الدُّرُّ الثَّمِينُ بِشَرْحِ قَصِيدَةِ السُّلْطَانِ نُورِ الدِّين

مع ترجمة موسعة لنور الدين الشهيد

 ومقالات مهمة عنه

الخَلِيفَةُ الرَّاشِدِيُّ السَّادِسُ، والمُصلِحُ المُجَدِّدُ

السُّلْطَانُ العَادِلُ العَظِيمُ والقائِدُ الكَبِيرُ

نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زِنْكِي التُّرْكِيُّ - طَيَّبَ اللهُ ثَرَاهُ

(511 - 569هـ = 1118- 1174م)

1- يَا نَفْسُ قُولِي الشِّعْرَ وَيْكِ أجِيدِي

     فِي مَدْحِ سُلْطَانِ الهُدَى مَحْمُودِ

-2 العادِلُ   المَلِكُ   التَّقِيُّ     لِرَبِّهِ

     فَذٌّ ؛ بِحُسنِ سُلُوكِهِ المَعْهُودِ

-3 خَيرُ المُلُوكِ   بِعَصْرِهِ ، وأجَلُّهُمْ

     عَدْلًا، و تَقْوًى، و استِقَامَ عَمُودِ

-4 القائِدُ المِغْوَارُ ، و المِقْدَامُ فِي

   سُوحِ الوَغَى، ذُو العَزْمِ والتَّأيِيدِ

-5 الفارِسُ   الخَيَّالُ ؛   قَلَّ   نَظِيرُهُ

     بِفُرُوسَةٍ ، و رِيَاضَةٍ ،   كَحَدِيدِ

*********

-6 هُوَ نَجْلُ زِنْكِي ذِي الصَّلَاحِ وسِيرَةٍ

زَهْرَاءَ عَاطِرَةٍ ، كَنَفْحِ العُودِ

-7 زِنْكِي الشَّهِيدُ، هُوَ الغَيُورُ وذُو التُّقَى

و شَجَاعَةٍ ، وبَسَالَةٍ ، و صُمُودِ

*********

1

-8 هو صاحِبُ العَهْدِ المُشِعِّ حَضَارَةً

   و نَضَارَةً ؛ بِجِهَادِهِ ، و جُهُودِ

-9 عَهدٌ   كَعَهْدِ الرَّاشِدِينَ ؛   نَقَاوَةً

   و عَدَالَةً ، بِمَعَزَّةٍ ، و سُعُودِ

-10 بانِي المَدارِسِ والمَساجِدِ مُنصِفٌ

   لِرَعِيَّةٍ ، و ضِعَافِهِمْ ،   بِمَزِيدِ

-11 لَيثٌ   لِدِينِ اللهِ ؛ حَامِلُ رايَتَيْ

   عَدْلٍ ، جِهَادٍ - لِلْعِدَى - مَمْدُودِ

-12 و مُدَوِّخُ الأعْداءِ ، دَاحِرُ جَمْعِهِمْ

     أعْنِي الفِرَنْجَ، بِجَيْشِهِ الصِّنْدِيدِ

-13العَالِمُ ، الوَرِعُ ، الفَقِيهُ ؛ بِفِقْهِهِ

   و حَدِيثِهِ ،   و بِخُلْقِهِ   المَحْمُودِ

*********

-14 وُلِدَ الفَتَى مَحْمُودُ فِي شَهْبَائِنَا

   و نَشَا عَلَى التَّقْوَى مَعَ التَّوحِيدِ

-15وبِهَا فَقَدْ سَمِعَ الحَدِيثَ ، و جِلَّقٍ

   و رَوَاهُ عن أعلامِهِ ؛   بِشُهُودِ

-16لَقَدِ اسْتَقَى مِنْهُمْ   لِعَذْبِ نَمِيرِهِ

   حَتَّى ارْتَوَى مِن حَوضِهِ المَورُودِ

 

