الشيخ العلامة المربي عبد الرحمن محمد توفيق الباني

sgfgf1040.jpg

(1335- 1432هـ/ 1917- 2011م)

هو الشيخ العلامة المربي عبد الرحمن بن محمد توفيق بن عبد الرحمن بن إبراهيم الشيخ عثمان الباني (نسبة إلى الولي: قضيب البان الموصلي) الحسَني، أبو أسامة، يرجع نسبه إلى الحسن المثنَّى ابن الإمام الحسن ابن أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

يعدّ الشيخ من رواد التربية الإسلامية، وهو أحد رجالات الحركة الإسلامية المعاصرة في سورية.

المولد؛ والنشأة:

   ولد في حيِّ الدقَّاقين بدمشق في (شعبان 1335هـ/ حَزيران 1917م) لأسرة دمشقية عريقة مشهورة بالعلم والفضل والتواضع وحسن الخلق.

وكان يلقَّب بعبد الرحمن الباني الحفيد (بالنسبة إلى جدِّه عبد الرحمن)، وبالباني الصغير (بالنسبة إلى أخويه الدكتور بشير والأستاذ عبدالهادي)، وبعبد الرحمن المناهجي (لولوعه بوضع المناهج، واهتمامه بتعديلها وتصحيحها)، وبأحمد بن حنبل العصر (لحرصه على التزام السنَّة والتأسي برسول الله ، مع اللين والرفق في النصح والدعوة).

وصفه؛ وشمائله:

علامة ربَّاني، وداعية مصلح، ومربٍّ من طراز فريد، زاهد عابد، وإمام قدوة، سلفيٌّ معمَّر، من بركات العصر وبقية السلف الصالح، ونوادر الدهر في الورع والتقوى والاستقامة، ومن الذين يُؤثِرون العمل بعيدًا عن الأضواء والشهرة.

صادق اللهجة، ليِّن العريكة، يألف ويؤلف، من الأمَّارين بالمعروف الناهين عن المنكر، بأسلوب يفيض رقة ولطفًا.

قارئ نهم مدقِّق، واسع الاطلاع على التراث العربي والإسلامي المطبوع، يملك مكتبة ضخمة من أكبر المكتبات الخاصَّة، تحتوي نوادرَ البحوث والدراسات.

صاحب آراء إصلاحية غير مسبوقة في قضايا التربية الإسلامية، وذاكرة قوية حاضرة.

كان يرى أن ما يسمَّى في المدارس مادة التربية الإسلامية لا يعدو أن يكونَ مقتطفات من العلوم الإسلامية، يصلح أن تسمَّى ثقافة إسلامية، أما التربيةُ الإسلامية فيجب أن تكون منهجًا متكاملاً شاملاً يُربَّى عليه أبناء المسلمين في المدرسة والبيت والمسجد والسوق وكل مكان.

قضى أكثر من سبعين سنة في ميادين التربية؛ طالبًا ومتعلِّمًا، ومدرِّسًا ومعلمًا، وموجهًا ومفتشًا، ومشرفًا ومنظِّرًا، وخبيرًا ومستشارًا.

أستاذ جامعي مرموق، ومن علماء العربية المعدودين.

يتميَّز بالتزام الفصحى في حديثه، وبجمال الخطِّ وفق قواعد الرقعة.

دراسته؛ وتدريسه:

درس المرحلة الابتدائية في المدرسة الجوهرية السفَرجَلانية، التي أسسها الشيخ المربي محمد عيد السفرجلاني.

وتابع المرحلة الثانوية في مكتب عنبر، ومدرسة التجهيز (جودة الهاشمي).

ثم التحق بدار المعلمين، وتخرَّج الأول على دفعته، وحصل على شهادة أهلية التعليم سنة 1363هـ/ 1943م.

بعد إتمامه الدراسة الثانوية وحصوله على البكالوريا الثانية (قسم الفلسفة) درَّس سنتين، باسم معلم وكيل، في المرحلة الابتدائية، قضى الأولى منهما في (مدرسة التهذيب) قرب جامع الحنابلة، التي كان مديرها من آل حمزة الحمزاوي، وكان شيخنا يُخرج طلابه لصلاة الظهر يوميًّا في الجامع.

والسنة الثانية في (مدرسة سعادة الأبناء) التي أنشأها الشيخ علي الدَّقر، وكان مديرها الشيخ عبد الرزاق المهايني، ودرَّس فيها اللغة الفرنسية.

ثم بعد تخرُّجه في دار المعلمين درَّس في (مدرسة أنموذج عمر بن عبد العزيز) في منطقة عرنوس.

ابتعاثه إلى مصر:

بعد تخرُّجه في دار المعلمين ابتعثته وزارة المعارف السورية إلى مصر للدراسة في كلية أصول الدين بالأزهر، وكان أولَ طالب تبتعثه الوزارة للدراسة الشرعية، وذلك بسعي من أستاذه الكبير أبي هاشم محمد المبارك عند وزير المعارف فيضي الأتاسي.

فقضى في القاهرة سبع سنين، وأبت همَّته العالية إلا أن يعودَ بأربع شهادات بدل الشهادة؛ فنال الشهادة العالية لكلية أصول الدين في الجامع الأزهر سنة 1365هـ/ 1945م.

وشهادة العالِمية مع الإجازة في الدعوة والإرشاد بالجامع الأزهر 1367هـ/ 1947م.

وشهادة ليسانس في الفلسفة من كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًّا) 1369هـ/ 1950م.

وإجازة التدريس من المعهد العالي للمعلمين في القاهرة 1370هـ/ 1951م.

جهوده في الشام:

عقب عودته من مصر سنة 1951م تولى التدريسَ في دار المعلمين بدمشق، ودار المعلمات، وفي كليتي الشريعة والتربية بجامعة دمشق، سنتين، وكان في كلية التربية مشرفًا على القسم التطبيقيِّ العملي لطلاب الشريعة.

ثم عيِّن مفتشًا اختصاصيًّا لمادة التربية الإسلامية، فكان مسؤولاً عن كل ما يتصل بالمادَّة، من اختيار المعلمين الأكفياء لتدريسها، ووضع مناهجها، والإسهام في تأليف مقرَّراتها، وأشرك معه في وضع منهج مادة مصطلح الحديث للثانويات والمعاهد الشرعية: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ود. محمد أمين المصري.

وكان وضعُه لمناهج المعاهد الشرعية والثانويات الشرعية بتوجيه من الأستاذ هاشم الفصيح رئيس الهيئة التفتيشية.

وأفاد في وضع المناهج من نُصح د. عبد الرحمن رأفت الباشا، واستعان في إعدادها بالشيخ د. مصطفى الخن؛ لثقته بعلمه وإخلاصه.

ووُضعت مقرَّرات نافعة، وأُلفت كتب جيدة بناء على تلك المناهج.

وقد أسهم الشيخ علي الطنطاوي في وضع منهج التاريخ الإسلامي، بما أسماه (أعلام المسلمين)، وألَّف مقرَّرات المنهج أخوه الشيخ محمد سعيد الطنطاوي.

وكان للشيخ أثرٌ مهم في افتتاح ثانويات شرعية للبنات، بسعيه لدى الشيخ أحمد الدقر الشقيق الأكبر للشيخ عبد الغني الذي استجاب لدعوته وإلحاحه، وعمل على افتتاح تلكم الثانويات لتكون تابعة لوزارة المعارف.

شارك في القاهرة زمن الوحدة في اجتماعات مناقشة توحيد المناهج بين سوريا ومصر، صحبة الأستاذ أحمد مظهر العظمة، ووفَّقهما الله في تثبيت أمور مهمَّة في منهج التربية الإسلامية.

حفل زواجه:

عُقد قرانه في 4/ 11/ 1951م، على السيدة الفاضلة المصرية زينب بنت محمد أحمد أبو شقة شقيقة الشيخ العالم الداعية عبد الحليم أبو شقة، وأقيم حفل الزِّفاف في جامع الشمسية بحيِّ المهاجرين، قرب مدرسة طارق بن زياد، في عهد الرئيس أديب الشيشكلي، في آخر سنة 1952م، وكان أولَ حفل زفاف يقام في مسجد بدمشق. وكان عريف الحفل الشيخ محمد بن لطفي الصباغ، وألقى فيه الأستاذ عصام العطار كلمة، ود. محمد هيثم الخياط قصيدة.

وقد أصرَّ الحضور أن يلقيَ كلمة في عرسه فصَعِدَ منبرَ المسجد وألقى خُطبة قوية عن فساد التعليم وتغريبه في مدارس الشام، وعن سلخ طلاب المدارس عن دينهم وثقافتهم وهُويتهم، ومما قاله فيها: لأن تُقطَعَ يدُ الأب الغيور على دينه وتُلقى في النار أحبُّ إليه من أن يتخرَّج ولده في المدارس الحكومية ذات النظام التعليمي الحالي! وقال: حينما ينالُ طالب الابتدائية شهادته فهذا يعني أنه بُذل ست سنين في سلخه عن الإسلام، وحين يُتمُّ الإعدادية فهذا يعني أنه تعرَّض مدة تسع سنين للتغريب والإبعاد عن الإسلام، وحين يفرُغ من المرحلة الثانوية، فهذا يعني أنه تلقَّى على مدار اثنتي عشرة سنة ما ينأى به عن الحقِّ والإسلام.

