سلسلة رحلتي الثانية إلى المغرب 4+5

سلسلة رحلتي الثانية إلى المغرب 4

عبد الرحمن البدوي

clip_image002_c3a3b.jpg

لأول مرة ألتقي بالأستاذ اليمني عبد الرحمن محمد علي المولّد، وأنا أزور المغرب للمرة الثانية، عبر بيت الزميلة الإعلامية بشرى شاكر، والملتقى الدولي حول وسائل الإعلام والعنف، بمنطقة ابن جرير.

أبدي له إعجابي بأهل اليمن جميعا دون استثناء، وبأنهم أصل العرب، وبأن فصاحتهم وبلاغتهم بادية على ألسنتهم وكتاباتهم.

يعجب بما أقول، ويضيف.. من عادة اليمن حين يلمس أن ضيفه لم يحسن إليه، يرسل له رسالة يشرح فيها أسباب تذمره من مايراه سوء ضيافة، فيضطر صاحب البيت إلى أن يعيد الضيافة خاصا به. لكن الضيف لايمكنه أبدا أن يعلن غضبه واعتراضه على الضيافة، مهما أساء صاحب الدار.

الأستاذ عبد الرحمن، رجل هادىء، قليل الكلام، يتحدث عن الشعر والأدب، ويكره الحديث عن السياسة، يعشق الموسيقى العربية الأصيلىة ويطلب من الجميع الإصغاء إليها، بل يرفض الحديث في أمر آخر غيرها، ويفرح كثيرا حين يلمس في محدثه الجزائري نفس الرغبة والإصغاء لكل ماهو عربي أصيل.

يقول لي اليمني.. لو كنت أعرفك من قبل لما غادرت الجزائر، باعتباره زار الجزائر من قبل. ويبدو أنه من سوء حظه، أنه نزل بالجزائر أيام الجلدة المنفوخة، ورأى بأم العين بعض التصرفات الغريبة عن المجتمع الجزائري، واعتبرها من أخطاء المجتمع الجزائري وطبيعته، بينما هي في الحقيقة كانت تعبيرا عن ردة فعل لما تعرض له الجزائري من شتائم وسباب مسّت شهداءه وتاريخه ورموزه ووطنه.

يقول لي.. الصحف عندكم في الجزائر، تسعى لأن يكتب لها الكاتب بالمجان وهذا من غير المعقول، لأن الكاتب يتعب ويرهق نفسه أثناء إعداد المقال، ومن غير المعقول أن يضيّع جهده سدى دون مقابل.

يحدثني عن الجفاء الذي تعرض له وهو يزور العاصمة الجزائرية. أجبته بصدق بأن الجزائر العاصمة تعبّر عن منطقة ضيقة كغيرها من المناطق. والعاصمة تمتاز ..

بالبخل ، وعدم الضيافة، والتباهي المبالغ فيه، وارتفاع السعار، وسوء الخدمات، والتظاهر في غير محله، واحتقار الآخر.

وأنصحه أن يزور المناطق الداخلية والصحراوية، حيث الكرم الحاتمي، والضيافة العربية، والتواضع، والخلق النبيل، والفطرة السليمة، والتلقائية في الاستقبال والضيافة.

أقول له دوما.. سيّدتنا بلقيس عليها وحّدت وبنت، فلماذا أصابكم داء الفرقة وهدم الدار بأيديكم.

أخبره أني كتبت عدة مقالات عن اليمن، لعلّ أشهرها سلسلة "الحرب على اليمن" ، و سلسلة "اليمن البعيد.. متى يكون سعيدا"، تحدثت عبرها عن اليمن الموحد، دون أن أميل لطرف دون الآخر.

حين يكون زميلنا عبد الرحمن اليمني مع زميلنا سامي حسين السعودي، يتحدث الجميع عن الوحدة السعودية اليمنية في أبهى صورها وأنصع أثوابها، فالحلم أحيانا ينسي بعض الجراح.


