الأردن(2)

د. عثمان قدري مكانسي

الأردن (2)

إلى العراق

كانت المعارك بين العراق وإيران متأججة حين زارنا في الزرقاء أحد المعارف قادماً من بغداد، وذكرها قائلاً: إنها تكبر وتنمو بسرعة، فقد أنشئ فيها على نهر دجلة في بداية الثمانين إلى الاثنين والثمانين ثلاثة جسور فخمة، تصل بين الكرخ والرصافة، وأن كثيراً من الشوارع شقّت طويلة عريضة وذكر مثالاً على ذلك شارع

فلسطين الذي يقطع العاصمة من الشرق إلى الغرب بطول اثني عشر كيلو متر، أما المعابر من جسور وأنفاق فحدّث ولا حرج، كما أن كثيراً من الحدائق والمتنزهات جعلت من بغداد قرة العين وبهجة النفس.

قلت: كيف ذاك، والقتال محتدم بين الجارتين؟! لا يكاد يمر يوم إلا ونسمع عن موجات بشرية يتقاذف بعضها بعضاً على كلا الجانبين؟

قال: كما قلت لك، لا يشعر الإنسان في العاصمة أن هناك شيئاً مما ذكرت إلا من الإذاعة والتلفاز، وعلى هذا فالأمان والأمن سمة بارزة في العاصمة العراقية.

قلت: أمن الممكن زيارتها دون عوائق؟ وهل الحياة فيها غالية؟

ضحك الرجل وقال: ليس من رأى كمن سمع، وأنا عائد بعد أيام فكن ضيفي في عاصمة الرشيد.

كنت وما أزال راغباً في التعرف على المجتمعات القريبة والبعيدة، فَوَجَدَتْ هذه الدعوة منى أذناً سميعة ونفساً راغبة، والرحلة صحبةَ عارف خير منها وحدي فالمصروف يقل، والتعرف أسهل وأوسع وأسرع.

أتذهب معنا يا أبا معاذ؟ قال: نعم. وتغنّى بقول الإمام علي (رضي الله عنه):

تغرّب عن الأوطان في طلب العلا     وسافر ففي الأسفار خمسُ فوائدِ

تفـرُّجُ هـمٍّ واكتسـابُ معيشـةٍ      وعلمٌ، وآدابٌ، وصحبةُ ماجـدِ

وأبو معاذ –عبد الرحيم- حفظه الله تعالى "مثل طاسة الجان" فهو فقيه، خطاط، كهربائي، كيمائي، إعلامي، إلا أنه كما يقول المثل العامي "كثير الكارات قليل البارات" والكارات جمع "كار" بمعنى عمل والبارات جمع "بارة" وهي عملة صغيرة، ولعل الكلمتين تركيتان أو إيرانيتان، فهو ماهر في الأعمال يتقنها أما رزقه فقليل.. رزقه الله وإيانا وإياكم من فضله العميم.

دخلنا حدود العراق من بلدة "الرطبة" بعيدة عن عمان بخمس مئة كيلو متر تقريباً قريبة إلى البداوة، وكان العاملون على هذا الثغر لطفاء، استقبلوا المسافرين بوجوه باسمة، وسلّم أبو معاذ على أحدهم فردَّ عليه الرجل "الله بالخير" وقليلاً ما يقولون "وعليكم السلام" ثم أردف الرجل مخاطباً أبا معاذ "الله يساعدك". تغيّر وجه صاحبنا حين سمع "الله يساعدك" وقال: ماذا فعلتُ معه حتى هددني؟! أريد أن أعود، لن أدخل العراق، إذا هدّدني الرجل ولمّا أدخل بلده فماذا يفعل أقرانه معي حين أكون في عاصمتهم؟

ضحك ضيفنا المقيم في بغداد، وقال لأبي معاذ: إن معنى "الله يساعدك" في العراق يختلف عن معناها في سورية.. في سورية حقاً تعني هذه الجملة أن ما ينتظرك أمر عسير وخطب جليل نسأل الله أن يعينك، أما في العراق فهي بمعنى "أعطاك الله العافية" وهذا دعاء واستلطاف، فهدأ روع أبي معاذ ثم انفرجت أساريـره وقال للعراقي: "الله يساعدك" وضحكنا...

من المفارقات أنَّ "أعطاك الله العافية" في تونس أو ليبيا –على ما أظن- تعبير غير مرغوب فيه، "فالعافية" عندهم "النار" وكأنك تدعو على المخاطب بدخولها والعياذ بالله. ولا أدري كيف فهموها هكذا؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله تعالى "اللهم إنا نسألك العفو والعافية" "اللهم عافنا واعف عنّا".