ووُزِّع في العرس: رسالة (المرأة المسلمة)، للإمام الشهيد حسن البنَّا، استخرج الرسالةَ شيخنا الباني من مجلة (المنار) التي نُشرت فيها أول مرة( )، لتطبع وتوزَّع في حفل زفافه، وطلب إلى أستاذه الذي يجلُّه عظيم الإجلال الشيخ علي الطنطاوي أن يقدِّم للرسالة، فاستجاب لطلبه مشكورًا، وكان وفَّر هو وزوجه ما يعينهما على طبعها، غير أن الأستاذ حلمي المنياوي أبى إلا أن يطبعَها على نفقته هديةً منه لصديقه العزيز الباني، في مكتبته دار الكتاب العربي بشارع فاروق بالقاهرة، وكانا تعارفا وتآخيا في السجن، حيث قضيا عامًا دراسيًّا كاملاً معًا عام 1949م في أحداث الإخوان بمصر.

ووزِّع في الحفل أيضًا: رسالة (آداب الزِّفاف) للشيخ المحدِّث محمد ناصر الدين الألباني، ألَّفها رحمه الله خِصِّيصاً لتوزَّع في الحفل، استجابةً لطلب تلميذه المقرَّب وصديقه الحميم عبد الرحمن الباني، وتولَّى طبعها أيضًا على نفقته الأستاذ حلمي المنياوي، وهذه الرسالة هي إحدى أربعة كتب ألفها الألباني بطلب من أخيه الباني.

صلته بالألباني:

كان شيخُنا قد تعرَّف المحدِّثَ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني بعد رجوعه من مصر، عرَّفه به صديقه ورفيق دربه د. محمد أمين المصري، وقد أعجب أيَّما إعجاب بمنهج الألباني في تحقيق الأحاديث، واتباع الدليل، ووجد عنده ما افتقده عند جُلِّ من تلقَّى عنهم، فصحبه ولازمه، وصار من خواصِّه الأوفياء.

وفتح له ولأصحابه بيته لتُعقَد فيه مجالسُ العلم التي كان يغشاها نخبةٌ من كبار المثقَّفين وذوي الفضل بدمشق، واستمرَّت صلتُه بالشيخ وثيقةً متينة إلى وفاته رحمه الله، ويعدُّه شيخنا من أكثر الناس تأثيرًا فيه.

أما سائرُ الكتب الأربعة التي ألفها الألباني بطلب وحثٍّ من شيخنا الباني، فهي: (أحكام الجنائز) ألفه استجابة لطلب شيخنا حينما توفيت عمَّته أن يكتبَ له على عجل ما صحَّ عن رسول الله  في تجهيز الجنازة وتشييعها، فكتب له شيخُه الألباني ملخصًا نافعًا، وأشرف شيخُنا على جنازة عمَّته وفق السنة الصحيحة، وبعد ذلك طلب إلى الشيخ الألباني أن يبسطَ القول فيما كتب، ليجعله كتابًا ينتفع به الناس، ففعل. وثالث الكتب (جلباب المرأة المسلمة)، وآخرها (صحيح الأدب المفرد).

اعتقاله؛ وسجنه:

اعتُقل الشيخ مرتين؛ الأولى في مصر سنة 1949م في أحداث الإخوان المسلمين، وسُجن عامًا دراسيًّا كاملاً، في معتقَل الطُّور مع صديقه الودود عبد النافع السِّباعي، دخلا في اليوم نفسه، وخرجا أيضًا معًا.

والأخرى في دمشق سنة 1962م اعتُقل 79 يومًا، بعد كلمة ألقاها في جامع المرابط بحيِّ المهاجرين عقب خُطبة الشيخ أمين المصري، تحدَّث فيها عن فساد التعليم في سوريا في ظلِّ حزب البعث الحاكم، وكانت خُطبةً قوية جريئة سمَّت الأشياء بأسمائها صراحة، وقد اعتُقل معه الأستاذ جودت سعيد، وخرجا من السجن معًا.

وبعد خروجه عُزل من التفتيش، ومُنع من التدريس في المدارس الحكومية، فدرَّس في معهد التوجيه الإسلامي نحو سنتين، وكان المدير الشيخ صادق حبنَّكة الميداني.

أعماله في السعودية:

   ثم في نحو سنة 1964م انتقل إلى الرياض، فعمل في وزارة المعارف السعودية، وفي إدارة معاهد إعداد المعلمين.

وشارك في تأسيس المعهد العالي للقضاء ووضع مناهجه، بتكليف من الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله، وكانت لجنة التخطيط والإعداد للمعهد برئاسة العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة، ومن أعضائها: العلامة عبد الرزاق عفيفي، والشيخ منَّاع القطَّان.

وشارك أيضًا في وضع سياسة التعليم بالمملكة، وكان عضوًا خبيرًا في اللجنة الفرعية لسياسة التعليم، ومن أعضائها: محمد سعيد الطنطاوي، ومنَّاع القطان، وسائر الأعضاء سعوديون منهم الشيخ الفاضل سعيد الجندول.

ويرى شيخنا أن هذه السياسة هي وثيقة ثمينة عظيمة النفع دقيقة ومتكاملة، أُقيمت وفق الشريعة الإسلامية، تصلُح لنهضة التعليم في العالم كلِّه.

وقد وُضعت السياسة بأمر من الملك فيصل رحمه الله الذي انتبه لخطر أثر بعض المعلمين المصريين في نقل الفكر القومي الجاهلي، والفكر الاشتراكي الوضعي، إلى الطلاب السعوديين. ورأسَ اللجنة وزير المعارف الفاضل د.حسن آل الشيخ.

وقد اطلع الشيخ أبو الأعلى المودودي على سياسة التعليم، فأُعجب بها عظيمَ الإعجاب، وقال: إن المملكة تملك ثروات غنية طائلة، ولكنَّ أعظم ثرواتها هي سياسة التعليم.

وأسهم شيخنا في تأسيس مدارس تحفيظ القرآن الكريم بالمملكة.

وكُلِّف التدريسَ في كلية الشريعة وكلية أصول الدين وكلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وفي كلية التربية بجامعة الملك سعود قسم الثقافة الإسلامية، ثم عاد إلى جامعة الإمام للتدريس في قسم الاجتماع من كلية الدراسات الاجتماعية، وكان عضوًا في لجنة قَبول الطلاب لمرحلة الماجستير.

وبلغ تدريسه الجامعي زهاء ثلاثين سنة، أشرف فيها على عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه، وشارك في مناقشة رسائل أخرى.

وكان أولَ من وجَّه طلاب الدراسات العليا إلى دراسة الفكر التربويِّ عند أعلام المسلمين في رسائلهم الجامعية، كالفكر التربوي عند الغزالي، وابن خلدون، وابن تيمية، وابن القيم... إلخ.

وأسهم في نحو سنة 1392هـ في تأسيس مدارس (منارات الرياض الأهلية)، وهي مدارس نموذجية رفيعة المستوى، غايتُها تربية طلابها على الإسلام في منهج تربويٍّ متكامل، وهي مشروع غير ربحي، وعمل الشيخ فيها موجِّهًا ومشرفًا عامًّا سنوات من 1412- 1418هـ.

وكان تأسيسها بدعم ورعاية من سماحة الشيخ المفتي عبد العزيز بن باز، وبتعاون الأستاذ توفيق الشاوي (مصري متخصِّص بالقانون الجنائي، فاضل جدًّا)، والأستاذ محمود الشاوي، والأمير محمد الفيصل (من أهل الخير والفضل والصلاح)، ود. راشد الكَثيري (من أساتذة كلية التربية بجامعة الملك سعود، وعضو مجلس الشورى).

   وكان الشيخ عضوًا في لجنة المراجعة النهائية للموسوعة العربية العالمية التي صدرت في ثلاثين مجلدًا برعاية الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود.

وعضوًا في لجان جائزة الملك فيصل العالمية ثلاث سنوات.

وشارك الشيخ في عدد من المؤتمرات العلمية والإسلامية داخل المملكة وخارجها، منها مؤتمر القدس الذي عُقد فيها سنة 1953م، وصلَّى في المسجد الأقصى.

وألقى بحثًا في (المؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي) في مكة المكرَّمة سنة 1397هـ/ 1977م.

ومثَّل جامعة الإمام في مؤتمر تربوي في بلجيكا.

وقضى ثماني سنين يعمل مستشارًا لوزير المعارف السعودي.

نشاطه الدعوي:

كان ذا همَّة عالية ونشاط وافر في تعرُّف أعلام عصره، والتواصل مع كبار العلماء والمفكرين والأدباء ممن أدركهم، وربطته بكثير منهم روابطُ متينة من الإفادة والتعاون المثمر.

