثقف- بالعلوم والثقافة.. إذ ساعد على أن تكون حاضرته مركزاً ثقافياً مرموقاً، فأسس جامعة الشارقة، والجامعة الأمريكية، وقاعة أفريقيا.. ودعم كثيراً من الأنشطة المكتبية والمهرجانات الأدبية، ومعرض الكتب "أكسبو" في الشارقة، ومعرض التاريخ والأحياء المائية على طريق المطار خير دليل على ذلك.

وكان بين دبي والشارقة فراغ يتجاوز أربعة كيلو مترات لم تكن إحداهما تسمح للأخرى في السبعينيات والثمانينيات أن تمتد إليها، لكن الاكتظاظ السكاني والتقارب الإداري السياسي أدى إلى عمارها واتصال البناء بينهما.

من معالم الشارقة أيضاً البحيرة المستديرة ونافورتها العالية.. والدوارات الكبيرة التي تحيط بها الأبنية الحكومية على الطريقة الرومانية، ولا أنسى أحد الدوّارات كتب فيه بالزهور والورود على الناحية الشمالية، وباللغة الإنجليزية ابتسم أنت في الشارقة smile you are in sharjah وفي العربية كتبت الجملة نفسها على الجانب الجنوبي، وكنت في عام خمسة وثمانين قد اشتريت لزوجتي سيارة صغيرة جديدة من الوكالة وكان نوعها MAZDA مازدا فصدمت إحدى السيارات فاتصلت بي قائلة:

- صدمتُ إحدى السيارات عند ابتسم أنت في الشارقة ناحية اللغة الإنجليزية.

وكانت خائفة مرتبكة فقلت لها:

هذا لأنك لا تعرفين هذه اللغة، ولو كنت تعرفينها لما حصل شيء.

فقالت حين وافيتُها بعد دقائق:

- لقد هدأت نفسي حين ألقيت هذه الدعابة..

كان البيت كما ذكرت قريباً من مدرسة أم حسان أما مدرستي فكانت تبعد عن البيت قريب خمسة وعشرين كيلو متر، في برّ دبي، بعد الخور في حيّ جديد تدعى المدرسة "إعدادية السعيدية" مديرها أخ فلسطيني "محمد صلاح مسّاد" يمتاز بالنشاط وعلو الهمة وقوّة الشخصية وحب الخير، وهذه الصفات قلّ أن تجتمع في إنسان، ولكن الله إذا أراد إكرام عبد فعل ما شاء وقد ذكّرني بقصة الأشج ابن عبد قيس حين مدحه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقال:

"إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة".

وتعرفت إلى الأخ الحبيب الكريم العراقي "جاسم الدوري" وهو غاية في اللطف والأدب وحسن الأخلاق وكان مدرساً للتربية الإسلامية، وتعرفت إلى أخ فلسطيني مهذب يدرس التربية الإسلامية كذلك يدعى "عبد الله القيسي" دائم البسمة.

كان الوالد والوالدة وحدهما في عمان وقد تفرّق أولادهما إلى البلاد العربية الأخرى يعملون فأنا في الإمارات والثاني في اليمن، الثالث طالب في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، والرابع لا يكاد يستقر في عمان والبنت الكبيرة اعتقل زوجها وأخوها الخامس في حلب فلم تتبعنا والصغيرة تزوجت ثم سافرت وزوجها إلى اليمن.

وجد الوالدان نفسيهما وحيدين في عمان فسافرا شتاء إلى الديار المقدسة للحج فلما عادا بدأ العدّ العكسي للوالد رحمه الله تعالى، وكنت أتصل بهما كثيراً أتابع حالته الصحية، وحين زرتهما في الصيف في "جبل التاج" في عمان رأيت أن من الأفضل أن يكونا في بيتي وتحت رعايتي، وتذكرت كلمة "عندك" في قوله تعالى: (إما يبلغنّ عندك الكبرَ أحدهما أو كلاهما)..