وعلى الطريق إلى الرمادي كانت الصحراء غالبة، أما مطاعمهم على الطريق فخيام يقدّمون فيها "اللحم المشوي والأرز والمرقة" فإذا بَرَدَ الجوُّ التف المسافرون على مناقل الفحم وإذا كان الحرّ استظلّوا بأجنحة الخيمة.

حين وصلنا إلى الرمادي وهذه مدينة متوسطة آنذاك، أكثر بنائها أدوار واحدة ترتاح النفس لها، فهي هادئة يمر فيها نهر الفرات أو قريباً منها، وإلى الجنوب الغربي من هذه المدينة بحيرة الحبانيّة الكبيرة يقوم إلى القرب منها معسكر كبير للجيش ومتنزهات كبيرة وفنادق سياحية فخمة، وجوّ المدينة وما حولها أكثر اعتدالاً من جو بغداد لأنها قريبة من بلاد الشام، ويقصد المنطقة سيّاح كثيرون من الداخل والخارج.

فإذا ما اقتربنا من بغداد بدأت مظاهر الحضارة والرقيّ، فالشوارع تتسع، والفيلات السمة البارزة في البناء البغدادي، والجزر الخضراء في وسط الطرقات، وتتجلى النظافة، وتبدو الأُبَّهَةُ في كل ناحية منها.. واخترقت السيارة بنا الشوارع المتعددة صوب مركز المدينة "العلاوي" فترجلنا لنتغدى في أحد المطاعم السورية القريبة من ساحة الباصات والسيارات.. ثم عرّجنا على بيت صاحبنا في حيّ العامرية الذي قتل في أحد ملاجئه عام واحد وتسعين المئات من الأبرياء إثر قصف صاروخي أمريكي يَدُلُّ على رحمة هؤلاء الأعداء وشفقتهم بالأمم الأخرى، ويبرهن على تحضرهم وإنسانيتهم!!

كان البيت واسعاً مؤلفاً من خمس غرف كبيرة نوافذها واسعة، وحديقتها تحيط بالغرف ضيقة خلفها، واسعة أمامها على الشارع الفرعي.

قضينا أياماً حلوة على شاطئ نهر دجلة الواسع.. كان ماؤه منخفض المستوى إلا أنه غزير عميق، وكنت ترى حركة عمرانية دؤوبة في هذا العام، اثنين وثمانين وتسع مئة وألف، وكثير من معالم الشوارع تتبدّل، فيُزال بناء هنا قديم، ويُشاد هنا بناء ضخم حديث وتُرصف الشوارع، وكأن أهل بغداد غير معنيين بما يجري على الحدود الشرقية..

في العاصمة ملايين المصريين والعرب الآخرين يعملون، ولقد رأيت سائقاً باكستانياً يقود أحد الباصات العامة في المدينة، ومما لفت نظري أمور ثلاثة:

أولها: أن المكتبات عامرة بأنواع الكتب والأسفار الضخمة، تباع بأثمان زهيدة، فما يباع بدينار عراقي نجده في عمّان بأضعاف كثيرة.. فاقتنيت منها ما استطعت.

وثانيها: الأسواق الكبيرة "سوبر ماركت" المدعومة تبيع الثياب والعطور والأثاث بأسعار مغرية جداً، وكانت تلك الأيام عهد رخاء للعراقيين وأقصد الرخاء الماديّ، أما الأمور الأخرى من كبت سياسي واختناق أمني، وحكم فردي، فالإخوة العراقيون أَخْبَرُ به، ويعانون منه ما نعاني نحن السوريين منه.

وثالثها: حديقة الزوراء الكبيرة للحيوانات، ففيها أكبر أسد رأيته في حياتي، إلا أن الحديقة لم تحظ بالاعتناء اللازم، وسرعان ما قارنتها بحديقة الحيوان في "مونتكارلو" في فرنسا، فمساحة الحديقة هناك لا يتجاوز عُشر حديقة الزوراء، لكن تنظيمها وترتيبها جعلها تتسع أضعاف ما في الزوراء من حيوانات، هذا بالإضافة إلى سهولة الانتقال ضمن مساحتها الصغيرة.