وكانت له مشاركةٌ فاعلة في العمل الدعوي الإسلامي في الشام مع الشيخ د. محمد أمين المصري( ) وكان يدَه اليمنى، ومع د. مصطفى السباعي، والأستاذ عصام العطار، والشيخ زهير الشاويش.

وشارك في العمل الإسلامي في مصر مع الإمام حسن البنَّا، ووضع بتكليف منه منهجًا لمعهد إعداد الدعاة، الذي لم يُكتَب له القيام، وقد سُرَّ به حسن البنَّا جدًّا.

وكانت له دروس تُعقَد في جامع المرابط بالمهاجرين، وألقى درسًا واحدًا في الحرم المكي.

آثاره العلميَّة:

لم يعتنِ الشيخ بتأليف الكتب؛ إذ كان اهتمامه متجهًا إلى ما يراه أَولى وأجدى وهو وضع المناهج والخطط التربوية، والعمل في ميادين الإصلاح والتربية الفاعلة.

وأهم كتبه؛ وبحوثه:

- (مدخل إلى التربية في ضوء الإسلام)، كان جزءًا من منهج للتربية وضعه الشيخ، ثم اطلع عليه العلامة أحمد راتب النفَّاخ فأَلْفاه جديرًا بالطباعة، وألحَّ على الشيخ أن يطبعَه فنشره في المكتب الإسلامي ببيروت، ط2، 1403هـ/ 1983م.

- (الفِلم القرآني)، نشره المكتب الإسلامي ببيروت، ومكتبة أسامة بالرياض، ط1، 1403هـ/ 1983م.

- (ابن خلدون والأدب)، بحث قدَّمه في السنة الأولى من دار المعلمين، لأستاذه د. عبدالحليم خلدون الكناني، ثم نشر جزءًا منه في مجلة (التمدن الإسلامي) بطلب من الأستاذ أحمد مظهر العظمة، ثم أُعيد نشره في مجلة اليمامة بالسعودية دون علمه!

- (الدين والتربية وأسس التربية الدينية)، بحث قدَّمه في السنة الثانية من دار المعلمين، لأستاذه محمد بن عبد القادر المبارك أبي هاشم.

- (فكرة وحدة الوجود عند ابن عربي)، بحث قدَّمه في كلية الفلسفة، بجامعة فؤاد الأول، (جامعة القاهرة اليوم).

- (فن التراجم وحاجة الأمة إليه)، بحث أعدَّه لطلابه في دار المعلمين.

ومن مقالاته:

- (فلنذكر في هذا اليوم العظيم ذلك الرجل العظيم عبد الحميد ابن باديس)، نشرت في صحيفة (العَلَم) الدمشقية التي كان يُخرجها صهره الأستاذ عزَّة حُصرية، وقت إقامة معاهدة (إيفيان) سنة 1962م.

- (أوصيكم بالمقدِّمات خيرًا)، تحدَّث فيها عن أهميَّة مقدمات الكتب في الوقوف على مناهج أصحابها، وفي الإفادة المثلى من مضمونها.

- (الزيادة السكَّانية نعمة ربَّانية)، أنشأها ردًّا على وزير سعودي أبدى تخوُّفًا من الزيادة السكانية في المملكة التي بلغت ثمانية في المئة (8%).

- (حوار مطوَّل مع الشيخ تقي الدين الهلالي)، أجراه معه في دمشق بالاشتراك مع د.محمد بن لطفي الصباغ، ونُشر في صحيفة (العَلَم) الدمشقية.

وقدَّم لعدد من الكتب، منها:

- (العبودية) لشيخ الإسلام ابن تيمية، بتحقيق زهير الشاويش، وتخريج محمد ناصر الدين الألباني، نشر المكتب الإسلامي، ط1 بدمشق 1482هـ/ 1962م، وط7 ببيروت 1426هـ/ 2005م.

- (معجم المصطلحات الدينية) للدكتور عبدالله أبو عشِّي المالكي، والدكتور عبداللطيف الشيخ إبراهيم، نشر مكتبة العبيكان، ط1، 1995م.

- (لمحات في تاريخ العلوم الكونية عند المسلمين) للعالم الكيميائي د. عبدالله حجازي، ط1 في الرياض، 1417هـ/ 1996م.

- (العقل عند شيخ الإسلام ابن تيمية) للدكتور فهمي قطب النجَّار، ط1، 1425هـ/ 2004م.

- (الخرَسانة) للدكتور المهندس حبيب زين العابدين، وهي مقدِّمة مهمة جدًّا بعنوان: ضرورة التأليف باللغة العربية في العلوم التجريبية والتقنية.

- (طريق الخلاص) للأديب المفكِّر سيِّد قطب، من رسائل مسجد جامعة دمشق، طُبعت في المجموعة الثالثة من الرسائل التي نشرها المكتب الإسلامي، سنة 1405هـ/ 1985م.

- (اللغة العربية بين أوليائها وأعدائها) للدكتور تقي الدين الهلالي، من رسائل مسجد جامعة دمشق، وهي من الرسائل التي لم يُعَد نشرُها في مجموعات المكتب الإسلامي.

- (مقدِّمة في تاريخ العلم) لجورج سارتون، راجعه الشيخ كاملاً وصحَّحه وكتب بعض حواشيه، وهو بترجمة د. أحمد عبد الفتاح الليثي، وراجعه الأستاذ البروفيسور عبدالرحمن سليمان من جامعة لوفين ببلجيكا، وقدَّم للكتاب أيضًا العالم الدكتور محمد مراياتي، صدر عن دار السيِّد للنشر، ط1، 1432هـ/ 2011م.

ثناء علماء عصره عليه:

أثنى عليه خيرًا أستاذُه الشيخ علي الطنطاوي في تقديمه لرسالة (المرأة المسلمة)، التي وزِّعت في زفافه، فقال:

(عرفته تلميذًا وعرفته صديقًا، فما رأيت في شباب الشام من يفضله في حسن سيرته، واتباعه أمرَ الشرع ونهيه، فهو مسلم صادق الإسلام، في ظاهره وفي باطنه، وفي وحدته وفي صحبه... وإذا كان الناس يقدمون في العرس حلوى للضِّرس، فالأستاذ الباني قدم مع حلوى الضِّرس حلوى للروح وللنفس، هي هذه المقالة).

ووصفه الطنطاوي أيضًا في معرض حديثه عن عمِّه العلامة الشيخ محمد سعيد الباني بقوله: (هو العالم العامل الصالح الأستاذ عبدالرحمن الباني). من تقديمه لكتاب تلميذه د. محمد بن لطفي الصباغ: (لمحات في علوم القرآن) ص13.

وقال عنه في (الذكريات) 1/ 205: (ومن آل الباني الأستاذ عبدالرحمن (الحفيد)، وهو عالم ديِّن، كان مفتشَ العلوم الإسلامية في وزارة المعارف السورية، فأدى في الوظيفة حقَّ الله، ووفَّى الأمانة، وأفاد ناشئة المسلمين).

وأضفى عليه الطنطاوي جميلَ الثناء في معرض حديثه عن المدرسة الجوهرية السفرجلانية، قال: (وكان من تلاميذي فيها واحدٌ نبغ حتى صار من شيوخ التعليم، ومن العلماء، وأمضى شطرًا من عمره موجِّهًا للمدرسين، مشرفًا على وضع المناهج، وتأليف الكتب في العلوم الدينية؛ لأنه كان مفتش التربية الدينية في وزارة المعارف، وهو أحد تسعة كانوا أوفى من مرَّ بي من الطلاب، وقد مرَّ بي آلاف وآلاف وآلاف.. هو الأستاذ عبدالرحمن الباني). (الذكريات) 1/ 280.

وعدَّه في (الذكريات) 5/ 266: أحدَ علماء العربية الذين حفظ الله بهم العربية في الشام.

وقال في 7/ 291 عنه يوم كان مفتشًا للتربية الإسلامية، وعن سميِّه عبد الرحمن رأفت الباشا مفتش اللغة العربية: ((فصنعا للدين وللعربية ما يبقى في الناس أثرُه، وعند الله ثوابه)).

وذكره الأستاذ عصام العطَّار، في برنامج (مراجعات) على قناة (الحوار) فقال: لا أعرف أحدًا أفضل من عبدالرحمن الباني في هذه الدنيا، نعم أعرف مثله: محمد سعيد الطنطاوي وغيره، هذه الطبقة نادرة، لكني لا أعرف أحدًا أفضل منه.

عبد الرحمن الباني رجل نادر المثال، ولكنه من الناس المتواضعين، هنالك ناس جواهر لا يكاد يعرفهم إلا القلة، وهناك ناس لا يساوون شيئًا تجدهم مالئين الدنيا، وشاغلين الناس.

ووصفه العلامة الشيخ د. مصطفى الخن بعد رفقة طويلة، ومهمَّات علمية كثيرة، بقوله: (إنه يؤدي ما كُلِّفه بدأب وإتقان، ثم لا يريد أن يُنسبَ إليه شيءٌ مما أنجزه!).