عدت إلى دبي وقصدت المحكمة مع الأستاذين "الدوري والقيسي" ليشهدا أنني كفيل الوالد فأستخرج –بناء على ذلك- إقامة الوالدين في الإمارات.. وكان القاضي "سودانياً" ذكياً لبيباً فسألني سؤالاً واحداً:

- أليس لوالدك أولاد غيرك وأملاك تكفيه؟

قلت: له أولاد غيري لكنني أكبرهم وأيسرهم، أما ما يملكه ففي حلب وليس له هناك من يخدمهما، ولا يستطيعان الذهاب، فقد أهدر النظام دم الوالد لأنه أب لشباب مسلمين مؤمنين يطاردهم النظام.

قال موجهاً خطابه للأستاذين الدوري والقيسي:

- عراقي وفلسطيني يشهدان لسوري في والده الذي لا يعرفانه ولم يرياه؟

قالا: خَبرنا صدق زميلنا طيلة السنة الدراسية الماضية، فهل من بأس؟

قال: حيّا الله أصلكما.. إن الطيور على أشكالها تقع..

ثم أمضى الأمر وهو يقول:

- برَّ والديك وأحسن إليهما حياتهما.

ونظر إليَّ مبتسماً وأكمل:

- يعتبر محتاجاً من ملك المال ولم يستطع التصرف فيه..

ثم شيّعنا وهو يوصيني:

- كن لهما كلّ أولادهما، فلعل الله تعالى يريد بك الخير واجعلهما تحت جناحيك.. فالجنة عندهما وتحت أقدامهما..

نعم يا سيدي القاضي أحسنَ الله إليك، ومتّع الله بك، وأجزل المثوبة إليك. يا رب اجعلني عند حسن ظنّك بي.

وخرجنا وأنا أبكي من الفرح.

الحج الأول

وصلت إلى البيت مبتهجاً، وأخبرت زوجتي بما كان في المحكمة من تيسير فابتسمت وقالت:

- أتدري أن ثواب بر الوالدين بدأ يغمرنا من الآن؟

قلت: ماذا تريدين أن تقولي؟

قالت: جاءت زوجة "محمود فتى" من حلب ومعها أربعة آلاف ليرة سورية صرفتها بألفين وخمس مئة درهم.

قلت: ما مصدرها؟

قالت: أجرة بيتنا مقدّماً إلى نهاية هذه السنة (عام ثلاثة وثمانين)..

كنا قد عدنا من عمان قبل انتهاء الإجازة الصيفية بثلاثة أسابيع لقلة المال بين أيدينا، فأراد الله تعالى بنا الخير إذ وصلت هذه السيدة في الوقت الذي كنا نحتاج المال فيه.

قالت: لو كان هذا المال بين أيدينا ونحن في عمان ما عدنا سريعاً..

قلت: أترغبين أن نحج؟

برقت عيناها من الفرح الفجائي فقد بلغنا السادسة والثلاثين والمال بين أيدينا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "حجّوا قبل ألا تحجّوا".

قالت: وهل قبول طلبات الحج ما يزال سارياً؟

قلت: نعم فنحن في اليوم الرابع والعشرين من ذي القعدة.. وغداً آخر أيام تقديم أوراق الحج.

كان الأمر ميسّراً، فأغلب الحجاج قد دخلوا البلاد المقدسة، ولم يبق منهم إلا القليل، أما القنصلية السعودية التي كانت قبل أسابيع تزدحم بالناس وتغصّ بهم فتكاد تكون الآن فارغة إلا من أمثالنا..

قدّمنا الطلبات في اليوم الأخير مع جوازي السفر، واستلمناهما عصر اليوم التالي، وكنا جاهزين للسفر، فسألنا الله تعالى أن يتقبل منّا وسرنا على بركة الله.

كانت الإجراءات على حدود الإمارات سهلة وكذلك على الحدود السعودية، أما في قطر فكان الأمر على تفاهته مزعجاً ومقرفاً، فلماذا؟

أولاً: في بداية الثمانين إلى عام ثمانية وثمانين تقريباً كان على المسافرين من الإمارات إلى السعودية، ومن السعودية إلى الإمارات أن يقطعوا سبعين كيلو متر في صحراء قطر لا نرى فيها "وبراً ولا مَدَراً" اللهم إلا محطة للبترول على اليمين وأخرى على الشمال للمسافرين الذين يسرعون دون أن يحتاجوا إليهما فالبنزين في السعودية أرخص بكثير.