2

-17و كَذَا ؛ فَقَدْ دَرَسَ التَّفَقُّهَ نَاهِلًا

حَتَّى اشْتَفَى مِن وِرْدِهِ المَقْصُودِ

-18 و لَكَمْ أفَادَ مِنَ الدُّرُوسِ وخِبْرَةٍ

   مِن والِدٍ   - فذٍّ   أجَلَّ -   فَرِيدِ

-19مِنْهُ اسْتَفَادَ بِحِكْمَةٍ ، و تَمَرُّسٍ

     و سِيَاسَةٍ ،   و إدَارَةٍ ،   بِعُقُودِ

-20و بُعَيدَ مَوْتِ أبِيهِ   بَاشَرَ مُلْكَهُ  

   بِعَزيمَةٍ ،   و بِهمَّةٍ ،   و صُمُودِ

*********

-21يا أيُّهَا البَطَلُ الهُمَامُ ! بِفَتْحِهِ

   مُدُنًا   كِثَارًا ؛   بِالقَنَا ، و بُنُودِ

-22يا نَاصِرَ الإسلامِ   فِي تَحْرِيرِهِ  

     تِلْكَ المَدَائِنَ والقُرَى ، بِجُهُودِ

-23و مُشَتِّتًا جَيْشَ الفِرَنْجِ ، مُذِلَّهُمْ  

     و مُعِزَّ دِينِ   الوَاحِدِ   المَعْبُودِ

-24 ومُوَفَّقًا في صَدِّ جَيشِ صَلِيبِهِمْ  

     و بِدَحْرِهِمْ ، مَعَ ذِلَّةٍ ، وخُمُودِ

-25في"حارِمٍ"،"بانْيَاسَ"، "أنْطَاكِيَّةٍ"

