بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم 23

يومياتي  في أمريكا:

بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

الحلقة (23)

Bridgeport مع الإخوان في بريدج بورت 

بريدجبورت:مدينة صناعية في الجزء الجنوبي الغربي من ولاية كونتيكت الأميركية. يرقى تاريخها إلى العام 1639. سكانها 175,000ن .

)Bridgeport في مساء الجمعة 2 من إبريل سنة 1982 كان ميعادي في مدينة(

لإلقاء المحاضرة المتفق عليها من قبل . انطلقت في السادسة إلا الربع مساء في سيارة الأخ ابراهيم المعتاز .

كان عنوان المحاضرة   "  الوسطية العادلة في القيم الإسلامية  " . كان عدد الحاضرين كبيرا ، وكانت المحاضرة في مسجد الجامعة ... صلينا المغرب ، ثم تناولنا العشاء الجماعي ، ثم صلينا العشاء . ثم كانت المحاضرة التي استغرقت قرابة ساعتين ونصف ، وتناولت المحاضرة المحاور الاتية :   

1- اليهودية : مصادرها التشريعية ، وموقفها من القيم الانسانية .

2- المسيحية : كرد فعل علي اليهودية بماديتها الحادة .

3- موقف الإسلام من هاتيين اللاإمكانيتين .

ـ الإسلام ينظر إلى الإنسان كخليفة لله على الأرض .

ـ النسيج البشري : جسم وعقل وروح .

ـ كيف استطاع الإسلام أن يغذي ويشبع هذه العناصر التي يتكون منها النسيج البشري .

ـ الطابع العام في كل القيم الإسلامية هو " الوسطية العادلة " بلا إفراط  ولا تفريط . وهي سمة مطلوبة  في الأفعال والأقوال ، والعلائق العاطفية . قال عليه الصلاة والسلام " أحبب

أخاك هونا ما ، عسى أن يكون عدوك يوما ما ،واكره بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما " .

والحمد لله رب العالمين الذي كتب لنا التوفيق في هذه المحاضرة ، فكان الإخوة يستمعون وفي عيونهم شوق ، وفي قلوبهم تفتح وإقبال . وكانوا يرغبون في المزيد .

*********

وأجد من تمام الفائدة أن أعرض تفصيلا لبعض هذه المحاور كما القيتها في المحاضرة  : 

القرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة. تكرر في كل معرض من معارض الأمر، والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكِر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه.        ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها النفسانيون وخصائصها، وتتعمد التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص في مواطن الخطاب ومناسباته، فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع، ولا في العقل المدرك، ولا في العقل الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة، وهي كثيرة.. إذ هي جميعًا مما يمكن أن يحيط به العقل الوازع والعقل المدرك، والعقل المفكر الذي يتولى الموازنة والحكم على المعاني والأشياء.

وبهذا المفهوم الشامل للعقل دعا الإسلام إلى النظر، وإلى التفكير والتأمل، ونعى على الذين لا يفكرون ولا يتأملون خلق الله ولا يعملون خلوصًا إلى اليقين:

(وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات: 20 ـ 21).

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 185).

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) (الروم: 8).

(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (سبا: 46).

     وثاني الثالوث في النسيج البشري هو الجسد.. والجسد هو الكيان المادي الذي بنى على الغرائز: غريزة حب البقاء.. غريزة التملك.. غريزة الوالدية.. غريزة المقاتلة.. الغريزة الجنسية.. إلخ.. والغريزة هي العنصر المشترك بين أفراد النوع الواحد وهي ميل فطري يدفع الكائن الحي إلى العمل في اتجاه معين تحت ضغط حاجاته الحيوية وهي بطبيعتها تتطلع إلى الإشباع.

وأغلب هذه الغرائز تدور حول حاجتين: حاجة الفم أو البطن للطعام، والشراب، وحاجة الجنس لكسر الشهوة، وهو طريق لحفظ النوع.

والإسلام لم ينكر مكان هاتين الشهوتين أو الحاجتين في النفس الإنسانية..

1 ـ فحل المشكلة الأولى بإباحة الطعام، والشراب من طيبات ما رزق الله اعتمادًا على العمل الشريف (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)(التوبة: 105).

والعمل يجب أن يكون حلالاً: حلالاً في مادته وبضاعته، فلا عمل مشروعًا بالاتجار في الخمر، أو لحم الخنزير، أو أعراض الناس. كما يجب أن يكون حلالاً في كيفية التكسب من ورائه: فلا غش ولا استغلال ولا ربا ولا كذب".

(وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275).

فإذا ما كان بالمؤمن عجز أو فاقة فهناك التكافل الاجتماعي، بأروع صوره، ومن مظاهره الزكاة، والصدقة.

3 ـ وحل المشكلة الثانية بالزواج: فالزواج هو الحل الجذري لمشكلة الجنس، وكان الزواج في المجتمع الإسلامي الأول ـ حيث حسنت النوايا وطهرت القلوب وسمت الأخلاق ـ أمرًا ميسرًا لم تدخله تعقيدات المدنية وفلسفاتها المتعفنة.

فإذا ما عجز المسلم عن الزواج لسبب ما فهناك إعلاء الغريزة أو السمو بها بالعبادة والصوم على حد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء".

**********

والروح هي العنصر الثالث الذي يستكمل به البناء الإنساني بعد العقل والجسد.. إنها الطاقة الغيبية الخفية الحية التي تعتبر بالإجماع سر حياة الكائن البشري، بل سر حياة كل كائن حي.. ومهما قال العلماء فيها أثناء الحياة، وبعد الموت فهي ما زالت سرًا غامضًا. وستبقى سرًا غامضًا؛ لأن الله سبحانه وتعالى اختص نفسه بها.. (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (الإسراء: 85).

وكما أن إشباع العقل يكون بالعلم والاختراع والكشوف.

وكما أن إشباع حاجتي البطن والفرج يكون بالطعام والشراب والزوج.

كان لا بد من إشباع الروح حتى لا يختل توازن هذا الثالوث الإنساني. وإشباع الروح في الإسلام، لم يأت على حساب العقل والجسد، ولكنه أتى ليأخذ مكانه في حيزه المعد له ، فلا يختل البناء الإنساني ، ويميل الميزان لغير صالح الفرد وغير صالح الجماعة.

فكما دعا القرآن إلى النظر والتأمل وإعمال العقل:

وكما دعا إلى التمتع بطيبات الحياة من طعام، وشراب، وزينة.

أمرنا الله كذلك بأن نغرس في نفوسنا الإيمان بالله، وأن نحيي أرواحنا بالثقة: الثقة بالله، والثقة بالدين، والثقة بالنفس إلى أبعد مدى، يقول الله سبحانه وتعالى.

(لإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (سورة قريش:1ـ4).

وهذه الكلمات العلوية الموجزة تجمع بين النوعين من الإشباع: إشباع الحاجات المادية، وإشباع الحاجات النفسية أو الروحية.

إشباع الحاجات المادية مثلت له الآيات بالإطعام من الجوع، والإطعام هنا مذكور على سبيل التمثيل لا الحصر، فالآية تتسع لنعمة الله في إشباع كل الحاجات المادية الأخرى:

كحاجة الإنسان للري من عطش والزواج لحفظ النوع، والحماية من الحر والبرد بالملبس والسكن. وهو تفسير يؤيده واقع هذا الإنعام من الله ـ سبحانه وتعالى ـ على عباده مؤمنهم وكافرهم. (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم: 34).

أما إشباع الحاجات المعنوية أو النفسية فقد مثلت له الآية بالتأمين من الخوف. وهي نعمة كسابقتها، مذكورة على سبيل التمثيل لا الحصر. والخوف هو آفة المشاعر النفسية كلها،

والخائف المفزوع لا يهنأ له طعام، ولا يلذ له شراب، ولا يسعد بملبس أو مسكن.

ولكن كيف يأمن الإنسان من الخوف؟ وكيف يتأتى له أن يكون قوي الروح صلب النفس؟ إن أصل كل أولئك ومفتاحه في "عبادة رب هذا البيت".. في الإيمان العميق.. العميق بالله سبحانه وتعالى.. بحيث يصير المؤمن من فئة (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: 173).

إن قمة الإيمان بالله، هي نفسها قمة العبودية له، هي نفسها قمة العزة أمام البشر، هي نفسها قمة النصر والغلبة على كل من يتصدى للمؤمنين.

نعم: حسبنا الله، ونعم الوكيل، ولا حسب ولا كفاية إلا لله، وبالله، وعلى ذلك الاختصاص..   ـ اختصاص الله بالحسب والكفاية ـ  جاء الاستعمال القرآني:

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) (الأنفال: 62).

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الأنفال: 64).

(وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) (التوبة: 59).

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: 3).