ثانياً: لابد من تفتيش السيارات في قطر داخلاً وخارجاً، ولا أدري لماذا فالدوريات القطرية منتشرة على طول الطريق القصير كما قلت، فطوله سبعون كيلو متر، ولا ترى فيه من الأحياء أناساً كانوا أو حيوانات أحداً، وكلما ذكرت "سودانتيل وأبا سمرة" وهما مركزا الدخول والخروج شعرت بالألم يحزّ نفسي.. فلماذا؟

ثالثاً: الجواب أن ما يُفرض من إجراءات شكلية يُقصد به استيفاء ضرائب الدخول والخروج وتأمين السيارة والأشخاص وإثبات أن هناك دولة طولها من ثغر "سلوى" السعودي وحتى آخر ذرة من التراب تمسّ مياه الخليج مئة كيلو متر فقط، وعرضها في أوسع الأماكن ستون كيلو متر.. وأنا متأكد أخيراً أن هناك بعض البشر يتلذّذون في إيذاء الناس، ويرتاحون لتعبهم، ويسعدون لشقائهم.

رابعاً: على الرغم من أنك تدخل السعودية وهي قارّة ضخمة تسير فيها آلاف الأميال فإنك تقدّم في سفارتها طلباً واحداً عليه صورة شخصية واحدة وتأخذ التأشيرة في زمن لا يتعدى أربعاً وعشرين ساعة.

أما في قطر فإنك تنال التأشيرة في ثمان وأربعين ساعة بعد أن تكتب طلباً من ثلاث نسخ على كل نسخة صورة شخصية، مع العلم أنك تقطع المسافة في قطر في ساعة واحدة، ولا ترى فيها إلا الأرض والسماء.. أليس هذا مزعجاً ومقرفاً كما ذكرتُ آنفاً؟!

ولأن المسافرين ضجوا من هذا الأمر كثيراً فقد شقت الإمارات والسعودية طريقاً قريباً من ذلك الطريق لكن ضمن الأراضي السعودية، فارتاح المسافرون من "سودانتيل وأبي سمرة" وقيل: - والعهدة على الراوي - أنهما أرضتا قطراً بمبلغ سنوي يعوّض ما فقدته من ذاك السبيل. ولعل بعض القراء يقولون: قد تحتاج يوماً أن تزور قطراً فلماذا جهرت بما يسّره الآخرون؟! وكل البلاد العربية هكذا؟ فأقول: ما تعوّدت السكوت على أمر يزعج، ولعل في الصراحة –وإن كانت تؤلم- تنبيهاً لأولي الألباب، ثم إننا في القرن الواحد والعشرين، وصدر الحكومة القطرية كبير يتسع للقيادة الأمريكية في الشرق الأوسط، أفلا يتسع لنقد بسيط من عربي مسلم مقهور؟!

وصلنا إلى المدينة المنوّرة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فاستأجرنا بيتاً قريباً من المسجد النبوي، وجاء مروان أخي الدارس في الجامعة الإسلامية وبعض أصدقائي وأصدقائه، وكنا نصلي أكثر الأوقات في الحرم النبوي واغتنمت كثيراً الصلاة في الروضة الشريفة إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم:

"ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة".

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الجنة بفضله وكرمه، وزرنا كثيراً من المساجد المشهورة، كمسجد الغمامة وهو قريب من المسجد النبوي ومسجد القبلتين، وسمي بذلك لأن المسلمين كانوا يصلون إلى القدس، فلما نزلت الآية الكريمة:

"قد نرى تقلّب وجهك في السماء، فلنولينك قبلة ترضاها، فولّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره".

كان بعض المسلمين يصلون العصر إلى القدس، فدخل عليهم رجل كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام فأخبرهم أن القبلة تحولت إلى مكة، فاخترق الإمام المصلين ووقف أمامهم إلى المسجد الحرام، والتفتوا جميعاً يتبعونه وعلى هذا سمي مسجد القبلتين، وصرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من هجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم صلينا يوماً الفجر في المسجد النبوي، وانطلقنا إلى مسجد قباء فصلينا فيه الضحى، ونلنا بذلك أجر عمرة، فقد روى أحمد والنسائي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"من خرج حتى يأتي هذا المسجد –يعني مسجد قباء- فيصلي فيه كان كعدل عمرة".