     و بِغَيرِهَا ، نَصْرٌ عَزِيزُ وُجُودِ

*********

3

-26يَا مُظْهِرًا لِلسُّنَّةِ   الغَرَّاءِ فِي

     حَلَبِ العُلَى ، مِن بَعدِ طُولِ عُهُودِ

-27في قَمْعِ عاداتِ الرَّوَافِضِ في الأذَا

   نِ ، وغَيرِهِ ؛ مِن بِدْعَةٍ لِمَرِيدِ

*********

-28أمُعَظِّمًا   حُرَمَ الشَّرِيعَةِ ،   كُلَّهَا  

     في حُكْمِهِ ؛ بِرَعِيَّةٍ ، و جُنُودِ

-29أبْطَلْتَ أحْكَامَ المُكُوسِ و مُنْكَرَا

     تٍ جَمَّةً ، قَدْ رُسِّخَتْ لِعُقُودِ

-30 وقَصَدْتَ في الإنْفَاقِ في لِبْسٍ وفي

   طُعْمٍ و شُرْبٍ ، أُسْرَةٍ ؛ بِزَهِيدِ

*********

-31يا بانِيًا ! لِمَدارِسٍ ، ومَسَاجدٍ

     و مَشَافِيًا ، و خَوَانِقًا ، بِرُفُودِ

-32و مُحَصِّنَ البُلْدَانِ في أسْوارِهَا  

     و قِلاعِهَا ؛ بِالعَدْلِ ، والتَّشْيِيدِ

-33 و مُعَمِّرًا لِجُسُورِها ، خانَاتِها  

     رُبُطٍ بِها ، في هِمَّةٍ ، و نُهُودِ

-34يا بَانيًا "دارَ الحَدِيثِ"، و مِثْلَها  

     لِـ "العَدْل" ؛ إرْعَاءً لِكُلِّ جَهِيدِ

4

-35 هَذا، عَدَا الأوقَافِ لِلضُّعَفَاء والـ

       أيْتَامِ ، مَعْ كُتْبٍ   نِفَاسٍ جُودِ

   *********

-36يا مُكْرِمًا عُلَمَاءَنَا ، و مُوَقِّرًا  

       و مُشَاوِرًا   لَهُمُو مَعَ التَّأيِيدِ

-37 و مُقَدِّمًا   لَهُمُو على أمَرَائِهِم

       فَلِذَا حَبَاكَ - اللهُ - بِالتَّسْدِيدِ

   *********

-38لِلَّهِ   دَرُّكَ !   في خِلَالٍ   جَمَّةٍ  

       و مَنَاقِبٍ غُرٍّ - زَهَتْ- كَعُقُودِ

-39أعْطاكَهَا الوَهَّابُ مِنْهُ تَكَرُّمًا

         و تَفَضُّلًا مِنْ سَيْبِه المَمْدُودِ

-40 كَذَكَائِكَ الوَقَّادِ ،  مَعْ   جِدِّيَّةٍ

       و شُعُورِ مَسْؤُولِيَّةٍ ، و صُمُودِ

-41 و لَيَاقَةٍ   بَدَنِيَّةٍ ،   و رِيَاضَةٍ

         و تَدَرُّبٍ ، و تَمَرُّنٍ ، بِمَزِيدِ

-42وشَجَاعَةٍ، مَعَ قُوَّةٍ في شَخْصِكُمْ

       و سَخَاءِ إنفاقٍ، و كَثْرَةِ جُودِ

-43 هَذا ، مَعَ الزهد الكَبِيرِ و حُبِّهِ  

       لِجِهَاد أعْداءٍ ، و كُلِّ جَحُودِ

5

-44وهُوَ التَّقِيُّ ، ولا تَعَصُّبَ عِنْدَهُ  

       مَعَ هَيْبَةٍ ، و تَعَبُّدٍ ، و هُجُودِ

-45بِبِنَا الحَيَاةِ اهتَمَّ مَعْ عُمْرَانِهَا  

       بِوِهَادِ مَمْلَكَةٍ   لَهُ ، و نُجُودِ

-46 مَعَ الِاقْتِدَارِ عَلَى مُواجَهَة الحَوَا

       دِثِ كُلِّها ، مَعَ حَلِّهَا بِسَدِيدِ

   *********

-47لِلَّهِ   دَرُّك !   قارئًا ،   و مُثَقَّفًا  

       لا سِيَّمَا كُتُبَ الهُدَى ، لِمَزِيدِ

-48و مُؤدِّيًا   لِصَلَاتِكُمْ ، بِجَمَاعةٍ

         مَعَ الِاتِّبَاعِ   لِسُنَّة المَحْمُودِ

-49مَعَ فِعْلِ خَيْرَاتٍ ، وعِفَّةِ قَبْقَبٍ  

       مَعَ لَقْلَقٍ ،   أو ذَبْذَبٍ   مِرِّيدِ

-50 مَعَ حُسْنِ خَطٍّ في الكِتابَةِ واضِحٍ

       مُتَوَاضِعٌ   لِرَعِيَّةٍ ،   و جُنُودِ

   *********

-51 يا سَيِّدِي مَحْمُودُ ! قُمْ فَانْظُرْ إلَى

     رَبْعِ الشَّآمِ ؛ التَّاعِسِ المَنْكُودِ

-52 اُنظُرْ لَهُ ؛ أمْسَى سَقِيمًا مُنْهَكًا

     بِبُشَيِّرِ ؛ المُتَغَطْرِسِ   العِرْبِيدِ

6

-53نَيْرُونِ هَذَا العَصْرِ حاكِمِ سُورِيَا

بَطَّاشِهَا ، و هِوَكِّهَا ، الرِّعْدِيدِ

-54 الحَاكِمِ الخَوَّانِ ، سَفَّاحِ الوَرَى

     دَجَّالِنَا ؛ الحَشَّاشِ و النُّمْرُودِ

-55دَاهِي المَلَايِنِ مِنْ بَنِي سُورِيَّةٍ  

   بِالقَتْلِ ، و التَّهْجِيرِ، و التَّشْرِيدِ

-56 عَشْرٌ مِنَ السَّنَوَاتِ وهْوَ يَسُومُنَا

   خَسْفًا   بِهَا ؛ بِعَسَاكِرٍ و جُنُودِ

-57 عَشرٌ مِن السنواتِ يُصْلِي أهْلَنَا

   بِالنَّارِ   مِنْ سِجِّيلِهِ   المَنْضُودِ

-58 قَصْفًا     بِدَبَّاباتِهِ ،   و مَدَافِعٍ

     طَيَرَانِهِ ،   بِبَرَامِلِ   البارُودِ؟!

