الشيخ العلاّمة عبد الله بن محمد بن حميد

المستشار عبد الله العقيل

 (1329 - 1402ه / 1911 - 1982م)

مولده ونشأته

هو العالم الجليل والقاضي الفقيه الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين بن حميد، وُلد بمدينة الرياض في شهر ذي الحجة سنة 1329ه/ 1911م، وقد كُفّ بصره في طفولته، ولم يكن ذلك عائقًا له عن طلب العلم، فحفظ القرآن الكريم، وأخذ مبادئ العلوم الشرعية وهو صغير السن.

ومن مشايخه الذين تتلمذ عليهم: الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ سعد بن عتيق، والشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، والشيخ حمد بن فارس وغيرهم.

ولكن أكثر ملازمته كانت للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وكان ابن حميد ذا ذكاء مفرط، وعقل راجح، ونظر بعيد، وفهم عميق، جعل له الذكر الحسن والصيت الطيب برغم أنه في سن الشباب.

رُوي عن الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، أنه قال في حق الشيخ ابن حميد: «لو كنتُ جاعلًا القضاء والإمارة جميعًا في يد رجل واحد، لكان ذلك هو الشيخ عبد الله ابن حميد».

تولى القضاء في الرياض عام 1357ه  1938م، وعمره ثمان وعشرون سنة، ثم نقل إلى مقاطعة (سدير) حيث ولي قضاءها، ثم إلى منطقة (القصيم) حيث ولي القضاء فيها وأقام في مدينة «(ريدة)، وكان يتولى الإفتاء والتدريس والإمامة والخطابة، إلى جانب القضاء، ثم انتدبه الملك عبد العزيز لمحاكم مكة المكرمة، والطائف، وجدة، والمدينة المنورة.

وفي عام 1377ه / 1957م طلب الإعفاء من القضاء ليتفرغ للتدريس والإفتاء فأُجيبَ إلى طلبه.

وفي عام 1384ه/  1964م تولى الرئاسة العامة للإشراف الديني على المسجد الحرام بقرار من الملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز، كما تولى التدريس بعد المغرب في المسجد الحرام كل يوم.

وفي عام 1395ه/  1975م عيَّنه الملك خالد بن عبد العزيز رئيسًا لمجلس القضاء، فصار رئيس القضاة ومرجعهم، كما كان عضوًا في هيئة كبار العلماء، ورئيسًا لمجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وعضوًا في المجلس التأسيسي للرابطة، وعضوًا في المجلس الأعلى للمساجد، ورئيسًا للجنة جائزة الدولة التقديرية.

يقول عنه الشيخ المحقق عبد الله البسام صاحب كتاب (علماء نجد خلال ثمانية قرون) وهو الذي اعتمدنا عليه كثيرًا في ترجمة الشيخ ابن حميد:

«لقد كان الشيخ عبدالله بن حميد، محل إجلال وتقدير من ولاة الأمور، وصاحب الإشارة والكلمة النافذة، حيث يجلِّونه، ويعرفون قدره، ويحترمونه غاية الاحترام، لسعة علمه، وبُعد نظره، ونصحه لعامة المسلمين وولاتهم، وما يقوم به من خدمة الإسلام والمسلمين، وهو من كبار علماء الإسلام وعقلائهم ووجهائهم، يمتاز بالأناة والرويَّة، كثير الصمت إلاّ فيما ينفع، حادّ الذكاء لا يمكن أن يُخدع، يحتاط في كل ما يقوله أو يفعله، لا ينخدع بالمظاهر مهما كانت، ولا تغره الدعاوى، كان يرى أن اتحاد المسلمين هو العلاج الوحيد لنصرة المسلمين.

هو عالم فقيه لا يشق له غبار، وبخاصة في فقه الحنابلة، ولي معه صلة وثيقة، ومودة أكيدة، وعلاقة علمية، هي أقوى وأوثق من علاقة النسب.

وقد اشتركتُ معه في أعمال علمية كإلقاء الدروس في المسجد الحرام والندوات العلمية في موسم الحج..» انتهى.