(مصطفى سعيد الخن: العالم المربي، وشيخ علم أصول الفقه في بلاد الشام) للدكتور محيي الدين مستو ص39.

وكثيرًا ما كان يُثني عليه شيخنا المحدِّث عبد القادر الأرناؤوط، ويفيض في الحديث عن أسلوبه الفذ في النصح والدعوة، ويعزو إليه الفضل في اتجاهه السلفي، ونقل عن الشيخ غالب الحرش قوله: لما سكن الباني في حي الميدان كانوا يدعونه أحمد بن حنبل.

وسمعتُ شيخنا العلامة د. محمد بن لطفي الصبَّاغ يقول غيرما مرَّة: (لا أعرف في علماء الشام من هو أعلم وأتقى وأورع من الشيخ الباني، وهو من بركات هذا العصر، بل هو بركة العصر).

وسمعتُ العالم الكيميائي الصالح د. عبد الله حجازي يتحدَّث عن الشيخ قائلاً: (عرفتُ شيخنا الباني قبل نحو ثلاثة وأربعين سنة، وكلما توثقت صلتي به أكثر تعلَّمت منه أكثر، وأحببته أكثر.

وكنت قلتُ له بعد زواجي: إذا رزقني الله مولودًا ذكرًا سأسمِّيه باسمك، وهذا ما كان، فسمَّيت ولدي البِكر عبدالرحمن وكانت ولادته قبل نحو أربعين سنة، وهو بفضل الله اليوم من حفَّاظ كتاب الله، ويحضِّر الدكتوراه في كندا).

وذكر الشيخ عبد الله علوش في مجلسٍ من مجالس شيخنا في الخامس من المحرَّم 1430هـ، قال: (للشيخ الباني فضلٌ كبير على كتب التربية الإسلامية في سوريا، وعلى أن الوِزارة عدَّلت المناهج وغيَّرت المقرَّرات بقيت العقيدةُ سليمة في الكتب بفضل الله أولاً ثم بفضل الشيخ الباني).

أما وزير المعارف السابق د. محمد بن أحمد الرشيد فقال في كتابه (مسيرتي مع الحياة) ص474: (وأخصُّ بالشكر أيضًا: فضيلة الشيخ عبدالرحمن محمد توفيق الباني، وفضيلة الدكتور محمد لطفي الصباغ، والأخ الدكتور أحمد البراء بن عمر بهاء الدين الأميري، على معاونتهم وجميل صنعهم معي في حقل التربية والتعليم، وقد سبق لي أن استعنت بخبرتهم في مواقع أعمالي السابقة خاصة في مكتب التربية العربي لدول الخليج، وكوني أخصُّ هؤلاء بالذكر فلمقامهم العلميِّ الرفيع، ولأنهم استجابوا للانضمام إلى العمل معي مستشارين في مكتبي مع أنهم كانوا في مواقع علمية وعملية حين طلبت منهم ذلك).

وإذا حُقَّ لي أن أشهدَ بعد عشرٍ من السنين صحبتُ فيها الشيخ وكنت منه قريبًا دانيًا فإني أقول: (والله، إني على كثرة مَن عرفتُ من العلماء الصالحين ومن الكبراء الفاضلين، لم أرَ رجلاً أبرَّ صدرًا، ولا أبعدَ غائلة، ولا أشدَّ حبًّا للعاقبة، ولا أنصحَ للعامَّة، ولا أرفقَ بالخلق، ولا أغيرَ على شرع الله وحرُماته، ولا أرقى خلقًا وتواضعًا، ولا أمضى عزيمةً وهمَّة من شيخنا الجليل عبدالرحمن الباني، جمعني ربي به ومحبِّيه في جنَّات النعيم مع سيِّد الخلق الحبيب الأعظم نبينا محمد صلواتُ ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه).

وفاته؛ وخاتمته:

عانى الشيخ في الشهرين الأخيرين آثار تليُّف الكَبِد، وقد أرهقه المرض وأهزل جسدَه حتى عاد جلدًا على عظم، وما زال يتنقَّل بين المستشفى والمنزل إلى أن فتكت العلَّة بكبده، فعَجَز عن أداء وظائفه.

وفي مرضه هذا، وبرغم ما كان فيه من ضعف شديد أبى إلا أن ينتصرَ للحقِّ ولأبناء شعبه الأحرار فكان آخرَ عمل له توقيعُه البيان الصادر عن رابطة العلماء السوريين بشأن الأحداث القائمة في سوريا، فرَّج الله عن أهلها عاجلاً غير آجل.

وبقي بفضل الله ممتَّعًا بوعيه وذهنه وذاكرته إلى أن لقيَ وجه ربه، ولا يفتأ لسانُه يلهَجُ بذكر الله والدعاء.

وفي ليلة الخميس 9 من جُمادى الآخرة 1432هـ (12/ 5/ 2011م) انخفض ضغطُ الشيخ جدًّا، فأُسعفَ إلى مستشفى الملك خالد الجامعي، وقُبَيل الفجر أصيب بنزف في المعدة، وبدأ وَجيبُ القلب يخفتُ شيئًا فشيئًا حتى توقَّف تمامًا.

اللهم ارحَم عبدك الفاني عبد الرحمن الباني( )، وأنزله خير مُنزَل، اللهم اجعل قبرَه روضة من رياض الجنان، وأكرمه بالمغفرة والرضوان، وألهم أهله وطلابه وأحبابه وعارفيه الصبرَ والتجلُّد والسُّلوان، وأحسن عزاءنا فيه، وأخلف في الأمَّة أمثاله من العلماء الربانيين العاملين.

جنازته؛ ودفنه:

تولى تغسيلَ الشيخ وتكفينه الأخُ الفاضل علي بن حسن السيف جزاه الله خيرًا، وصهرا الشيخ د. سعيد أبو عشِّي المالكي عميد كلية الطب بأبها سابقًا، والمهندس الشيخ محمد الساعور أبو حذيفة.

وكان لصهر الشيخ الثالث عبد الله بن ناصر الموسى إسهام أيضًا، جزاهم الله تعالى خيرًا جميعًا.

وذكر لي الأخُ علي: أن تغسيل الشيخ كان ميسَّرًا جدًّا، وكأنه نائم بين أيديهم بسكينة وطمأنينة، كما كان في حياته لطيفًا رقيقًا رحمه الله.

وبعد تغسيله أُخذ جسدُه الطاهر إلى منزله ليودِّعَه أهل بيته، وقد صلَّت زوجته وبناته عليه صلاة الجنازة، ثم أعيد إلى جامع الراجحي، وقبل إدخاله إليه وتغطية وجهه ودَّعتُ الشيخ الوداع الأخير وقبَّلتُ جبهته الطيبة وكان معي أخي الأستاذ رامي بن أحمد ذو الغنى وولدي أحمد، وأقبل الشيخان الفاضلان عبد الله بن حمود التويجري وشقيقه صالح لتوديع الشيخ أيضًا.

وكانت الصلاة عليه في جامع الراجحي الكبير بالرياض مشهودة، حضرها خلقٌ كثير امتلأ بهم المسجد على سعَته.

ثم شُيِّع الشيخ إلى مقبرة النسيم، وقد أكرمني الله بإنزاله في قبره مع حفيده الفاضل الأخ الطبيب علي بن سعيد أبو عشِّي المالكي، والأخ الشيخ علي السيف.

وحضر الدفنَ جمٌّ غفير من أهل العلم والفضل، وأذكر من كبار العلماء أصحاب الفضيلة: الشيخ عبد الرحمن البرَّاك، ود. سعود الفنيسان، ود. محمد أديب الصالح، ود. محمد بن لطفي الصباغ، ود. عبد القدوس أبو صالح، والشيخ عبد الله علوش، والشيخ صالح الشامي، ود. عبد الكريم بكَّار...

   ومن العلماء والدعاة: د. عبد المحسن العسكر، والشيخ سليمان الحرش، والشيخ منيب بن محمود شاكر، ود. محمد سعيد الدبَّاس، ود. علي الشبيلي، والشيخ عبد العزيز الصَّهيل، ود. صالح الضويحي، والشيخ عبد المجيد زين العابدين، والشيخ زياد بن عمر التكلة، ود. علي حسن، والشيخ عمر الحفيان، والشيخ وئام بدر، والأستاذ حسن العبود...

ومن أهل الفضل: العالم الكيميائي د. عبد الله حجازي، والصحفي الكبير مطيع النونو، والأستاذ سليم البرادعي، ود. فهمي قطب النجَّار، والأستاذ المؤرخ عبدالكريم السمك، والطبيب الألمعي د. عبدالرزاق مخللاتي، والأستاذ محمد بن سعيد السيِّد، والأستاذ الشاعر فيصل الحجِّي، والأستاذ صدقي البيك، والشاعر الأديب د. أحمد الخاني، والشاعر المربي د. سامر البارودي، والمهندس الحافظ د. سمير الوتَّار، والطبيب د. محمد ابن الشيخ أمين شاكر، والأستاذ محمد بن مصطفى السِّباعي، والأستاذ الإعلامي أبو بكر مروان خالد...