-59بِالسَّجْنِ بِالتَّعْذِيبِ ضِمْنَ سُجُونِهِ

   بِأتُونِهَا ، و جَحِيمِهَا ، و حَدِيدِ

-60و بِنَشْر كِبْتَاغُونَ   بَيْنَ شَبَابِنَا

       كَيْ يَهْلِكُوا بِزُعَافِهِ المَعْهُودِ!

*********

-61 فِي عَهْدِ بَشَّارٍ غَدَتْ   سُورِيَّةٌ

     كَلَأً   مُبَاحًا   لِلْعِدَا ، و يَهُودِ؟!

 

7

-62جَاءَ الرَّوَافِضُ فَاسْتَبَاحُوا شَامَنَا

   بِالبَيْعِ ، و الإسْكَانِ، و التَّشْيِيدِ!

-63 هُمْ يَسْرَحُونَ ويَمْرَحُونَ بِرَبْعِهَا

   و يُنَكِّلُونَ   بِسُنَّةٍ ،   بِمَزِيدِ؟!

-64لِلرُّوسِ سَلَّمَ سُورِيَا ، وأبَاحَهُمْ

     ثَرَوَاتِهَا ؛ فِي صَفْقَةٍ و عُقُودِ!!

-65طَيَرَانُهُمْ قَتَلَ الكَثِيرَ مِنَ اهْلِنَا

   بِشُيُوخِهِمْ ، ونِسَائِهِمْ ، ووَلِيدِ؟!

-66 مَعَ كُلِّ هَذَا يَدَّعِي لِسِيَادَةٍ !

   فِي الشَّامِ؛ إن بِوِهَادِهَا، ونُجُودِ!

-67 ونَرَى اليَهُودَ بِكُلِّ حِينٍ يُمْطِرُو

   نَ   بِلادَنَا ،   بِقَذَائِفِ البارُودِ!

-68فَإذَا   بِبَشَّارٍ يُقَابِلُ   صَفْعَهُمْ  

     بِرِضَاهُ ، مُحْتَفِظًا بِحَقِّ رُدُودِ!

-69 أسَدٌ عَلَيْنَا مُمْعِنٌ فِي قَمْعِنَا

       و نَعَامَةٌ ؛ فِي صَدِّه   لِيَهُودِ؟!

-70 أسَدٌ علينَا مُسْرِفٌ فِي قَتْلِنَا  

   و مَعَ العَدُوِّ كَأَرْنَبٍ   رِعْدِيدِ؟!

-71لَا تَعْجَبُوا يَا قَوْمُ فَهْوَ حَبِيبُهُمْ

   ضَرْبُ الحَبِيبِ كَشَهْدٍ اوْ مَعْقُودِ!

*********

-72مَوْلَايَ نُورَ الدِّينِ أمْسَتْ شَامُكُمْ  

   بِزَمَانِنَا ، مَرْعًى لِكُلِّ حَقُودِ؟!

-73 عَجَبًا لَهَا! قَدْ بُدِّلَتْ مِنْ بَعْدِكُمْ  

     نَحْسًا بِسَعْدٍ، قِرْدَهَا بِأُسُودِ؟!

*********

-74فَبِجَاهِ مَحْمُودٍ إلَهِي انْهَضْ بِهَا

     خَلِّصْ حِمَانا مِنْ وَبَا نُمْرُودِ

-75وأعِدْ لَهَا مَجْدًا لِيَنْهَضَ أهْلُها

   كَيْ يَبْتَنُوا الأوْطَانَ غِبَّ هُمُودِ

-76واغْفِرْ لِمَحْمُودٍ إلَهِي! وارْحَمَنْ

       فِي قَبْرِهِ ، بِمَرَاحِمٍ ، و سُعُودِ

-77 أسْكِنْه رَبِّي! في الفَرَادِيسِ العُلَى

       يَومَ القِيَامَةِ ،  مُنْعَمًا   بِبُرُودِ

-78و كذَاكَ   أتْبَاعٌ   لَهُ ، و أحِبَّةٌ

         بِجِنَانِ عَدْنٍ ، فاحْبُهُمْ بِخُلُودِ

   *********

مِن دَواوِيني:

"في رِحَاب العُظَمَاء"، و"بنات تُركية"، و"العُثْمانِيَّات والتُّرْكِيَّات"

9

الدُّرُّ الثَّمِينُ بِشَرْحِ قَصِيدَةِ السُّلْطَانِ نُورِ الدِّين

*ترجمة نور الدين

السلطان نور الدين محمود الشهيد

(511- 569هـ = 1118- 1174م)

*اسمه ونسبه:

*هو العادل نور الدين محمود بن زنكي (عماد الدين) ابن آقسنقر التركي، أبو القاسم، نور الدين، الملقب بـ "الملك العادل"، و"ليث الإسلام": ملك الشام وديار الجزيرة ومصر، وهو أعدل ملوك زمانه وأجلهم وأفضلهم.