والإيمان لا يمنح المؤمن شجاعة وقدرة فحسب، ولكنه يمنحه الطمأنينة والقرار.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).

واطمئنان القلب لذكر الله ليس له حصيلة منطقية أيضًا. فما ذكر الله؟ إنه استشعار وجود الله في النفس والضمير والوجدان، في الصلاة والصيام والقيام، واليقظة، والمنام، والمنشط، والمكروه، والسراء، والضراء.. إنه يشمل كل هذه الأعمال والمواقف. والله هو القوي المتعال، وهو القوي القهار الجبار.. وهو نعم المولى ونعم النصير.

وذكر المؤمن لله يعني استشعاره لله سبحانه بكل هذه الصفات التي تتضاءل أمامها كل قوى البشر... من هنا تأتي الطمأنينة نتيجة منطقية لهذا الشعور الإيماني، فالإنسان بالإيمان شاعر أنه قوة خادمة للإلهية، عاملة للتعمير وإقرار الحياة ، فاهم أنه قيوم صغير نائب عن القيوم الأكبر .

والإيمان بالله يمنح الروح طاقة قادرة على الصمود أمام كوارث الحياة، وهو في حالتي احتمالها، ووقوعها ثابت لا يهتز، قوي لا يقهر. ولا يتقهقر؛ لأن من مقتضيات الإيمان التسليم قولاً وعملاً بقاعدة أزلية ربانية هي: (لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) (التوبة: 51).

والإيمان بالله يعطي المؤمن ـ كما ألمحنا ـ ثقة بالنفس واعتزازًا بها واستعلاء على صغار الحياة وصغائر الأحياء. (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: 8) والمؤمن بالله لا يعرف المهانة والذلة، ولا يستسلم للضعف والحزن (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139).

***********

الجمعة 2 من إبريل 1982

قطرات نفس

من رسالة عن العقاد  

... هذا جزء من رسالة أرسلتها إلي الأخ عامر العقاد ابن شقيق عباس محمود العقاد رحمه الله . وكان بيننا تراسل دائم . وهذا الجزء من رسالتي التي أرد فيها على نقاط اختلفنا فيها تتعلق بأستاذنا العقاد :

... يا أخانا العزيز أنت تعلم كم أحب العقاد ، وكم أعتز به وبفكره وأدبه وتحليلاته ، ولكن ليس معنى هذا أن نأخذ أنفسنا بقاعدة " الإطلاق " ، فمن حقنا أن نبدي رأينا الصريح فيمن نحب ، بصراحة كاملة . أنت تعلم أن ما أقوله لك الآن قلته ورددته في محاضرات متعددة ، وخلاصته : أن العقاد العملاق لا يعيبه ـ فكريا ـ إلا أمران هما :

1- كثير من كتاباته السياسية التى بلغ بها حد التطرف والغلو والمغالطة ، كما نرى في كتابه " هلتر في الميزان " ، أما ما كتبه عن الإخوان المسلمين فيمثل عارا فكريا ذميما ، فقد كتب عدة مقالات في صحيفة " الأساس " التى تنطق بلسان حزب من أحزاب الأقلية اسمه " الحزب السعدي " ، وكان عنوان المقالات " خُـوَّان المسلمين " ، وفيها يذكر أن الشيخ حسن البنا من أصل يهودي ؛ لأنه وأباه كانا يعملان في " تصليح الساعات " ، وهو عمل اختص به اليهود ، كما يقول العقاد .       

وهو ـ يا أخ عامر كما ترى ـ  دليل ساقط ، لأن الشخص لا تعتبر صناعته دليلا على جنسيته ، وإلا لحكمنا على كل المشتغلين في مصر بالمصنوعات الذهبية بأنهم من أصول يهودية ؛ لأن هذه المهنة كان اليهود يحتكرونها .

2- وكذلك الشعر ، فأنا أرى أن العقاد في نظمه ذهني فكري ، ونظمه خال من الرواء والتدفق الوجداني . مع أن له عشرة  دواوين ، وكان سيد قطب ـ رحمه الله ـ  يقول : للعقاد عشرة دواوين  أتمنى قبل أن أموت أن أجمع ما فيها من ( الشعر ) في ديوان صغير لا يتعدي الصفحات المائة .

ورأيي هذا ـ ياأخ عامر ـ لا ينقض اعتزازي وإيماني بفحولة العقاد خارج نطاق ما ذكرت .

 وقد أكمل بقية رسالتي ، أو رسائلي إليك فيما بعد بمشيئة الله .