ومن طلاب العلم: عبد الله الرُّسَيني، ومسفر القحطاني، وحسن الأسمري، وعقيل الصيعري، وعبد الرحمن الصيعري...    

تلك بعض الأسماء التي استحضرتها، ومن فاتني أكثر، فليعذِرني الإخوة الذين لم أذكرهم.

وقد اتصل عددٌ من أهل العلم والفضل يعزُّون أسرته في الشيخ منهم: فضيلة الشيخ زهير الشاويش من بيروت، وفضيلة الشيخ د. أحمد حسن فرحات من الإمارات، وفضيلة الشيخ حسن قاطرجي من بيروت، والأستاذ الفاضل محمد علي دولة من جُدَّة، والأخ الشيخ فياض محمد العبسو من الإمارات، والدكتور عبد الله العُريني من السودان، والأخ الحبيب معاذ القصاص من قطر.

ووصلتني رسائل تعزية إلكترونية كثيرة، من أهم أصحابها: الدكتور محمد حسان الطيان من الكويت، وفضيلة الشيخ مجد مكي من قطر، والأستاذ أحمد العلاونة من الأردن، والطبيب الحافظ الشيخ د. خلدون بن مكي الحسني من دمشق، والأستاذ عماد ريحاوي من دمشق.

شكر الله لهم جميعًا وجزاهم خيرًا على برِّهم بشيخنا، وكما كان الشيخ في حياته سببًا لاجتماع الفضلاء، كانت وفاته سببًا لذلك أيضًا... أسبغ ربي عليه وافر الرحمات.

أصداء الرحيل:

الإمام عبد الرحمن الباني بركة هذا العصر:

كتب د. محمد بن لطفي الصباغ بقول:

في فجر يوم الخميس التاسع من جمادى الآخرة سنة 1432هـ (الموافق 12 من آيار سنة 2011م) توفي أخي، وحبيبي، وصديقي، وأستاذي الإمام العلامة الشيخ عبد الرحمن بن محمد توفي الباني عن عمر جاوز السابعة والتسعين، فقد ولد سنة 1335هـ (1917م)، وتوفي سنة 1432هـ ((2011م). قضاها كلها في طاعة الله ورسوله، ونشر دعوة الإسلام، والدفاع عنه.

وقد أوتي شخصية مستقلة، وموهبة فذة في الذكاء والقدرة على استيعاب ما يقرأ وعرضه، والفكر النير، والنظرة الصافية النقية، والدأب المستمر في تحصيل العلم والدعوة إلى الله، والإصرار على سلوك طريق الحق مهما كانت العوائق والعقبات، والرغبة في خدمة الناس ومعونتهم.

ولد الشيخ في أسرة كريمة متدينة من كرام أسر دمشق، وفي بيئة محافظة متمسكة بالدين ملتزمة لأحكامه، وكانت تقوم بينها وبين الأسر العلمية الدمشقية روابط من القرابة والصلة والتعاون.. هذه الأسر التي ظهر منها علماء كبار من أمثال العلماء من: دار الكزبري، والعلماء من دار الخطيب، ومن أمثال الشيخ بدر الحسني المحدّث الكبر في بلاد الشمال وفي عصره.

وكانت دمشق معقل الدين تزخر بالعلماء الفحول، ولم يكن فيها مكان لدعاة الشر.. بل كل ما فيها قائم على الدين... في هذا الجوّ الإسلامي الكريم نشأ فقيدنا - رحمه الله رحمة واسعة وأحسن إليه - وتعلم في مدارس بلده إلى نهاية المرحلة الثانوية، ونال شهادة البكالوريا الثانية (قسم الفلسفة).

ودرس في دار المعلمين، وكان الأول في مراحل دراسته كلها، وقد اطلعت على بحث قيم له مكتبه عن ابن خلدون وهو في هذه المرحلة الدراسية التي نتحدث عنها.

شهد وهو فتى سقوط الخلافة الإسلامية، وهو أعظم مصاب حل بالمسلمين - واأسفاه - فقد استطاع اليهود والنصارى أن يعملوا على إسقاط هذه الخلافة التي استمرت خلال القرون الماضية، وإنا الله وإنا إليه راجعون.

وشهد كذلك احتلال الفرنسيين بلاد الشام بالحديد والنار، وتنكيلهم بالثوار، وبالناس الآمنين في بيوتهم.. ثم شهد العهود التي تلت.

وقام في تلك الحقبة بعض المثقفين من الشباب المتدين بإنشاء جلسة يتدارسون فيها الواقع وكيفية إصلاحه، وكانوا يلتقون في جبل قاسيون وكان منهم الأساتذة بشير الباني وعبد الهادي الباني، وعبد الرحمن الباني، ومعروف الدواليبي، والشيخ عبدالمحسن الرؤون الأسطواني.... وغيرهم كانوا يلتقون في جبل قاسيون، ويتباحثون في كيفية العمل للإسلام وتثبيت أركانه وأحكامه في قلوب الناشئة «ذلك لأن فرنسا وضعت مناهج التعليم في مدارس البلاد على ثقافة علمانية غريبة عنا.. فجعلت المناهج مصبوغة بصبغة علمانية بعيدة عن الروح الدينية، وجعلت اللغة الفرنسية تدرس في المرحلة الابتدائية، وتاريخ فرنسا ولاسيما الثورة الفرنسية يدرس بتوسع في المرحلتين المتوسطة والثانوية.... وجعلت مادة الديانة مادة هامشية لا مناهج لها ولا كتب ولا تدخل في امتحانات الشهادات.. وجعلت في تلك المناهج دراسة الحركات الفكرية التي قامت في تاريخنا.. فكان الطلاب يدرسون الاعتزال بتوسع والفلسفة اليونانية وأئمة الفلسفة الذين ظهروا في العصر العباسي كابن سينا والفارابي وأمثالهما... وحركة الخوارج.. والمرجئة... والتصوف وما إلى ذلك من الاتجاهات. يدرس الطلاب هذه الحركات التي فيها انحراف ولا يدرسون الإسلام والنظام الاجتماعي التعاوني فيه، ولا النظام الاقتصادي فيه، ولا النظام الروحي.. فكان لذلك كله أثر في تكوين فكر أبناء الأمة وبناتها.

كانت تلك النخبة في جبل قاسيون تفكر في إصلاح التعليم، وإصلاح الأوضاع العامة في الأمة، وكان عبد الرحمن الباني يفكر معهم.. وقرر من ذلك الوقت أن يعمل على إصلاح ذلك كله.. وقرر أن تكون حياته في خدمة التربية الإسلامية.. ولما أسندت إليه وظيفة مفتش التربية الإسلامية في سورية قام بتحقيق الكثير مما كان يتطلع إليه، ولقد نجح هذا الرجل العظيم في ذلك أعظم نجاح.

فلقد قام مع عدد من كبار علماء الدين، وعدد من المفكرين في مطالبة المسؤولين بإدخال مادة التربية الإسلامية في امتحان الشهادات واستطاع تحقيق ذلك.

ثم وضع مع عدد من مدرسي هذه المادة المناهج المحكمة التي تعنى بدراسة النظام الاقتصادي في الإسلام، والنظام الاجتماعي، وما إلى ذلك.. ثم شارك في تأليف الكتب وفق هذه المناهج، وكان يأبى أن يضع اسمه في عداد المؤلفين، وكانت هذه الكتب هادية إلى الحق والالتزام بالإسلام، والاقتناع بصلاحيته، وأفضليته، وقد سمعت الأستاذ علي الطنطاوي يثني عليها الثناء الكبير.

واختار الأستاذ الباني - بصفته الرسمية - المدرسين الأكفاء، فاجتمع لهذه المادة المنهج الصالح، والكتاب الصالح، والمدرس الصالح.

وانتفع الدارسون بذلك وتركت هذه الدراسة الأثر الكبير في نفوسهم وظهر هذا الأثر في انتخابات النقابات في عهد دستوري، فكان معظم الناجحين في هذه النقابات من ذوي الاتجاه الإسلامي.

فكان معظم الناجحين في نقابة المهندسين من الإسلاميين

وكان معظم الناجحين في نقابة الأطباء كذلك من الإسلاميين

وكان معظم الناجين في نقابة المعلمين من الإسلاميين

وهكذا... حدث انقلاب فكري هادئ قام به هذا الإنسان المجاهد.

كانت الحكومة السعودية تعرض عليه العمل في بلادها فكان يعتذر لأنه يقوم بعمل عظيم في وزارة التربية، فلما أبعد عن عمله، وطلبته حكومة المملكة استجاب لذلك وعمل في اللجنة الفرعية لوضع المناهج التي كان يرأسها الشيخ حسن آل الشيخ، وكان ينوب عنه دائماً الشيخ ناصر الحمد الراشد رحمهما الله، وكان له جهد في وضع سياسة التعليم التي قال عنها المودودي يوم أن رآها: إن هذه السياسة ثروة للمملكة تفوق الثروة النفطية التي أكرمها الله بها.