*كان من المماليك؛ فجَدُّه من موالي السلجوقيين.

*مولده: ولد في حلب، في شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة .

وانتقلت إليه إمارتها بعد وفاة أبيه "زنكي" سنة (541هـ)، وكان مُلحقا بالسلاجقة، فاستقلَّ، وضم دمشق إلى مُلكه، وامتدَّت سلطته في المَمالِك الاسلامية حتى شملت جميع سورية الشرقية، وقِسما من سورية الغربية، والموصل، وديار بكر، والجزيرة، ومصر، وبعض بلاد المغرب، وجانبا من اليمن، وخُطب له بالحرمين الشريفين.

كما كان نور الدين حامل رايتي العدل والجهاد، قلَّ أن ترى العيون مثله، حاصر دمشق، ثم تملكها، وبقي بها عشرين سنة .

*بعض فتوحاته:

افتتح أولا حصونا كثيرة، وفامية، والراوندان، وقلعة إلبيرة، وعزاز، وتل باشر، ومرعش، وعين تاب، وهزم البرنس صاحب أنطاكية، وقتله في ثلاثة آلاف من الفرنج، وأظهر السنة بحلب وقمع الرافضة.

*فتحه مصر: جهز نور الدين -رحمه الله- جيشا لجبا مع نائبه أسد الدين شيركوه، فافتتح مصر، وقهر دولتها الرافضية، وهربت منه الفرنج، وقتل شاور، وصفت الديار المصرية لشيركوه نائب نور الدين، ثم لصلاح الدين، فأباد العبيديين، واستأصلهم، وأقام الدعوة العباسية.

10

*كان مُعتنيا بمصالح رعيَّته، مُداوما للجهاد، يُباشر القتال بنفسه، مُوفَّقا في حروبه مع الصليبين، ايام زحفهم على بلاد الشام.

*أسقط نور الدين ما كان يُؤخذ من المُكُوس -"الضرائب الظالمة المفروضة على التُّجَّار الغُرَباء"-، وأقطع عرَبَ البادية إقطاعات لئلا يتعرَّضوا للحُجَّاج.

*مما بناه وأنشأه من المدارس والمساجد وغيرها:

وبنى المدارس بحلب وحمص ودمشق وبعلبك، وغيرها، كما بنى الجوامع والمساجد، وسُلِّمت إليه دمشق للغلاء والخوف، فحصَّنها، ووسَّع أسواقها،

وأنشأ "المارستان" و"دارالحديث" بدمشق، والمدارس ومساجد عِدَّة، وأبطل المُكوس من دار بطيخ وسوق الغنم، والكيالة وضمان النهر والخمر، ثم أخذ من العدو بانياس والمُنيطرة، وكسر الفرنج مرات، ودوَّخهم، وأذلَّهم .

وبنى كذلك "دار العدل" بدمشق، وأنصف الرعية، ووقف على الضعفاء والأيتام والمُجاورين، وأمر بتكميل سُور المدينة النبوية، واستخراج العين بأحد التي دفنها السيل، وفتح درب الحجاز، وعمر الخوانق والربط والجسور والخانات بدمشق، وغيرها، وكذا فعل إذ ملك حران، وسنجار، والرها، والرقة، ومنبج، وشيزر، وحمص، وحماة، وصرخد، وبعلبك، وتدمر، ووقف كتبا كثيرة مُثمنة، وكسر الفرنج والأرمن على حارم، وكانوا ثلاثين ألفا، فقلَّ مَن نجا، وعلى بانياس.