بانوراما القادسية

على بعد ثلاثين كيلو متر شمال شرقي بغداد تقع "المدائن" عاصمة كسرى، ويسميها العراقيون "سلمان باك" نسبة إلى أول الولاة المسلمين الذين حكموا العراق بعد فتحها سيدنا سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وكان أبوه دهقاناً عظيماً كثير الأموال مسؤولاً عن نار المجوس في منطقته، حاول أن يمهد الأمور لولده سلمان لكنّ الله تعالى هدى هذا الفتى إليه سبحانه، ففرّ من العزّ المادي إلى الفقر وخدمة العلماء والأحبار في الشام، ثم رضي أن يباعَ عبداً في يثرب قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إليها فتكون مدينته المنورة، ليكون من أتباع هذا الرسول الكريم، ويعود بعد ذلك إلى المدائن حاكماً مكان كسرى، وهادياً إلى شرع المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وصلنا إلى ما تبقّى من قصر كسرى، إلى الإيوان المتصدّع، وما يزال الصدع قائماً إلى الآن شاهداً على زوال الباطل ودوام الحق، ولئن دخلت الوحوش "المتحضرة" العراق الآن إن مصيرهم إلى زوال بإذن الله، ما دام في المسلمين عرق ينبض وأرحام الأمهات المؤمنات يدفعن سيلاً من المجاهدين المؤمنين، وليكونّ حال الغاصبين أسوأ من نهاية التتار.. وإن غداً لناظره قريب، وما ذلك على الله بعزيز.

وعلى مقربة من الإيوان بناء ضخم فيه بانوراما القادسية بأيامها الثلاثة، صوّر فيه المبدعون من المثّالين على شكل دائري هذه المعركة الخالدة من بدايتها إلى نهايتها، فقد رُسمت على الجدران البعيدة أرض المعركة والمقاتلون من كلا الطرفين، فإذا ما اقترب المشهد وجدته ينقلب إلى شخوص وأجسام وشجر وصخور، ورمل.. منظر بديع يتجلّى فيه أمران اثنان:

الأول: جلال التاريخ وعظمته وقادة التاريخ ورجالاته.

الثاني: إبداع الفنانين الذين دمجوا بين الرسم البديع والنحت الرائع حتى لكأنك ترى المعركة وتسمع أصوات المقاتلين وصليل السيوف وقعقعة السلاح.. وتذكرت وأنا في هذا المكان الرائع البحتري الشاعر حين حضرته الهموم وهو في بغداد في المرة الأولى، ولم يلق حظوة فيها أراد أن يبث شكواه فجاء إلى المدينة البيضاء "المدائن" فزار قصر كسرى ويبدو من وصفه أن القصر كان لا يزال سالماً في ذلك الحين، وخصوصاً بما كان فيه من رسوم لمعركة أنطاكية بين الروم والفرس تتصل على جدران الإيوان، فرددت ما قاله في حسن الصنع وجمال التصوير والنحت والترتيب المعجب"

فـإذا ما رأيـتَ صـورةَ أنطـا     كيـةَ ارتـعـت بين روم وفـرسِ

والمنـايـا مواثـل  وأنـوشـر     وانَ يزجي الصفوف تحت الدّرَفْسِ

في اخضرارٍ من الثياب على أصـ  ـفـر يخـتـال في صبيغـة وَرْس

وعـراك الرجـال بيـن  يديـه     في خفوتٍ منهم وإغـماض جـَرْس

من مُشيحٍ يهـوى بعـامل رُمـحٍ    ومـُليـحٍ مـن السـّنـانِ بتُـرس

تصف العيـنُ أنهـم جِـدُّ أحيـا    ء لهـم بـيـنهـم إشـارة خُـرس

يغتـلي فـيهـم ارتيابـيَ حـتى     تـتـقـرّاهـم يـدايَ بلَمـــس

إلى الموصل

وانطلقنا بعد أيام إلى الموصل على بعد أربع مئة كيلو متر شمال بغداد، وفي الثلث الأول من الطريق تقع مدينة "سُرّ من رأى" سامراء التي بناها المعتصم الخليفة لجنوده من الأتراك حين اشتكت منهم بغداد، وجعلها عاصمته فترة من الزمان، فلفت انتباهنا المسجد ذو المئذنة الملويّة فصعدنا إليها وكأنها طريق جبلي صغير، ما أظن أني رأيت مثلها إلا في الإمارات –على ما أظن- وتوقفنا في مكان قريب منها رأينا الناس يدخلون فيه، فسألنا، فقيل لنا: إن الإخوة من الشيعة يعتقدون أن الإمام المنتظر سيخرج من مكان ضيق في مغارة" ودخلنا لنرى دائرة صغيرة لا يتجاوز قطرها عشرين سنتيمتر مسدودة بملاط، فتعجبنا كيف يعتقد الناس دون تمحيص خروج طفل صغير بَلّهَ الكبير من مكان ضيق من أعماق الأرض، ولماذا من هذا المكان بالذات؟ ولمَ لمْ يكن في السماء كعيسى عليه السلام؟ وهم يعتقدون كما قال الخميني في كتابه "الحكومة الإسلامية" أنهم خير من الرسل قاطبة ومن الملائكة المقربين؟!!