مؤلفاته

من أهم مؤلفاته:

- الدعوة إلى الجهاد في الكتاب والسُّنَّة

- كمال الشريعة وشمولها لكل ما يحتاجه البشر

- دفاع عن الإسلام

- حكم اللحوم المستوردة وذبائح أهل الكتاب

- هداية الناسك إلى أحكام المناسك

- الإبداع في شرح خطبة حجة الوداع

- تبيان الأدلة في إثبات الأهلة

- إيضاح ما توهمه صاحب اليسر في يسره من تجويز ذبح دم التمتع قبل وقت نحره

- غاية المقصود في التنبيه على أوهام ابن محمود

- نقد نظام العمل والعمال

- الدعوة إلى الله: وجوبها، وفضلها، وأخلاق الدعاة

- رسالة في حكم التلفزيون

- الرسائل الحسان

- توجيهات إسلامية

- رسائل موجهة إلى المعلمين

- رسائل موجهة إلى العلماء

- المجموعة العلمية السعودية (تحقيق ومراجعة)... إلخ.

كما كانت له دروس ومحاضرات، وندوات، وأحاديث إذاعية، وفتاوى كثيرة لا يحصرها العدّ، ونأمل من أولاده: صالح، وأحمد، وإبراهيم، وإخوانهم أن ينهضوا بمهمة جمعها وإخراجها ليستفيد منها طلبة العلم.

صلتي به

ولقد بدأت صلتي به من خلال المراسلة حيث كتبتُ له - حين كنت بلجنة الموسوعة الفقهية بوزارة الأوقاف الكويتية - طالبًا مشاركته في بحوث الموسوعة الفقهية التمهيدية، كما كنت ألتقيه حين ذهابي إلى الحج أو العمرة أو مؤتمرات الرابطة بمكة المكرمة وأستفيد من علمه وتوجيهاته، وكنت معجبًا غاية الإعجاب بصراحته في قول الحق، وإسداء النصح لولاة الأمر، كما كنت مشدودًا إلى قوة حجته في الترجيح بين الأقوال الفقهية، وباعه الطويل في المناظرة المعززة بالدليل النقلي والعقلي، وغيرته على أوضاع المسلمين.

وكان يرى أن العودة إلى منهج الكتاب والسُّنَّة والاقتداء بسيرة السلف الصالح من القرون الأولى هي المخرج من الضياع الذي يعيشه شباب المسلمين اليوم، ويرى أن المسؤولية على المسلمين بعامة، ولكنها تتأكد على الأمراء والعلماء والأغنياء بخاصة، فالأمراء عندهم قوة السلطان، والعلماء عندهم قوة العلم، والأغنياء عندهم قوة المال، ومن هنا فلا بد من تضافر كل القوى للوقوف أمام الباطل، ونصرة الحق، والدعوة إلى الله على بصيرة.

وحين توليت الأمانة العامة للمساجد برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، توثقت صلتي بالأخوين الكريمين ابني الفقيد ابن حميد، وهما الدكتور صالح، والدكتور أحمد، وتعدَّدت لقاءاتي بهما، وكانت محاورات وأحاديث ذات شجون عن أحوال العالم الإسلامي، وكيفية النهوض بالأمة الإسلامية، لتستعيد مكان الصدارة بين الأمم، كما كانت من قبل، وواجب العلماء في التوجيه والإرشاد والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، من خلال الكلمة المسموعة والمقروءة والمشاهدة.

شخصية عالمية

إن أستاذنا الشيخ عبد الله بن حميد، كان شخصية عالمية، تعيش مشكلات المسلمين، وتتحسس قضاياهم، وتشارك في تخفيف وطأة الظلم عليهم، حيث كانت له مجالس مع القادمين من العالم الإسلامي، أثناء موسم الحج أو العمرة، أو المؤتمرات الإسلامية بمكة المكرمة، تبحث فيها كل المشكلات، وتطرح الحلول المناسبة لكل منها، وينهض الشيخ ابن حميد بنفسه في عرض الأمر على ولاة الأمر، ليقوموا بدورهم بما أوجبه الله عليهم، من رعاية شؤون المسلمين وخدمة قضاياهم وتقديم العون لهم.