*وهو الذي حصن قلاع الشام وبنى الاسوار على مدنها، كدمشق وحمص وحماة وشيزر وبعلبك وحلب، وبنى مدارس كثيرة منها (العادلية) أتمها بعده العادل أخو صلاح الدين، و (دار الحديث) كلتاهما في دمشق، وهو أول من بنى دارا للحديث، كما أنشأ "البيمارستان؛ المستشفى" المشهور في دمشق باسمه "البيمارستان النوري".

*كما بنى نور الدين رحمه الله أيضا: "الجامع النوري" بالموصل، والخانات في الطُّرُق، والخوانق للصوفية.

11

*وفاته: كان -رحمه الله- يتمنَّى ان يموت شهيدا، فمات بعِلَّة (الخوانيق) في قلعة دمشق في 11/شوال/ 569هـ؛ فقيل له (الشهيد).

*قبر نور الدين: قال الذهبي: وقبره في تُربته في عند "باب الخواصين" -في "المدرسة النورية"- يُزار.

وكان قد بنى تلك المدرسة للأحناف بدمشق.

sdfdfd10491.jpg

ضريح السلطان نور الدين محمود زنكي - دمشق

*من سجاياه ومناقبه وأخلاقه:

وكان نور الدين مليح الخط، كثير المطالعة، يصلي في جماعة، ويصوم، ويتلو ويسبح، ويتحرى في القوت، ويتجنب الكبر، ويتشبه بالعلماء والأخيار، ذكر هذا ونحوه الحافظ ابن عساكر، ثم قال: روى الحديث، وأسمعه بالإجازة، وكان من رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره، فإذا فاوضه، رأى من لطافته وتواضعه ما يحيره.

*حكى من صحبه حضرا وسفرا أنه ما سمع منه كلمة فُحش في رضا ولا في ضجر، وكان يُؤاخي الصالحين، ويزورهم، وإذا احتلم مماليكه أعتقهم،

وزوجهم بجواريه، ومتى تشكوا من ولاته عزلهم، وغالب ما تملكه من البلدان تسلمه بالأمان، وكان كلما أخذ مدينة، أسقط عن رعيته قِسطًا.

*وقال أبو الفرج بن الجوزي: جاهد، وانتزع من الكفار نيفا وخمسين مدينة وحصنا، وبنى بالموصل جامعا غرم عليه سبعين ألف دينار، وترك المكوس قبل موته، وبعث جنودا فتحوا مصر، وكان يميل إلى التواضع وحب العلماء والصلحاء، وكاتبني مرارا، وعزم على فتح بيت المقدس.
*وقال الموفق عبد اللطيف: كان نور الدين لم ينشف له لبد من الجهاد، وكان يأكل من عمل يده، ينسخ تارة، ويعمل أغلافا تارة، ويلبس الصوف، ويلازم السجادة والمصحف، وكان حنفيا يُراعي مذهب الشافعي ومالك، وكان ابنه الصالح إسماعيل أحسن أهل زمانه.

*وقال ابن خلكان: ضربت السكة والخطبة لنور الدين بمصر، وكان زاهدا عابدا، متمسكا بالشرع، مجاهدا، كثير البر والأوقاف، له من المناقب ما يستغرق الوصف.

*وقال ابن الأثير: طالعت السير فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحريا منه للعدل، وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا من ملك له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة، لقد طلبت زوجته منه، فأعطاها ثلاثة دكاكين، فاستقلتها، فقال: ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين، وكان يتهجد كثيرا، وكان عارفا بمذهب

أبي حنيفة، لم يترك في بلاده على سعتها مَكْسًا، وسمعت أن حاصل أوقافه في البر في كل شهر تسعة آلاف دينار صورية .

*قال له القطب النيسابوري بالله لا تُخاطر بنفسك، فإن أصِبت في معركة لا يبقى للمسلمين أحد إلا أخذه السيف، فقال: ومَن محمود حتى يُقال هذا؟!

حفظ الله البلاد قبلي، لا إله إلا هو.

