بورصه الخضراء

بورصه الخضراء

بقلم: نوزات صواش

على سفح جبل عملاق في بلاد الأناضول تتكئ مدينة خضراء كأميرة مدللة مطلة على سهول واسعة تمتد مدى البصر توشيها مزارع خصبة وجداول ذات مياه فضية. وقد كان شأني معها كبقية السواح الذين مروا منها أن همت بسحرها فطفت في جميع أنحائها وأردت أن أترجم ما أحسست فيها من مشاعر أو رأيت فيها من ثقافة راقية وحياة غنية تنبض بالمعاني الدينية السامية..

أردت أن أترجم ذلك إلى عبارت فتعثر القلم في ذلك حينا وأصابه العجز في كثير من الأحيان. ولا بأس، فقد انطبع الجمال الذي شاهدته بعيني وأحسست به بكل كياني في القلب، فالصورة هناك واضحة، وهذا يكفيني.

لست أبالغ فيما كتبت عن مدينة بورصه. تقول الأسطورة إن النبي سليمان عليه السلام الذي اتسع ملكه إلى مشارق الأرض ومغاربها لما أتى إلى جبل أولو داغ الأشم نظر إلى أسفل فرأى السهول الواسعة التي انبسطت فيها مزارع وبساتين تشتمل على كافة أنواع الخضر والفواكه وغابات ذات أشجار ضخمة وأنهارا تلمع بلون ذهبي تحت أشعة الشمس.. لما رأى سليمان عليه السلام هذه الصورة الساحرة قال بلغة تركية فصيحة "جنت بوراصي" أي "الجنة هنا". وكان وزيره الذي يقف بجانبه ضعيف السمع، فظن أن النبي الملك قد سمى المكان "جنة بورصه". وشاع بعد ذلك هذا الاسم على ألسنة الناس.

هذه أسطورة طبعا. وإن لم تكن حقيقية أصلا فلها جانب من الحقيقة. وهو أن الخيال البشري عندما يرى الروعة لا يرضى بالتقليل من شأنها، بل يسرع إلى سكبها في قوالب أسطورية وقرنها بأشخاص لهم شأن عظيم حتى يبقى اسمها خالدا خلود هؤلاء الأشخاص. أعرف أن اسم المدينة يعود إلى "بروصه"، ملك بيتينيا، أول قوم سكنوا هذا المكان. ولكن كأن العقل التركي المسلم أحب أن يرجع تسميتها إلى نبي عظيم بوصف يليق بها حيث قال "الجنة هنا".

لو عاد سليمان عليه السلام اليوم وأطل على المدينة مرة أخرى من الجبل الشاهق ذاك هل يقول نفس الشيء يا ترى؟ لقد طالت يد الحياة الحديثة المدينة الخضراء وأفسدت شيئا كثيرا من نسيجها التاريخي الطبيعي، ولكن تبقى في أعين كثير من السياح بورصه الخضراء والقلب الذي يعكس الصورة الثقافية والحضارية لنشأة إحدى أكبر دول العالم التي أسستها الحضارة الإسلامية.. الدولة العلية العثمانية.

لا تبتئس مما قلت.. فبورصه لا تزال تسحر الزائرين. صورة بورصه اليوم مزيج من التاريخ والحاضر. وهي بصفتها هذه تمثل أروع مثال يمكننا من عقد مقارنة بين فكرتين أنشأتا نوعين من الإنسان مختلفين ومن ثم عمرانين متباينين. عندما أراد "أوليا جلبي" الرحالة التركي المشهور صاحب المؤلف الضخم "سياحت نامه" وصف المدينة بتعبير دقيق قال "مدينة تنبض بمعان إلهية".

حقا لا تكاد تخطو خطوة حتى يلاقيك مسجد قديم أنشأه سلطان أو سلطانة أو وزير أو قائد، تحيط به مرافقه الأخرى من مدرسة لطلاب العلم وحجرات لإقامتهم، ودار ضيافة للمسافرين وعمارتخانه لإطعام الفقراء والمساكين وعابري السبيل وحمامات ومحلات تجارية ومكتبة تحتوي على مؤلفات قيمة يتدارسها العلماء والأئمة فيما بينهم أو يدرسونها على العامة في المسجد في أيام معينة. فكأن مساجد تلك الأيام كانت مثل جامعاتنا اليوم بل وتفوقها في بعض النواحي بكثير. فقد كانت "جامعة المسجد" مفتوحة للعامة والخاصة والفقير والغني والنساء والرجال. وإذا أردنا أن نصف الحضارة العثمانية أو الحضارة الإسلامية وصفا دقيقا فما أجدرنا بأن نقول إنها حضارة المسجد. فقد انطلق نور الإسلام إلى العالم من جامعة المسجد.