وزرنا البقيع –مدافن المسلمين- قرب المسجد النبوي ناحية الشرق فدعونا لهم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي البقيع ويدعو لأصحاب القبور، فيقول:

"السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون".

وزرنا بعد ذلك موقع غزوة أحد ورأينا جبل الرماة، وقد أزاله السعوديون من مكانه، وزرنا قبور الصحابة رضوان الله عليهم من شهداء هذه الغزوة، ووقفنا أمام سيد الشهداء حمزة، والسفير الأول للنبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، وعبد الله ابن جحش ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم والثلاثة في قبر واحد.. وسلمنا على الشهداء من حوله ثم زرنا في يوم آخر موقع غزوة الخندق ورأينا المساجد السبعة التي نسبت للصحابة الكبار في مواقعهم التي ناوشوا منها المشركين، وقيل لي: إن المساجد أزيلت بعد ذلك.. أما مطار المدينة المنورة فقد أقيم في ديار بني قينقاع من اليهود، وهم الذين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة قبل بني النضير وبني قريظة.. ومررنا بحائط أنس بن مالك رضي الله عنه الذي كان يثمر مرتين في السنة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم أن يبارك في رزقه، وهو الآن مسوّر يملكه الأمير سلطان ابن عبد العزيز.

تمتاز المدينة برحابة دورها وهدوئها النسبي، ويشكر الحجاج أهلها، ويصفونهم بالأخيار لسهولة أخلاقهم ولطافة معشرهم.

ويوم التروية انطلقنا إلى ذي الحليفة "أبيار علي" بعد أن ودّعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحرمنا هناك وقدت السيارة مسرعاً في الطريق الساحلي –طريق بدر- فلم يكتمل طريق الهجرة بعد..

ما أعظم البيت وأثره الأول في نفس الناظر إليه، كنا ننحدر إليه وقلوبنا تتشوق لرؤيته، وهاهو الآن أمامنا، اللهم زده تعظيماً وجلالاً، وطفنا طواف القدوم وسعينا سعي الحج، فقد قررنا الإفراد بالحج، واستقبلنا الأخ الأستاذ رضوان الدباغ في بيته القريب من الحرم، وذهب وأسرته معنا لزيارة البيت الحرام مرة أخرى، ولم يحرمنا –كعادة الحلبيين- من الكبّة، ومحشي ورق العنب "اليبرق" وما لذّ وطاب، فزوجته من حلب كذلك، وهي زميلة زوجتي وتعرفها.. وعلى هذا كانت أيام الحج رائقة، هادئة.

مما أعجبني في مكة اهتمام القائمين على الحرم به والسعي لنظافته وتأمين الراحة للحجاج، والسعي لتوسعته، والاعتناء بمنى وعرفات، ماءً، وطعاماً، وأمناً وخياماً، ونظافة ومواصلات و..

ولكن حتى تلك السنة لم يكن يستفاد من الهدي (الذبائح) فكان رضوان يشتري الذبيحة من الذابحين –وليسوا من أصحابها، فأصحابها يدفعون ثمنها ويذهبون- يشتريها بثمن بخس، أربعين ريالاً فقط.. يشتري اثنتي عشرة ذبيحة ويضعها في الثلاجة، فيطبخ في الشهر واحدة.. قلت له لماذا تفعل هكذا؟ دع الذبائح توزّع على الفقراء.. قال: إن لم نفعل ذلك، رُميت في صناديق الزبالة لتحرق بعد ذلك.. وبدأت الاستفادة منها بشكل مقبول في منتصف الثمانينيات، حيث ترسل إلى الدول العربية والإفريقية الفقيرة..

مكة محصورة بين الجبال وأبنيتها –على هذا- متقاربة، وشوارعها ضيقة أما التوسّع فبعد أن كثرت الأنفاق التي اخترقت الجبال، وشقت الطرق فيها توسعت بشكل ملحوظ على الطريقة العصرية، أبنية عالية، وشوارع عريضة، وحدائق جميلة.