*قال الذهبي: كان دينا تقيا، لا يرى بذل الأموال إلا في نفع، وما للشعراء عنده نَفَاق، وفيه يقول أسامة:

سُلطاننا زاهد والناس قد زهدوا

     له ، فكل على الخيرات مُنكمشُ

أيامه مثل شهر الصوم طاهرة

     من المعاصي وفيها الجوع والعطش

13

*قال مجد الدين ابن الأثير في نقل سبط ابن الجوزي عنه: لم يلبس نور الدين حريرا ولا ذهبا، ومنع من بيع الخمر في بلاده -قلت: قد لبس خلعة الخليفة والطوق الذهب- قال: وكان كثير الصوم، وله أوراد في الليل والنهار، ويكثر اللعب بالكرة، فأنكر عليه فقير، فكتب إليه: والله ما أقصد اللعب، وإنما نحن في ثغر، فربَّما وقع الصوت، فتكون الخيل قد أدمنت على الانعطاف والكَرِّ والفَرِّ. وأهديت له عمامة من مصر مُذهبة، فأعطاها لابن حمويه شيخ الصوفية، فبيعت بألف دينار .

*قال وجاءه رجل طلبه إلى الشرع، فجاء معه إلى مجلس كمال الدين الشهرزوري، وتقدمه الحاجب يقول للقاضي قد قال لك: اسلك معه ما تسلك مع آحاد الناس. فلما حضر سوَّى بينه وبين خصمه، وتحاكما، فلم يثبت للرجل عليه حق، وكان ملكا، ثم قال السلطان :فاشهدوا أني قد وهبته له .
وكان يعقد في دار العدل في الجمعة أربعة أيام ، ويأمر بإزالة الحاجب والبوابين، وإذا حضرت الحرب شد قوسين وتركاشين.

وكان لا يكل الجند إلى الأمراء، بل يُباشر عددهم وخيولهم، وأسر إفرنجيا، فافتكَّ نفسَه منه بثلاثمائة ألف دينار، فعند وصوله إلى مأمنه مات، فبنى بالمال المارستان والمدرسة .

*قال العماد الأصفهاني في "البرق الشامي":

أكثرَ نور الدين عام موته من البر والأوقاف وعمارة المساجد، وأسقط ما فيه حرام، فما أبقى سوى الجزية والخراج والعشر، وكتب بذلك إلى جميع البلاد، فكتبت له أكثر من ألف منشور. قال: وكان له برسم نفقة خاصة في الشهر من الجزية ما يبلغ ألفي قرطاس يصرفها في كسوته ومأكوله وأجرة طباخه وخياطه كل ستين قرطاسا بدينار.

*قال سبط ابن الجوزي: كان له عجائز، فكُنَّ يَخِطنَ الكوافي، ويعملنَ السكاكر فيبعنها له سرا، ويُفطر على ثمنها.

14

*قال ابن واصل:

كان من أقوى الناس قلبا وبدنا، لم ير على ظهر فرس أحد أشد منه، كأنما خلق عليه لا يتحرك، وكان من أحسن الناس لعبا بالكرة، يجري الفرس ويخطفها من الهواء، ويرميها بيده إلى آخر الميدان، ويمسك الجوكان بكمه تهاونا بأمره، وكان يقول: طالما تعرَّضت للشهادة، فلم أدركها.

*قال الذهبي:

قلت: قد أدركها على فراشه، وعلى ألسنة الناس نور الدين الشهيد، والذي أسقط من المكوس في بلاده، ومبلغه في العام خمسمائة ألف دينار، وستة وثمانون ألف دينار، وأربعة وسبعون دينارا من نقد الشام، منها على الرحبة ستة عشر ألف دينار، وعلى دمشق خمسون ألف وسبعمائة ونيف، وعلى الموصل ثمانية وثلاثون ألف دينار ، وعلى جعبر سبعة آلاف دينار ونيف، وفي الكتاب: فأيقنوا أن ذلك إنعام مستمر على الدهور، باق إلى يوم النشور، ف كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه وكتب في رجب سنة سبع وستين وخمسمائة .
*قال سبط ابن الجوزي: حكى لي نجم الدين بن سلام عن والده أن الفرنج لما نزلت على دمياط ، ما زال نور الدين عشرين يوما يصوم ، ولا يفطر إلا على الماء، فضعف وكاد يتلف ، وكان مهيبا ، ما يجسر أحد يخاطبه في ذلك، فقال إمامه يحيى:  إنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم يقول: يا يحيى، بشر نور الدين برحيل الفرنج عن دمياط،  فقلت: يا رسول الله، ربما لا يصدقني. فقال: قل له: بعلامة يوم حارم. وانتبه يحيى، فلما صلى نور الدين الصبح، وشرع يدعو، هابه يحيى، فقال له: يا يحيى، تحدثني أو أحدثك؟ فارتعد يحيى، وخرس، فقال: أنا أحدثك، رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الليلة، وقال لك كذا وكذا. قال: نعم، فبالله يا مولانا، ما معنى قوله: بعلامة يوم حارم؟ فقال: لما التقينا العدو، خفت على الإسلام، فانفردت، ونزلت، ومرغت وجهي على التراب، وقلت: يا سيدي، من محمود في البين، الدين دينك، والجند جندك، وهذا اليوم افعل ما يليق بكرمك. قال: فنصرَنا الله عليهم .