سلسلة رحلتي الثانية إلى المغرب 5

عاصم اللبناني

clip_image001_58e2c.jpg

إسمه Assi Abdul Hussein، وأنا أناديه عاصم، ويعجبه كثيرا مناداتي له بعاصم، بل أصبح بعض الزملاء ينقلون عني اللقب الجديد وينادونه به، منذ اللحظة الأولى التي إلتقيته فيها أول مرة بالدار البيضاء، وألتقي به هذا الشهر للمرة الثانية خلال رحلتي الثانية للمغرب. يحدثني الأستاذ عاصم عن مستواه العلمي، فيقول..

" أحمل دكتوراه في علم التربية ( علم نفس عيادي ) مبنية على ثلاث إجازات جامعة: أدب عربي ... علم نفس ... سياسة واقتصاد.".

 عن حبه الشديد للجزائر، الثورة الجزائرية حين كان طفلا صغيرا يحدثونه عن بطولات المجاهدين الجزائريين. وبقيت هذه الصورة الناصعة عن الجزائر راسخة، وتزداد رسوخا بعد مرور عقود من الزمن. ثم يلتفت إلي بحزن شديد، ويقول بصوت حزين..

آلمني كثيرا ماتعرّضت له الجزائر إبّان العشرية الحمراء، حين قتل الجزائري أخاه الجزائري، وماكنا نعتقد أن الجزائري يصل إلى هذا الحد من العنف والدماء. ثم يأخذ نفسا عميقا، ويقول..

الحمد لله أن الجزائر تعدت محنتها بسلام وأمان، رغم الجراح التي تركتها العشرية الحمراء.

أتدخل لأضيف، فأقول.. إمتازت الجزائر بكونها عالجت مشاكلها الدموية بأيدي أبناءها ولم يتدخل أحد من خارج الدار. ولو عولجت قضايا العرب بأيدي أبنائها لما حدث مايحدث الآن من دمار ونسف وزهق.

يقول لي دوما، الجزائر بلد المليون ونصف المليون شهيد، وهو يفتخر بالجزائر. أشكره، ثم أجيبه مصححا ومضيفا، فأقول..

عدد المليون ونصف المليون شهيد يتعلق بالفترة الممتدة من إندلاع الثورة الجزائرية سنة 1954 إلى إسترداد السيادة الوطنية سنة 1962، لأنه لايعقل أن يظل عدد سكان الجزائر على حاله منذ الاستدمار الفرنسي للجزائر سنة 1830. ثم إستحضرت محاضرة الأستاذ محمد راتول، ألقاها بكلية العلوم الاقتصادية منذ 10 سنوات فيما أتذكر، يقول عبرها..

لو تم تجاهل عدد الجزائريين الذين ماتوا بالأمراض الفتاكة، والأوبئة القاتلة، لأصبح عدد سكان الجزائر اليوم 80 مليون نسمة، مايعني أن الاستدمار الفرنسي منذ سنة 1830، أباد 80 مليون جزائري وليس مليون ونصف مليون شهيد كما هو شائع، مايدل على فضاعة وحجم الدمار الذي ألحقه الاستدمار الفرنسي بالبنية البشرية للجزائر.

يحدثني بألم شديد عن الجهل الذي فرضته تركيا على جنوب لبنان إبّان الحكم العثماني، بدليل أنه حين أراد لبنان أن يختار من كل جهة من يمثله في البرلمان الجديد، شريطة أن يكون صاحب شهادة جامعية، فلم يجدوا من يمثل جنوب لبنان، لأنه لم يكن من يحمل شهادة جامعية. وكانت هذه جريمة نكراء في حق أبناء الجنوب، فيجيب عاصم بالحرف الواحد..

" قسّم لبنان إلى خمس محافظات عندما نال استقلاله عام 1943، ولما كان ابن الجنوب ( وما يعني مذهبيا ) من حيث عدد السكان هو الثاني ... ولما كان على من يكلف برئاسة المحافظة أن يحمل إجازة جامعية .. فلم يجدوا في كل لبنان من هذه الطائفة من يحمل إجازة جامعية ... فعين خمسة محافظين من بقية المذاهب ".