والحرارة فيها على مرّ السنة مرتفعة، وهذا من فضل الله على الحجاج والمعتمرين فالبرد يمنع الإحرام.

وفي منى وعرفات إذ يجتمع الناس بالملايين في أيام التروية وعرفة وأيام التشريق يحصل زحام شديد، وتدافع قاتل.. فيوم أن حججنا عام تسعين وتسع مئة وألف قتل في أحد الأنفاق قريب من خمس مئة حاج.. وقتل هذه السنة عند العقبة الكبرى –وقت الرمي- حسب التقرير السعودي مئتان واثنان وأربعون حاجاً، وذكر الشهود أن العدد مضاعف وفي كل سنة يحصل مثل هذه المجازر، ولعل السبب يعود إلى أمور عديدة منها:

1 – الجهل بمناسك الحج، فالحاج يقدم إلى مكة دون أن يعرف فروض الحج وواجباته وسننه، وكأنه قادم في نزهة لينال شهادة يعرضها على أهله ويفخر بها على صحبه وجيرانه ومعارفه، فينادى "يا حاج".

2 – اكتظاظ المناسك بالناس –ولا أدري لماذا يصر القائمون على التمدد في منى وعرفات أفقياً، ولهم أن ينشؤوا أبنية ضخمة تتسع لكل الحجاج "عمودياً".

3 – الاهتمام الشكلي لمسؤولي الحج بحفظ النظام والاعتناء بالمظاهر الخادعة والتخلي عن النظام وراحة الحجاج كل آونة لإرضاء من يحجون من الحكام متظاهرين بالتقوى.. وإليك مثالين فقط يدل على تخلّف الأمة الإسلامية عن الأخلاق الإنسانية، والحضارة البشرية، عند من لا يعرفون الحج ويجهلون أساسياته:

أولها: أنني في لندن رأيت الأمير البريطاني وليّ العهد الأمير تشارلز يقود سيارته بنفسه لا يتبعه أحد من المرافقين، فلا يحدث شرخ في نظام السير، وقد رأى أحدهم شرطي السير يحرر للأمير مخالفة أسوة بغيره من البريطانيين وحين زار مدينة دبي في الإمارات قطعت الطرق وشلّت الحركة في المدينة أكثر من ساعة ليمر موكبه!! فلماذا الاستهانة بوقت الناس والضغط عليهم، ولم هذه الأبهة الكاذبة، والفخفخة التافهة؟! وهل يكون الاهتمام بالزائر على حساب الشعوب؟!!

ثانياً: أن أميرة أو أميراً حين يطوف بالبيت أو يسعى بين الصفا والمروة أو يرمي الجمرات يقطع بسببه على الحجاج أداء مناسكهم.. فلماذا؟ أهؤلاء من ذهب والناس من حديد صدئ؟!! ولماذا يُفرد لهم المكان؟ خوفاً من الجرب؟ أم استكباراً في الأرض وعلواً؟ وإذا كانت الثانية فماذا تعلّم هؤلاء من الحج وأخلاقه؟ وهل تجتمع العبادة بما فيها من ذل لله تعالى ورحمة بعباده ومساواة بين المسلمين مع التعالي والكبر والصلف مما يغضب الله تعالى ويتنافى وأدبيات الحج؟

قال الله تعالى: "واذكروا الله في أيام معدودات، فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى.."

ولأن المدارس على الأبواب وكلنا أمل أن نعود إلى الحج في السنة القادمة تعجلنا، فقد رمينا الجمرات كلها ظهر اليوم الثاني من أيام التشريق، وطفنا طواف الوداع، وسألنا الله تعالى أن يرزقنا العودة إلى بيته العظيم..

كنا نسابق السيارات والحافلات، فليس لي سوى هذا تسلية فالزوجة من عادتها أن تنام فور أن تمشي بنا السيارة، وكأن حركتها وصوت محركها يهدهدان لها فتغفو بسرعة كطفل في سريره بين يدي أمه تحركه بلطف..