فتحت عنوان "الولاية التكوينية" يقول الخميني: "وإن من ضرورات مذهبنا أنّ لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرّب، ولا نبيّ مرسل" وأن للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون"!! ولا تخضع ذرات الكون إلا لله سبحانه وتعالى فهل أصبح أئمة الشيعة شركاء لله أو أنصاف آلهة.. أستغفر الله العظيم من الشرك وفساد العقيدة.

استقبلنا الموصل بجوّها القريب من جوّ الشام وهوائها العليل، فقد انتقلنا نقلة واسعة من الحرّ الجاف في بغداد إلى الاعتدال واللطف.. ودخلنا أسواقها فإذا هي شبيهة بأسواق حلب وإذا فيها الأسواق المسقوفة، وأصحاب كل صنعة في سوق يخصّهم، والخانات الكبيرة والحمّامات، فتذكرت قول الوالد رحمه الله: اقرأ يا ولدي التاريخ تجد أن الموصل وحلب توأمان وقد حكمهما في آن واحد الزنكيون ثم الحمدانيون، وبين هاتين المدينتين نسب وصهر، والعادات واحدة.

وزرنا فيها مقام النبي يونس بن متى عليه الصلاة والسلام، وتذكرنا عدّاساً في الطائف يقدم للنبي صلى الله عليه وسلم قطفاً من عنب فيقول عليه الصلاة والسلام "بسم الله الرحمن الرحيم" فيتعجب عداس ويقول: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن أي البلاد أنت يا عدّاس؟ وما دينك؟ قال: نصراني، وأنا رجل من نينوى (الموصل) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس ابن متّى؟ فقال له عدّاس: وما يدريك ما يونس بن متّى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أخي، كان نبياً وأنا نبي، فأكبّ عدّاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّل رأسه ويديه وقدميه.

وكنت أسمع كثيراً بلبن أربيل وكبابها.. فلم يتسنّ لنا زيارتها لكن أكلنا بعد ساعات من الطواف في المدينة لبن أربيل مع كباب الموصل عسى أن ننسى التعب، فنسيناه لكن النعاس بعد الأكل هجم علينا هجوم الحرس فأسرعنا إلى بيت أحد المعارف نرتاح قليلاً أو كثيراً..

إلى الإمارات..

العمل في الأردن مجالاته التجارية –بالنسبة لي على الأقل- محدودة، يعمل الإنسان فيه كثيراً فينال قليلاً.. وحديثي هذا عن العمالة الغالبة في هذا البلد فكنت أعمل أحياناً وأحياناً أتعثر أما زوجتي فلم ترغب بالعمل في المملكة السعودية -كما ذكرت سابقاً- مديرة مساعدة في ثانوية تيماء المدينة، فعملت مديرة مساعدة لكلية المجتمع الإسلامي في الزرقاء..

التقيت بأخ أردني كان نائباً في البرلمان يسألني عن الأحوال المادية والنفسية في الأردن، فكان جوابي أنني من الناحية المعنوية النفسية مرتاح جداً، فالوالدان رحمهما الله تعالى معي في الأردن، وقد كانا يسكنان في الزرقاء، فانتقلا إلى عمان في الحي الهاشمي الشمالي حيث المكان المرتفع، ذو الهواء المتجدد، والدار المريحة، القريبة من أختي المتزوجة حديثاً، أما الأمور المادية فتحتاج إلى ممارسة أكثر من عمل.. فسألني أتعمل في الإمارات؟ قلت: نعم.. فزوّدني برسالة إلى صديق له أردني جاء مع البعثة الإماراتية لتختار بعض المدرسين.

ذهبت إلى مقر البعثة المؤقت في حي "اللويبدة" وكان اليوم الخميس، وهو آخر أيام المقابلات، سلمت على الأستاذ سليمان وأبلغته سلام أبي أنس وأعطيته الرسالة، وكانت زوجتي معي، فرحب بنا.. وعلى الرغم أننا كنا لا نملك الأوراق الرسمية فقد أخذ صورة عن الصورة، وقدَّمَنا إلى موجه للغة العربية، فأجرى المقابلة الفنية والعلمية معنا، ودفعنا إلى اللجنة المقررة التي بيدها البتّ في أمر التعاقد..