   وكان له دور كبير في إيجاد مادة التربية الإسلامية في جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية.

كانت لديه اقتراحات نافعة يقدمها لمن يتوسم فيه القدرة على الكتابة فيها، فقد طلب من شيخه العلامة الشيخ ناصر الألباني أن يكتب في آداب الزفاف، وإحكام الجنائز، وفي حجاب المرأة، فكتب في ذلك واقترح على العلامة الشيخ محمد أبو زهرة عندما اجتمع به في بيتي في زيارته لدمشق أن يكتب كتاباً في أصول التفكير الإسلامي.

وكان الفقيد يملك أسلوباً جزلاً في الكتابة، وكان خطه جميلاً جداً.

له بحوث كثيرة في موضوعات تربوية وإسلامية نافعة وهي موجودة ضمن جزازات، كان يطلعني عليها.

وكان نصيراً للغة العربية متحمساً أشد الحماسة للتعليم بها في المستوى الجامعي في الكليات العلمية، وعنده في هذا الموضوع ملف كبير غنيّ.

وهناك فوائد كثيرة في تعليقاته على كتبه التي يقرأها، وأذكر هنا بصورة خاصة تعليقاته على الكتاب العظيم (الأعلام) الذي كان يجلّه ولا يكاد يفارقه، ففيه استدراكات وزيادات نفيسة، وكذلك الأمر في الكتب المتعلقة بالتراجم. هذا ومكتبته غنية بكتب التراجم وبالكتب الإسلامية الحديثة، وبالكتب المتعلقة بالتربية والفلسفة وعلم النفس.

اشتركت معه في مراجعة الموسوعة العربية العالمية مع طائفة من الدكاترة، وكنا نلتقي حوالي ثلاث سنوات حتى أتممنا مراجعتها، وكان الأستاذ عبدالرحمن دقيقاً في المراجعة من حيث المضمون والأسلوب.

ومن آثاره القيمة تلك المقدمة المهمة لرسالة (العبودية) لابن تيمية التي لا تقل في أهميتها عن الرسالة نفسها.

وسبق أن ذكرت البحث الذي كتبه في وقت مبكر عن ابن خلدون.

وكذلك له بحث عن الحوار.

وكتب مقدمات لعدد من الكتب طلب مؤلفوها منه أن يكتب لهم مقدمات فاستجاب وفعل.

ومن آثاره المطبوعة (مدخل إلى التربية في ضوء الإسلام) و(الفلم القرآني).

ومن آثاره المخطوطة:

(الدين والتربية، وأسس التربية الدينية).

(فكرة وحدة الوجود عند ابن عربي).

(فن التراجم وحاجة الأمة إليه).

وله مقالات عدة منشورة.

كان - رحمه الله - عفّ اللسان، فلم يكن يذكر أحداً بسوء، وكان - غفر الله له - كريماً في بيته يبالغ في إكرام الضيف، ويقدم إليه ما عنده.

وكان حريصاً على مساعدة الآخرين بالمال سخياً في حدود طاقته فما أكثر ما رأيته يتبرع ويجمع لبعض المستحقين.

وكان حريصاً على نصح الآخرين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللطف والحكمة.

وكان يريد من الباحثين أن تكون بحوثهم مستكملة لعناصر الجودة فإذا سمع أن طالب علم يبحث في موضوع من الموضوعات، كتب له توجيهات ثم كتب قائمة بالمراجع، وقد يعيره هذه المراجع من مكتبته.

وقد أكرمه الله تعالى بأن حفظ عليه صحته وقوته وبصره، فلم يستعمل عكازاً، ولم يكن يلحظ الإنسان عليه أمارات الشيخوخة، ظل إلى آخر عمره محتفظاً بذاكرته وفكره وعلمه، ولم يقعده المرض في الفراش إلا أياماً معدودة، وكان يصعد الدرج، ويذهب إلى الصلوات الخمس على رجليه، وما كان يظهر عليه إلا ضعف السمع. لقد حفظ الله عليه صحته، وملكاته، وأجهزته لأنه حفظها من المعاصي في كل مراحل عمره.

ابتعث إلى مصر للدراسة في الأزهر من قبل وزارة المعارف السورية فنال شهادة كلية أصول الدين، والإجازة في الدعوة والإرشاد من الأزهر، وشهادة الفلسفة من كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، وإجازة التدريس من المعهد العالي للمعلمين في القاهرة.

وتعرّف على علماء مصر ومنهم الشيخ محمد الأودن الذي كان يكبره ويثني عليه كثيراً، ومنهم الأستاذ محب الدين الخطيب.

وتعاون في المجال العلمي والدعوي مع عدد كبير من الشباب منهم الأستاذ محمود نفيس حمدي، والأستاذ الدكتور رشاد سالم، والأستاذ عبد المعز عبد الستار والأستاذ عبد الحكيم عابدين، وعزالدين إبراهيم، وغيرهم، والأستاذ عبد الحليم محمد أبوشقة وتزوج أخته وجاء بها إلى الشام.

فقضى في رحلته الدراسية هذه سبع سنين، وعاد إلى الشام عام 1951م.

أما علاقتي به فتمتد ستين سنة ما ترك أحدنا الآخر، وكنت جاره في السكنى، وكنا نزور معاً العلماء الكبار الذين يزورون دمشق، فقد زرنا أبا الحسن الندوي، والأستاذ أحمد محمد شاكر، والدكتور تقي الدين الهلالي وغيرهم.

واستمرت هذه الصلة وتوثقت عندما جاء إلى المملكة العربية السعودية بعدي فاستقبلته واستأنفنا اللقاءات.

وكان زميلي في كلية التربية سنوات.

ثم كان زميلي في وزارة المعارف، حيث عملت أنا وهو مستشارين في مكتب الوزير وكنت معه في جلسة أسبوعية لتدارس القرآن حتى ما قبل وفاته بأسبوعين.

كان _ رحمه الله _ ورعاً غاية الورع... فلا يستعمل أوراق الدولة إلا فيما يتعلق في أمور الدولة، ولم يكن يملأ قلمه من حبر الوزارة، بل كان يشتري دواة ويملأ منها قلمه.

ولم يكن يلبي دعوة أحد من موظفي الوزارة.

وكان حريصاً على التوجيه في كل مجتمع من المجتمعات التي تكون.

وأقدم التعزية الخالصة إلى العلماء في العالم الإسلامي، وإلى أحبابه من الدعاة إلى الله، وإلى والديه الكريمين المهندس أسامة، والأستاذ محمد، وإلى بناته الدكتورات: داعية، وخديجة، وأسماء، وسمية، وسلمى. العالمات الصالحات، وإلى أزواجهن وإلى أحفاده... جزى الله كل من كان في خدمته ورعايته منهن، ومن غيرهن.

غفر الله لنا وله، وجمعنا به في مستقر رحمته في الجنة.

و(إنا لله وإنا إليه راجعون).. والحمد لله رب العالمين.

أثر العلامة المربي عبد الرحمن الباني في الشيخ المحدِّث عبد القادر الأرناؤوط :

أيمن بن أحمد ذو الغنى

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

ولقد بَهَرت شخصيةُ الباني فقيدَنا، فأقبل عليه يَنهَلُ من خُلُقه الرَّضِي، ومن علمه النافِع، وما أكثرَ ما سمعتُ - وسمع إخواني - شيخَنا الأرناؤوط يُثني على العلاَّمة الباني، ويُرجع إليه الفضلَ، بعد فضل الله سبحانه، في تَعريفه بمنهَج السلَف الصالح، وبالفكر السلَفي النَّقي.

ولنُصْغِ إليه يُنْبئنا خبرَه، يقول:

كنتُ في شبابي خطيبًا مِقْوَلاً، أعتَلي المِنبَرَ وأخطُب الناس بحماسة واندفاع، يكادُ المسجد يَزَّلزَلُ من قُوَّة خُطبتي وارتفاع صَوتي، وكنت حينَها أرتدي عِمامَةً عاليةً كالأبراج، وجُبَّةً سابغةً أكمامُها كالأخْراج، فكانت نفسي تخدَعُني وتُوَسوسُ إليَّ بأنْ ليس على الأرض مثلي، وحينما أفرُغُ أنزل من على المنبَر وشُعوري كمَن خرجَ من معركة ضارية غالبًا مُنتصرًا.

وكان يُقبل إليَّ بعدَ الصلاة رجُلٌ مهذَّب وَديع، يسلِّم عليَّ بابتسامة عَذبة آسِرَة، ويُثني عليَّ وعلى خُطبتي، بعبارات تملأُ نفسي سعادةً وغِبطَة، ثم كان يستأذنُني في إبداء بعض الملاحظات، بأُسلوب يبلغُ في الرِّقَّة الغايَة، فكنت أرحِّبُ بملاحظاته، وأفتَح لها قلبي قبل أُذني، فيقولُ لي: يا أُخَيَّ، بارك الله فيكَ، وجزاكَ خيرًا، خُطبتُك رائعةٌ ممتازة، ولكنْ ليتَك لم تستَشْهد بالحديث الفُلاني، فإنه موضوع، ولا يَنبغي الاستشهادُ بما لا يَصحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وَرَدَ عن رسولنا في مَعناه أحاديثُ صحيحةٌ يحسُن الاستشهادُ بها، منها ... ويذكُر لي بعضَها.