وهذا –أحياناً- لصالحي وأحياناً يضايقني.. أما الضيق فلأنني أحب الحديث والنقاش واجترار الذكريات في طريق طويل، طويل.. ليس فيه أنيس، ولا مناظر حلوة مؤنسة.. إنه صحراء مترامية وسراب يتجدد، ولوحات تحدد المسافة ليس غير.. وأما الراحة فلأن الزوجة تخاف الوحشة والظلام وأنا بطبعي لا أخاف كثيراً لكن خوفها إن كانت يقظة ينتقل إليّ بالعدوى، فحين عدنا من الأردن على الطريق الصحراوي –وكل الطرق صحراوية- من ثغرة الحديثة السعودي إلى "النعيرية" القريبة من الكويت إلى الهفوف جنوباً ثم إلى حدود الإمارات، فالشارقة.. وصلنا الواحدة ليلاً إلى "النعيرية" وكنت يقظاً منتبهاً، وسألت زوجتي أتودين الاستمرار أم ترغبين في الاستراحة؟ أجابتني عملاً لا قولاً، فقد كانت نائمة. ملأت خزان السيارة بنزيناً وسألت عن المسافة بين النعيرية ومفرق (الرياض الدمام) فقالوا هو مئتان وخمسون كيلو متراً ولعل القارئ يجدني أكتب كيلو متر بالكسر مرة، وكيلو متراً بالنصب تارة أخرى، والأمران جائزان عند النحويين، فالمسافة إذاً أقطعها بساعتين إذا يسّر الله تعالى..

وانطلقت بمشيئة الله تعالى.. أتدرون كم قرية رأيت في الطريق؟ لم أجد قرية واحدة، ولا نوراً ينبعث من قريب ولا بعيد، وكان القمر غائباً فالشهر في آخره، وليس ورائي ولا أمامي سيارة ولا حافلة.. سرت ساعة ونصف الساعة حسبتها ساعات طويلة، وحمدت الله تعالى حين تسرّب الخوف إلى قلبي أن زوجتي نائمة.. وإلا زادت الطين بلّة.. ثم رأيت من بعيد أنواراً كثيرة، قلت في نفسي: جاءك الفرج يا عثمان، سوف تجد استراحة فيها مطعم، وبقالة، ومسجد.. وبشر.. وتستريح إلى الفجر فللنهار عيون ما كان ينبغي لك أن تغامر فتسير في الليل في طريق لم تسلكه سابقاً.. فماذا رأيت حين وصلت؟ كانت تحويلة للطريق فيها أنوار كثيرة وضعت للمسافرين ليلاً كي يتجنبوا الوقوع في الهاوية ويميلوا بهدوء إلى الجهة الأخرى، ورأيت أوربيّاً يملأ خزان المحرك وقوداً، فتوقفت ألتقط أنفاسي وأملأ عيني نوراً، وقلبي أماناً، وإذ توقفت فتحت زوجتي عينيها، فقلت لها أصليت العشاء؟ قالت: لا.. قلت لها: توضئي وصلي، لم يبق للفجر سوى ساعة، ونزلنا من السيارة، وتوضأت، وصلّت، وكنت أدور حولها خوفاً عليها من العقارب، فقتلت اثنين منها..

قالت: أين نحن الآن؟

قلت: دنونا من مثلث يجمع طريق الدمام والهفوف والرياض.

ودنت سيارة قادمة نحونا قادمة من المثلث، وكان عليها أن تخفف السرعة ليس لأنني رفعت يدي أسأل سائقها لكن بسبب التحويلة، ونظر إليّ من بداخلها وكانوا ثلاثة رجال، فلما اطمأنوا أنني رجل واحد ومعي زوجتي فتح السائق الزجاج فسألته عن الطريق إلى المثلث، فأجابني أنني على الطريق الصحيح.. وركبت السيارة وغبنا معاً في الليل المظلم مرة أخرى ساعة من الزمن إلى أن رأينا من بعيد أنواراً عظيمة صادرة من خزانات البترول الضخمة على المثلث، فحمدنا الله تعالى على السلامة ورجونا أن لا نعود إلى مثل هذه المغامرة أبداً.

كانت الحدود بين السعودية وقطر والإمارات هادئة، فنحن أوّل الحجاج القادمين، وكان الانتقال بين الثغور الأربعة سهلاً.. ونمنا في حدود الإمارات.. لنكون عصراً في الشارقة..