إن هذا الدور الكبير الذي قام به الشيخ ابن حميد كان له أبلغ الأثر في نفوس أبناء المسلمين في العالم الإسلامي، الذين يبحثون عن علماء الصدق، ورجال المواقف، الذين يقودونهم إلى مواطن العز والسؤدد، ويرفعون راية الإسلام ويعلون مكانة العلم والعلماء، وينصحون الحكام لما يصلح دينهم ودنياهم، وقد كان الشيخ ابن حميد أحد هؤلاء العلماء، الذين اضطلعوا بحمل المسؤولية ونهضوا بتبعات الدعوة إلى الله، على منهج الكتاب والسُّنَّة، وإسداء النصح للحكام، وتقويم العوج والخلل في المجتمعات الإسلامية، وتصحيح المفاهيم عن الإسلام وأحكامه، وتثبيت أسس العقيدة الصحيحة.

ولقد كان الشيخ ابن حميد وإخوانه وزملاؤه من العلماء في العالم العربي والإسلامي، نماذج صادقة لهذا الإسلام العظيم، أعلوا مكانة الدين الإسلامي، ورفعوا قدر العلماء والدعاة، ووقفوا إلى جانب الشعوب المسلمة، وتبنّوا قضاياها، وأفتوا لعامة الناس أحكام دينهم، ووجّهوهم للالتزام بالإسلام، عقيدة وشريعة ومنهج حياة للفرد والأسرة والمجتمع والدولة.

إن حاجة العالم الإسلامي اليوم، تتمثّل في وجود مثل هذه النماذج الفذّة من الرجال، الذين يؤثرون ما عند الله على ما عند الناس، ويصدقون مع الله، ويخلصون نيتهم له، ويبذلون قصارى جهدهم لأداء الواجب المنوط بهم.

كان ابن حميد يُزيّنه التواضع مع الجميع، وحسن الإنصات لفهم مشكلات الناس، والعمل الجاد لتقديم المستطاع من الجهد لحلّ مشكلاتهم ومعضلاتهم، دونما ضيق أو ضجر.

صورة صادقة

كما كان صورة صادقة، للعالم المسلم المعتز بدينه، الواثق بنصر الله وتأييده برغم كل العقبات التي توضع في طريق الدعاة إلى الله، لأن الابتلاء والامتحان سُنَّة من سنن الله (عز وجل)، ولن يستطيع أحد، كائنًا من كان أن يحول دون انتشار الإسلام وغزوه القلوب والنفوس والعقول، فهو الدين الخالد، وهو خاتم الأديان، والمسلمون هم الأمة الوسط والشهداء على الناس، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام والفريضة الماضية إلى يوم القيامة.

والإسلام نظام شامل كامل لكل شؤون الحياة، والقرآن الكريم والسنة المطهرة هما مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام.

ويفهم القرآن الكريم طبقًا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسّف. ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات، وعلماء الفقه الأثبات.

لقد استمر الشيخ ابن حميد في دروسه ومحاضراته وفتاواه وندواته واستفاد من هذه الدروس والفتاوى خلق كثير والحمد لله.

حدثني الأخ الحبيب الشيخ عبد الله المطوع - رئيس جمعية الإصلاح الاجتماعي بالكويت - عن همة الشيخ ابن حميد ونشاطه العلمي والدعوي والخيري ومحبة الناس له وتقديرهم لعلمه وجهوده في خدمة الإسلام والمسلمين من خلال المهمات التي اضطلع بمسؤوليتها في سائر المواقع التي تولاها وأثنى عليه جميل الثناء حيث حضر جنازته.

قال الشيخ ابن حميد في تصديره لكتاب (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية) التي قام بجمعها عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وطبعت على نفقة الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود:

«من نعم الله على عباده أن جعل العلماء ورثة الأنبياء يُعلِّمون الناس الخير، وينيرون لهم طريق الحق وسبل الرشاد، يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، يبينون لهم الحلال من الحرام، والحق من الباطل، والسُّنَّة من البدعة.

وشيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) ورفع درجاته في العليين، أحد هؤلاء العلماء الذين نفوا عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، لقد بارك الله في أوقاته، ونفع بعلومه في حياته وبعد مماته، فترك من بعده آثارًا عظيمة وعلومًا جمة استفاد منها وتلقاها الناس بالقبول وصارت منهلًا عذبًا، ومعينًا صافيًا، ومرجعًا معتمدًا للعلماء والباحثين.

أثنى عليه العلماء وذكروا عن قوة حفظه وذكائه شيئًا عجيبًا لا يتسع المقام لبسطه. وبين أيدينا الآن هذه الموسوعة الضخمة من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية يعاد نشرها على نفقة الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود بعد أن تكاثر الطلب على هذه الفتاوى من علماء المسلمين في كل مكان..» انتهى.

وقد كان الملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز آل سعود، يجلّ العلماء، ويقربهم من مجلسه ويستمع إلى نصائحهم وتوجيهاتهم، وفي أحد الأشرطة المسموعة والمشاهدة المحفوظة لدى مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض يخاطب الشيخ ابن حميد الملك الشهيد فيصل ابن عبد العزيز آل سعود في المجلس الذي ضم العلماء كابن باز وابن حميد وغيرهما قائلًا: «أعتقد أن الشعوب فيها خير ولكن البلاء في القادة، والشعوب فيها الخير بالجملة».

فيجيب الملك الشهيد: «إن المشاكل تجيء من القادة.. وربنا (سبحانه وتعالى) أوجد هذا التشريع لمصلحة البشر في دنياهم وآخرتهم، ولا شك في أن القادة هم المسؤولون عن تطبيق الشريعة والتمسك بالتشريع الإسلامي، وهذا من فضل الله عليهم».

وقد شاء الله (عز وجل)، أن يبتليه بمرض لم يمهله طويلًا، كان فيه صابرًا محتسبًا، راضيًا بقضاء الله وقدره، آخذًا بالأسباب المأمور بها، لأن قضاء الله لا بد أن ينفذ، وقد وافته المنية وهو بمستشفى الهدى في الطائف يوم الأربعاء (20/12/1402ه  1982م) وقد صُلي عليه في المسجد الحرام بعد صلاة العصر، ودفن في مقبرة العدل بمكة المكرمة.

وقد حضر التشييع جماهير غفيرة من طلبة العلم ومحبي الشيخ وعارفي فضله وفي مقدمتهم العلماء والأمراء والأعيان وغيرهم.

ولقد رثاه الشيخ محمد بن عبد الله السبيل بقصيدة نقتطف منها:

على مثل هذا الخطب تهمي النواظر

ألا أيها الناعي لنا علم الهدى

لئن كان هذا النعي حقًا فإنما

نعيت الذي يبكيه محراب مسجد

وتبكيه دور العلم كان ينيرها

بكته ذوو الحاجات إذ كان ملجأ

مضى ابن حميد بالمفاخر والتقى

وتذري دماء مقلة ومحاجرُ

أصدقًا تقول أم مصابًا تحاذرُ

نعيت الذي يبكيه باد وحاضرُ

ويبكيه تذكير وتبكي المنابرُ

بفهمٍ دقيقٍ يجتنيه المثابرُ

يدافع عن ملهوفهم ويناصرُ

فللَّه عمر بالفضائل زاخرُ

كما رثاه الشيخ أحمد الغنام من الكويت بقصيدة جاء فيها:

عزاء بني الإسلام قد عَظُمَ الأمرُ

فشيخ المعالي غاب عنا مسافرًا

لقد ثُلمتْ في الدين يا صاح ثلمة

فتاواه في البيت المحرم حجة

فإن غبت عنا أنت في القلب حاضر

وليس لنا إلاّ التجلد والصبرُ

إلى ربّه قد ضمّه اللحد والقبرُ

بموت حميد السعي وانقصم الظهرُ

بفتواه كل يهتدي البدو والحضرُ

مآثرك الجُلى هي الطيب والذكرُ

رحم الله أستاذنا الجليل الشيخ عبد الله بن حميد، وغفر الله لنا وله، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

وسوم: العدد 875