وهكذا كان بعدَ كلِّ خُطبة يُسدي إليَّ نصائحَ ذهبيَّة، يَنهاني فيها عن بدعَة كنتُ بها جاهلاً، أو يَلفتُني إلى سُنَّة مَهجورَة كنتُ عنها غافلاً، كلُّ ذلك يقدِّمه بتَواضُع جَم، يُجبرُني معه على الاستِجابَة، عن رضًا وسعادَة، ولساني يَلهَجُ بالدعاء له، والشُّكر لصَنيعه، ذلكم الرجلُ هو الشيخ الجليل عبد الرحمن الباني، الذي كان لي في أُسلوبه الحكيم أُسوةً حسنَة، جزاهُ الله عنِّي خيرَ الجزاء.

في رثاء الشيخ العلامة عبد الرحمن الباني:

وقد رثاه الشاعر الداعية د. عدنان علي رضا النحوي، فقال:

رَحَلْتَ وفي الساحات ذكرٌ مُعطَّرٌ      وفوح التقى فيها أجلُّ وأكملُ

وحَشدٌ من الأحباب يلهج صادقاً      بسيرتك الغرّاء تزكو وتعْدلُ

ألا أيها الباني! بَنَيْتَ من التُّقى        رجالاً لهم ساحٌ غَنِيٌّ ومَحْفلُ

وفي كل ساحٍ خُضْتَهُ لكَ غَرْسةٌ من الفضْلِ والإِحْسانِ ينمو ويكْمُلُ

يظلُّ عطاءُ المؤمنين على المدى        غنيّاً! وعند الله أجْرٌ معجَّلُ

وشاركتَ في نادٍ يقومُ ودعوةٍ        إلى الله والبرّ الذي هو أجملُ

تَنقّلتَ ما بين الميادينِ فارساً          تجودُ وتُغِنيْ بالوفاء وتعجَلُ

ألا أيَّها الشيخُ الجَليلُ فكم تُرى  نَصَحْتَ بصدقٍ من فؤادك يُرْسَلُ

رَفيقٌ مع الأصحاب أغنى تواضعاً    وأرقى سماتٍ بالوفاء تُكلّلُ

بَنَيْتَ وأعليْتَ البناءَ مع الهُدى      بعونٍ من الرحمن يُغْني ويُكْمِلُ

جمعتَ نديَّ العلمِ في القلبِ! زادُه  يقينٌ يُزَكِّي العلم! تغنى وتنهَلُ

تنقّلتَ ما بين الديار لتنتقي          أبرَّ الذي ترجو وما هو أكملُ

أبرُّ علومِ الأرضِ دينُ محمدٍ        كتابٌ من الرحْمنِ وحْيٌ مُنَزَّلُ

وسنَّةُ هَدْيِ المصطفى! هديُ سيرةٍ  أعزُّ وأغنى ما تروم وتُوصِلُ

وكم عَزْمَةٍ أَمضَيتَ لله دَرُّها          فترجو رضاءَ الله فيها وتأمَلُ

هَجَرْتَ من الدنيا زخارفها التي      تثير من الأهواء ناراً وتُشْعِلُ

فكم فتنةٍ في الأرض أوقد نارها      دبيبُ هَوىً بين النفوسِ يُعَلَّلُ

ألا أيها الباني! بنيتَ بعزمة      من العدل! طوبى للذي هو يعدلُ

مضيتَ مع الدنيا وقلبك خَافقٌ      هناك مع الأُخرى تروم وتأملُ

كأنكَ في الدنيا غريبٌ! وإنَّما        تسير على دربٍ قويمٍ وتَنْهَلُ

رحلتَ عن الدنيا فيا عزَّ رحلةٍ  وزادُك موفورٌ من الخير مُرْسَلُ

هنيئاً لمن أوفى مع العمر عهده      مع الله! ذِكْرٌ مستديمٌ ومَوْئلُ

فيارب أَنْزِلْه على خيْرِ منزِلٍ          يطيب له أجر غَنِيٌّ ومنزِلُ

ويا ربّ فاجعلْ قبَره رَوْضَةً بها    هناءةُ قلبٍ من عَطائك تُوْصلُ

رثاء الشيخ عبد الرحمن الباني:

كما كتب الشاعر الداعية محمد جميل جانودي بقول في رثائه:

   توفي فجر الخميس 9/جمادى الآخرة/1432ه في الرياض

فـي زحْـمَـةِ الآلامِ والأحْـزَانِ     فِـيْ يَـوْمِ شَـكْـوى أنّةَ الإنْسَانِ

فِـيْ يَـوْمِ نَـنْـنْظُرُ للشَّآم بِلَهْفَةٍ       لِـتَـقُـوْدَ صَـحْـوَةَ أمّةِ الْقُرْآنِ

نَـرْنُـوْ إِلَـيْهَا وَهْيَ حَامِلَةُ الّلوَا   ءِ تَـزِفُّ بُـشْرَى النَّصْرِ لِلأَكْوَانِ

فِـيْ يَـوْمِ نَـهْـفُوْ لِلشَّبابِ بجُلّقٍ     ثَـارُوا بِـوَجْـهِ الظُّلْمِ وَالطّغْيَاْنِ

فِـي يَـوْمِ نَرْقُبُ مَنْ يُبَارِكُ فِعْلَهُمْ     وَيَـشُـدُّ أَزْرَهُـمُ مَـعَ الأعْوَانِ

فِـيْ مِـثْـلِ هَذَا الْيَوْمِ فَاجَأ قَوْمَنَا       نَـاْعٍ بِـمَـوْتِ الْـعَـالِمِ الرّبّانِي

أنْـعِـي إلَـيْكُمْ وَالنُّفُوْسُ جَرِيْحَةٌ        الـيَـوْمَ مَـاتَ مُـشَـيّدُ الْبُنْيَانِ

مَـاتَ الْـمُـشَيّدُ لِلْعُلُومِ صُرُوْحَهَا       أكْـرِمْ بـهِ مِـنْ عَـالِـمٍ أَوْ بَانِ

مَـاْ كَـانَ ذَاكَ يُـثِيْرُ أيَّ غَرَابَةٍ     أَوَ لَمْ يُسَمّى في الْورى ب(الْبَانِيْ)

شـيْـخٌ ولـكـنَّ الـشُّيُوخَ تَؤمُّهُ           لِـتَـوَاضُـعٍ وَسَـمـاحةٍ وَتَفَانِ

وتـؤمّـهُ لِـمَـعْـينِ علمٍ فَائِضٍ         وفَـصَـاحَـةٍ وبَـلاغَـةٍ وَبَيَانِ

مَـنْ زارَه يـلْـقَ البَشاشةَ دائِمًا       فـي وجْـهِـهِ وطـلاقـةً بلِسانِ

ويَـدَاهُ تَـشْـهَدُ فِي رَحَابَةِ جُودهِ     وعَـلَـيْـهِ قَـاصٍ شاهِدٌ أو دَانِ

هـجَـرَ الـدِّيَـار لأنّهُ لا يَنْحَنِي         إلاّ لــِرَبٍّ واحــِدٍ ديــَّانِ

هَـجَـرَ الـدّيارَ وفِيْ الدِّيارِ أحبَّةٌ       مَـعَـهُ أتَـوْا فِـيْ قـلْبِهِ الْريَّانِ

كَـمْ كَـانَ يَـذْكُرُهُمْ إلَى جُلَسائِهِ       يَـبْـكِـيْـهـمُ فِـي رقّةٍ وحَنَانِ

يَـبْـكـي دِيَارًا لَمْ تَزلْ مَرْهونةً       لـلـظّـلْـمِ والإفْـسادِ والبُهْتَانِ

لـكِـنّ بَـارقـةَ التَّفاؤُلِ لَمْ تَغِبْ       عَـنْ وجْـهِهِ في غَمْرَةِ الأحْزانِ

حـتّـى أقَـرّ اللهُ عَـيْـنـيْهِ بِمَا           يَـشْـفِـيْ الصّدورَ بثَوْرَةِ الشُّبّانِ

وقَـضَـى غَـرِيْبًا إنّمَا فِيْ أهْلِهِ       فِـي أرْض نَـجْـدٍ مَوْئِلِ الْعِرْفانِ

قدْ شيَّعُوه إلى (النَّسيْمِ) بأَدْمُعٍ([1] )   يـشْـكو الطريْقُ تَزَاحُمَ الرّكْبَانِ

وارَوْه فـي جَـدَثٍ كـأنَّ تُـرابَهُ         مِـسْـكٌ يَـفُوحُ بأطيبِ الرّيْحَان

فـارْحَـمْ إلَـهِـي شَـيْخَنَا وتَولّه          ثَـقِّـل لَـهُ الْحَسَنَاتِ في الْميزانِ