واضح جدا أنه يحمل الهم العربي ويدافع عنه من خلال جنوب لبنان، التي يعتبر قادتها بأنهم الأفضل والأحسن. وأبقى أخالفه النظرة الضيقة والمحصورة في جغرافية معينة، أو شخص بذاته، أو مذهب بعينه ، لكن بأدب واحترام، ودون إثارة المشاعر الدينية والعاطفية، وأجزم أنه يبادلني نفس المحبة والشعور.

خلال 5 أيام التي قضيتها في ضيافته، ورغم أنه يسكن بمفرده، فإن عاصم الذي يحرص دوما على أن يريح ضيوفه العرب، ويمتّعهم بكل أنواع الطعام والشراب.

وواضح جدا أنه يحسن تقديم أنواع الطعام بشكل صحي، فكان في كل مرة يعرض على علي الجانب الطبي للفاكهة الفلانية والطعام الفلاني.

يفتخر دوما بأنه يقدم لنا الشاي اللبناني، وأطعمة وأشربة لبنانية أخرى، ويتفنن في عرضها وتقديمها.

وقد أكرمني ربي أن تمتعنا بأكل وشرب عاصم رفقة زميلنا السعودي سامي حسين، أنواعا جديدة لم أعهدها من قبل.

تعلمت منه طريقة قلي البيض بالماء عوض الزيت، وأن أحسن الفواكه ماكانت صغيرة الحجم، وأن شرب الماء أثناء يفسد ويهلك، وأن القراءة أثنا السير يضر بالعين، والإنسان إذا لم يستطع النوم أغمض عينيه وأطفأ الأنوار، فإن ذلك راحة للعينين.

ومن الأطعمة التي أثرت وما زلت أحن إليها هي عسل الخروب، فقد أكثرت منه صباح مساء، ولو أن عاصم لم يعلمني أنه يسيب آكله بالإسهال، لأتيت على كل كمية العسل الموضوعة فوق الطاولة طيلة تواجدنا ببيته.

وعاصم يعيش بمفرده، ولا يشكو نقصا في مادة أو خدمة، اللهم إلا النقص الذي يعانيه من كان في سنه وصحته وبعده عن أهله.

فيجد المرء كل أنواع الأكل والشرب عبر الثلاجة والمبرد وبكميات كبيرة جدا، تجعله لايطلب العون من أحد، ويستغني عن أية مساعدة مادية، وأركز في هذا المقام على المادية.

لايتركنا أبدا ندفع ثمن العصير أو القهوة، وكم من مرة أدفع الثمن، إذ بصاحب المقهى يخبرني أن عاصم سبقني لدفع الثمن.

أقول له.. أتركني أسجل هذف الشرف، فيجيبني بابتسامة، لن أمنحك هذا الشرف مادمت في ضيافتي وضمن رعايتي.

يحدثني بحزن عن الفشل الذي أصاب مصنع الحلويات الذي أنشأه بضواحي دار البيضاء، وبأنه مازال يدفع مستحقات الماء والكهرباء وغيرها من المستحقات.

حين وصلت الجزائر، راسلته قائلا: السلام عليكم.. حاولت أن أتصل بك، لكن عطب أصاب المحمول.. قرأت كتاب "بين الله والإنسان" الذي أهديتني إياه في الطائرة، فبكيت مرتين للبعض المواقف التي ذكرها الكاتب.. الكتاب كان أفضل أنيس، سأواصل قراءته فيما بعد.. تستحق كل الشكر والثناء على الخدمة الطيبة والاستقبال الأخوي.. سلامي للجميع وللزميلة بشرى.. لنا لقاء عبر الأسطر.. في انتظار أن أرتاح من وعثاء السفر.. سلامي وتقديري.

فيجيبني قائلا.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد : الحمد لله كثيرا على وصولك بالسلامة كما أحمده على رزقه لي بأخ مؤمن منفتح على الحقيقة طيب ... كل الدعاء للعائلة بأن يحرسكم الله لتكملة الأمانة كما يطلب ويرضى ....أكرر محبتي ودعائي.

وسوم: العدد 659