عندما أمشي في شوارع المدينة أشعر كأنني أقلب صفحات التاريخ صفحة صفحة، أنتقل من جيل إلى آخر، أقرأ عهدا وأعيش فيه، ثم ألتقي بمعلم يجذبني إلى عهد آخر. وهكذا يتبخر مفهوم الزمان في بورصه، أطوي القرون في ساعات معدودة. فتارة أشعر وكأنني سألقى السلطان بيازيد خان الملقب بالصاعقة وهو يعد الخطة بعد الخطة لفتح اسطنبول، وتارة أحس كأنني سأرى بعد قليل السلطان مراد الأول ممتطيا صهوة جواد على رأس جيشه الجرار متجها إلى أعماق أوروبا أو سألقى أورخان غازي إلى جانب والده عثمان بك مؤسس دولة آل عثمان وهو يطالع المدينة من إحدى التلال المطلة ويحلم بجعلها مدينة إسلامية في يوم من الأيام. وما أن خطر ببالي عثمان غازي حتى سألت عن المكان الذي يمكن أن أقابله فيه. فقالوا لي إنه هناك، على تلك التلة... هو وابنه أورخان غازي... يطالعان المدينة التي فتحوها وجعلوها منطلقا لحضارة إسلامية عظيمة... عثمان غازي هناك يشاهد المجد الذي من الله به عليه.

اتجهت ناحية التلة لأقابل فيها منشئ الدولة العثمانية. وأخذت أقلب في ذاكرتي صفحات التاريخ بسرعة حتى وجدت ذلك اليوم الذي ذهب فيه الفتى عثمان لزيارة معماريه الروحي ومرشده القلبي العالم الصوفي الشيخ "أدب عالي". ولم يكن لهم آنذاك سلطان ولا دولة، بل كانوا عشيرة صغيرة هاجرت من أقاصي أسيا الوسطى واستقرت في منطقة نائية من الأناضول تدعى "سوغوت" حيث تقع على حدود الإمبراطورية البيزنطية. وكان رئيس العشيرة أباه أرطوغرول بك. أما عثمان فكان فتى شجاعا يجيد فنون القتال والفروسية وتكاد الدنيا تضيق أمام سرعته ونشاطه وأحلامه اللامحدودة.

ولما جن الليل دخل الفتى إلى الغرفة المعدة له لكي يستريح. وما كاد يتمدد على السرير حتى رأى المصحف المعلق على أحد الجدران فارتعش جسمه وهب من فراشه مذعورا. فلم يكن أدبه الرفيع ليسمح له بالتمدد في غرفة فيها قرآن. وجلس على أحد الكراسي باحترام وأخذ يذكر الله ويسبحه ويقاوم النوم. وبعد لحظات أغمض عينيه واستغرق في نوم عميق وهو على تلك الحال، وإذا به يحلم. رأى البدر يخرج من صدر العالم الصوفي الجليل "أدب عالي" ويدخل في صدره هو، فيمتلئ صدره بالنور، ويفيض... لا لا، إنها شجرة، نعم شجرة من نور.. تنبثق من قلب الفتى عثمان، فتكبر وتكبر وتتكاثر فروعها وتتطاول أغصانها وتورق وتثمر... فروعها أغصانها أورقها ثمارها من نور. يا إلهي! لقد أصبحت تلك النبتة التي خرجت من صدر الفتى شجرة ضخمة مترامية الأطراف تشع نورا إلى مشارق الأرض ومغاربها.

استيقظ الفتى على أذان الفجر يشعر بنشوة روحية عظيمة وسكينة قلبية رائعة. بعد الصلاة جلس إلى مرشده الشيخ "أدب عالي" وقص عليه رؤياه وطلب منه أن يفسرها له. ففهم الشيخ مغزى الرؤيا. كان يرى الجذوة المتقدة في عيني هذا الفتى، ومن ثم كان يعنى به عناية خاصة. وعرف أن الله أراد لهذا الشاب شأنا آخر. فأخبره بأن الله سيعز دولة الأسلام على يديه وأيدي ذريته التي تولد منه ومن ابنته "مال خاتون". تزوج عثمان بك من "مال خاتون" كريمة الشيخ "أدب عالي" وولد لهما أورخان وأولاد آخرون. وبعد وفاة أرطوغرول غازي أصبح عثمان بك زعيم العشيرة، وفتح الله على يديه حصونا بيزنطية كثيرة. وفي عام 1299 م أسس الدولة العثمانية.

مرت سنوات... في خيمة متواضعة وعلى فراش بسيط ينام القائد الكبير مريضا... قد تجاوز من العمر الستين. أمضى حياته على صهوة جواده مجاهدا في سبيل الله ضد القوات البيزنطية. والآن وقد اشتعل الرأس شيبا ووهنت عظامه وضعفت قواه ينتظر نبأ فتح مدينة بورصه. لا تزال قواته تحاصر المدينة منذ شهور لكنها تقاوم بشراسة، والقائد ينتظر نبأ النصر. طلب من ابنه وولي عهده أورخان غازي أن يأخذه إلى تلك الربوة حيث كانا يشاهدان بورصه من علو. وبصعوبة ركب الشيخ جواده وسار في كوكبة من الفرسان والقادة إلى تلك الربوة.

إنها بداية فصل الربيع حيث تزينت الأرض بملابسها الخضراء الموشاة بأزهار رائعة، ونسيم الربيع يلامس وجه القائد بلطف وهو ينظر إلى العروس المتكئة على جبل أولو داغ العملاق، المنبسطة على سهول واسعة وقد امتدت فيها بساتين ومزارع وغابات خضراء وجداول وغدران تلمع كالذهب تحت أشعة الشمس. أشار بأصبعه إلى صومعة "أيا أليه" التي كانت قبتها تسطع بنور فضي وقال: "أترون تلك القبة الفضية.. إذا وافاني الأجل، فادفنوني هناك... تحت تلك القبة..."