   في رِثاء فضيلة الشيخ العلاَّمة عبد الرحمن الباني:

وكتب تلميذه سليمان محمد غزال قصيدة في رثاء الشيخ الذي انتقل إلى رحمة الله - تعالى - في مدينة الرياض ليلة الخميس 9 جمادى الآخرة 1432هـ، الموافق 12/مايو/2011م - يرحمه الله_

لِجَنَّةِ الْخُلْدِ فِي رَوْحٍ وَرَيْحَانِ            مُنَعَّمًا بَيْنَ حُورٍ ثُمَّ وِلْدَانِ

وَفِي كَرِيمِ رِحَابٍ سَوْفَ تَسْكُنُهَا بِإِذْنِ رَبِّ الوَرَى يَا "عَبْدَ رَحْمَانِ"

تَلْقَى الْجَزَاءَ لَدَى الدَّيَّانِ مُدَّخَرًا      يَوْمَ اللِّقَاءِ غَدًا يَا أَيُّهَا "الْبَانِي"

فَاللهُ يُنْزِلُ مَنْ يَخْشَاهُ جَنَّتَهُ          وَعْدًا وَيُعْلِيهِ فِي قَدْرٍ وَفِي شَانِ

لِذَا فَوَدِّعْ بِرِفْقٍ دُونَمَا أَسَفٍ          هَذِي الْحَيَاةَ وَهَذَا العَالَمَ الفَانِي

  • • •

يَا مَنْ تَرَحَّلْتَ عَنَّا وَالْعُيُونُ هَمَتْ[1] بِفَيْضِ دَمْعٍ مِنَ الآمَاقِ هَتَّانِ

الصَّحْبُ عِنْدَ سَمَاعِ النَّعْيِ قَدْ وَجَمُوا وَقَدْ بَدَوْا بَيْنَ مَذْهُولٍ وَأَسْوَانِ

لَكِنَّ طَمْأَنَةً غَشَّتْ قُلُوبَهُمُ            لِمَا رَأَوْا فِيكَ مِنْ تَقْوًى وَإِيمَانِ

هُمَا الوِقَايَةُ مِنْ هَمٍّ وَمِنْ فَزَعٍ            يَوْمَ اللِّقَاءِ وَمِنْ حَرٍّ وَنِيرَانِ

فَنَمْ رَضِيًّا قَرِيرَ الْعَيْنِ ذَا أَمَلٍ        بِأَنْ تُلاقَى عَلَى عَفْوٍ وَغُفْرَانِ

أَبَا أُسَامَةَ يَا نُورًا عَلَى عَلَمٍ      نَرْجُو لَكَ اللهَ أَنْ تَحْظَى بِرِضْوَانِ

فَأَنْتَ صَاحِبُ فَضْلٍ مِنْ أَحِبَّتِنَا        لَمْ يَخْتَلِفْ بَيْنَنَا فِي ذَلِكَ اثْنَانِ

يَا أَيُّهَا الْعَالِمُ الْمَمْدُوحُ فِي خُلُقٍ    بَيْنَ الأَحِبَّةِ مِنْ قَاصٍ وَمِنْ دَانِ

كَمْ كَانَ عِلْمُكَ ذَا نَفْعٍ وَذَا أَثَرٍ      عَلَى مُرِيدِيكَ مِنْ شِيبٍ وَشُبَّانِ

كَمْ سَرَّ صَحْبَكَ أَقْوَالٌ قَدِ امْتَدَحَتْ فِعَالَكَ البِيضَ يَا ذَا الْخَافِقِ الْحَانِي

وَكَمْ أَحَبَّكَ طُلاَّبٌ قَدِ انْتَفَعُوا          بِعِلْمِكَ الثَّرِّ فِي شَرْحٍ وَتِبْيَانِ

كَمْ كَانَ كَفُّكَ مِعْطَاءً لِذِي عَوَزٍ       وَكَمْ سَبَقْتَ إِلَى جُودٍ وَإِحْسَانِ

لِذَا مَلَكْتَ قُلُوبًا يَا أَخَا كَرَمٍ        رَجَتْ لَكَ الْخَيْرَ فِي سِرٍّ وَإِعْلانِ

  • • •

يَا أَيُّهَا الشَّيْخُ كَمْ فِي مَجْلِسٍ عَطِرٍ أَثْنَى عَلَيْكَ عِظَامُ القَدْرِ وَالشَّانِ

مِنَ الَّذِينَ رَأَوْا مَا كُنْتَ تَفْعَلُهُ        مِنْ كُلِّ مَا كَانَ ذَا نَفْعٍ لإِنْسَانِ

هَذِى جُهُودُكَ فِي التَّعْلِيمِ شَاهِدَةٌ        عَلَى تَمَيُّزِكُمْ فِي كُلِّ مَيْدَانِ

فَفِي الْمَنَاهِجِ قَدْ جَدَّدْتَ صِيغَتَهَا      لِتَخْدُمَ النَّشْءَ مِنْ غِيدٍ وَفِتْيَانِ

وَكَمْ تَفَانَيْتَ فِي التَّأْلِيفِ مُجْتَهِدًا    فِي نَشْرِ عِلْمٍ بِهِ إِعْلاَءُ أَوْطَانِ

وَفِي التَّرَاجِمِ قَدْ غَذَّيْتَ سَاحَتَهَا      بِمَا يُفِيدُ وَمَا يُفْضِي لِعِرْفَانِ

وَكَانَ لُطْفُكَ بِالشُّبَّانِ يَأْسِرُهُمْ    بِحُسْنِ أُسْلُوبِكَ الْمَرْضِي لِوِجْدَانِ

وَلَمْ تَكُنْ تُظْهِرُ الأَعْمَالَ مُرْتَجِيًا    شُكْرَ العِبَادِ وَلَكِنْ شُكْرَ مَنَّانِ

  • • •

يَا شَيْخُ قَدْ كُنْتَ بَدْرًا لِلْوَرَى أَلِقًا     فِي عِلْمِ فِقْهٍ وَتَوْحِيدٍ وَقُرْآنِ

وَالصِّدْقُ فِي النُّصْحِ وَالإِرْشَادِ قَدْ نَفَعَا فِي جَعْلِ جِيلٍ بِحُسْنِ الْخُلْقِ مُزْدَانِ

فَكُنْتَ جَوْهَرَةً فِي العَصْرِ نَادِرَةً        فِي كُلِّ عِلْمٍ يُعَلِّي كُلَّ بُنْيَانِ

قَالَ الْمُحِبُّونَ فِيكَ الْقَوْلَ أَطْيَبَهُ        وَكَمْ أَفَاضُوا بِمَدْحٍ ثُمَّ شُكْرَانِ

وَالبَعْضُ عَبَّرَ عَنْ هَذَا بِقَوْلَتِهِ:  "مَا كَانَ أَتْقَى وَلاَ أَنْقَى مِنَ الْبَانِي"

فِي عَصْرِنَا.. يَا لَهَا مِنْ قَوْلَةٍ صَدَرَتْ مِنْ عَالِمٍ صَادِقٍ فِي القَوْلِ ذِي شَانِ

إِذْ إِنَّهُ مِنْ ثِقَاتٍ مَا لَهُمْ مَثَلٌ          فِي عَالَمٍ تَاهَ فِي زُورٍ وَبُهْتَانِ

  • • •

يَا شَيْخَنَا مُذْ فَقَدْنَا نُورَ طَلْعَتِكُمْ    وَنَحْنُ نَحْيَا عَلَى ضِيقٍ وَأَحْزَانِ

لِأَنَّ فَقْدَ عِظَامِ النَّاسِ يُؤْلِمُنَا              بِهِ نُحِسُّ بِغُرْمٍ ثُمَّ خُسْرَانِ

لَكِنْ يُصَبِّرُنَا عَمَّا أُرِيدَ بِنَا                  إِيمَانُنَا بِلِقَاءٍ مُفْرِحٍ ثَانِ

بِمِنَّةِ اللهِ فِي جَنَّاتِهِ بِغَدٍ              سُبْحَانَهُ اللهُ ذُو فَضْلٍ وَإِحْسَانِ

يَا رَبِّ رُحْمَاكَ بِالْبَانِي أَعِدَّ لَهُ      طِيبَ الْمُقَامَةِ فِي جَنَّاتِ عَدْنَانِ

وَاجْعَلْ مُحِبِّيهِ دَوْمًا فِي تَمَامِ رِضًا      مُزَوَّدِينَ بِصَبْرٍ ثُمَّ سُلْوَانِ

المصادر:

١_ الموسوعة التاريخية الحرة.

٢_ موقع نور الشام.

٣_ رابطة أدباء الشام.

٤_ رابطة العلماء السوريين.

٥_ موقع شبكة الألوكة.

٦_كتاب الشيخ عبد الرحمن الباني : تأليف أيمن ذو الغنى.

٧_مواقع إلكترونية أخرى.

وسوم: العدد 1040