أذكر أنهما كانا اثنين أما رئيس اللجنة فهو إماراتي واسمه عبد الحكيم وكان الثاني سودانياً نسيت اسمه، وهو الآن مسؤول كبير في تلفزيون السودان؟. أول الأسئلة كان: لماذا تودّ العمل في الإمارات؟

قلت: لأبني مستقبلي وأرتفع بمستواي المادي، ثم لأشارك في بناء جيل عربي مسلم في الإمارات فهذا واجب إسلامي..

ضحك عبد الحكيم وصاحبه، فسألتهما: أهناك ما يستدعي الضحك؟! قال: أنت الوحيد الذي صدق معنا، فتحدّث عن نفسه أولاً، وعن المسيرة التعليمية في الإمارات ثانياً.. كان الجميع يتناسَوْن أنفسهم، ولا يذكرون سوى تنشئة جيل عربي في دولة الإمارات "الشقيقة" وعلى هذا فأنت –وإن كنت آخرهم مقابلة- أولهم تعييناً.. قلت: الحمد لله، هذا ديدني في الحياة، فقد علمنا الخليفة الثاني الفاروق رضي الله عنه: أن نأكل اللقمة بعز، فما قُدّر لنا فهو كائن، فقال: "ويحك كلها بعز ولا تأكلها بذل".

سألني أتعرف الإمارات؟ قلت: درسنا ونحن صغار إمارة الشارقة، وكنا نسمع في الستينيات إذاعتها وأسمع بـ "أبي ظبي" قال: ودبيّ؟ قلت: لم أسمع بها..

قال: هي الآن العاصمة التربوية والاقتصادية.. كان الأمر يسيراً بعون الله تعالى، فالمدرسون يقدّمون أوراقهم ضمن شروط إذا انطبقت عليهم أخذتها البعثة التعليمية الإماراتية في شهر أيار (مايو) ثم ينتخبون في دبي أصلح الطلبات، ويعلنون في سفارتهم في عمان أسماء المرشحين للمقابلة.. ويحددون أسبوعاً لها.. ونحن قدمنا إلى مكان المقابلة في اليوم الأخير معنا أمران اثنان: التوصية.. وقل واسطة، ثم الخبرة التربوية والثقة في النفس، ولا أكون بذلك مغالياً إلا أن الفضل أوله وآخره لله سبحانه وتعالى ثم للأخ أبي أنس والأستاذ سليمان، أما السويدي عبد الحكيم فقد كان واعياً ولطيفاً وظريفاً، والأخ السوداني كان دائم البسمة ذكي النظرة.

نحن الآن في الزرقاء وفي شهر آب "أغسطس" تقول لي زوجتي: أمن العدل أن تزور العراق أكثر من مرة دون أن أراها؟

قلت: ترينها إن شاء الله في الصيف. قالت: وأين نحن من الصيف القادم؟ أمامنا عشرون يوماً للسفر إلى الإمارات، والكلية أغلقت أبوابها ونحن في العطلة الصيفية.. ما رأيك في السفر إلى بغداد؟ وباعتباري رجلاً والكلمة الأخيرة لي قلت لها: أنا حاضر.. وهل يملك الزوج المطيع إلا أن يطيع؟!.. كانت الوالدة رحمها الله تعالى تقول لي: اسمك الآن مطيع وليس عثمان.. –والمقصد معروف- فكنت أرد وما اسم والدي الآن ياأمي؟ فتعبس عبوس الضاحك، وتجيب أأنت مثل أبيك يا ولد؟ فأقول لها: من شابه أباه فما ظلم، فترشقني بعبارات لا أحلى ولا أجمل، تملؤني نشوة فأسترسل في الضحك والمداعبة، فتدفعني بلطف فأمسك بيديها أقبلهما وأحوطها بذراعيّ فتقبلني كأنني طفل صغير.. نعم، أنا صغير بين يديها، وطفل عند قدميها.. رحمها الله تعالى، ورحم أمهاتكم وآباءكم.

حملنا إلى بغداد حقائبنا وفي بعضها بضاعة يرغبها العراقيون فبعناها هناك وربحنا ثمن بطاقتي السفر إلى الإمارات.. وطوّفت بزوجتي كثيراً من الأماكن الأثرية والدينية في بغداد.. وعدنا لنستقل الطائرة إلى دبي ونبدأ رحلة جديدة إلى المجهول.. وهذه هي الحياة.