15

كان مُتواضعا مهيبا وقورا، مُكرما للعلماء ينهض لِلِقائهم، ويُؤنسهم، ولا يَرُدُّ لهم قولا، عارفا بالفقه على مذهب أبي حنيفة، ولا تعصب عنده، وسمع الحديث بحلب ودمشق من جماعة، وسمع منه جماعة.

*قال الزركلي: "وقرأت في كتاب (مشارع الاشواق-خ) في الجهاد، لأحمد بن ابراهيم بن محمد النحاس الدمشقي، الورقة39: (خرج السلطان المجاهد محمود المعروف بالشهيد، رحمه الله، في كتاب فضل الجهاد بإسناده عن سعيد بن سابق الخ)، وكان يجلس في كل أسبوع أربعة أيام يحضر الفقهاء عنده، ويأمر بإزالة الحجاب حتى يصل اليه من يشاء، ويسأل الفقهاء عمَّا يُشكل عليه، ووقف كتبا كثيرة". الأعلام 7/170.

*حليته:

وكان أسمر طويلا، حسن الصورة، ليس بوجهه شعر سوى حنكه،
له لحية في حنكه، وكان واسع الجبهة، حلو العينين.

*مِمَّا كُتب عنه وعن دولته:

1- "سيرة الملك العادل نور الدين زنكي؛ الدر الثمين في سيرة نور الدين". لمحمد بن أبي بكر ابن قاضي شهبة، كتاب في سيرته، تح أحمد مرشد، ط1، دار الفتح للدراسات والنشر، 2023م، في 392 ص.

2- "كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية- ط". في سيرته وسيرة السلطان صلاح الدين، ودولتيهما. لشهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الدمشقي؛ أبي شامة 665هـ، تح إبراهيم الزيبق في 5 مج، الخامس للفهارس، وأكثر من 2150ص، ط 1، مؤسسة الرسالة - دمشق، 1418هـ - 1997م.

3- "التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية- بالموصل". لعلي بن محمد الشيباني؛ ابن الأثير الجَزَرِي ت 630هـ، "رسالة تخصص؛ ماجستير"، قُدِّمت إلى "جامعة عين شمس - قسم التاريخ الإسلامي" بمصر، تح الباحث الأستاذ عبد القادر أحمد طليمات، ط1؟ دار الكتب الحديثة - القاهرة، ومكتبة المُثنَّى - بغداد، 1382هـ - 1962م.

16

4- "الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي". د. علي محمد الصلابي، ط 1، دار المعرفة بيروت، 1427هـ - 2007م، في 680 ص.

5- "نور الدين محمود وتجربته الإسلامية". د. عماد الدين خليل، ط 1؟ دار القلم - دمشق. وطبعة أخرى بعنوان: "نور الدين محمود زنكي: الرجل والتجربة"، في 160 ص، ط دار السلام - مصر، 2020م.

6- "القائد المُجاهِد نور الدين محمود زنكي: شخصيته وعصره". د. علي محمد الصلابي، ط1، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة - القاهرة، 1428هـ- 2007م، في 416 ص.

7- "السلطان العادل نور الدين محمود زنكي". نزار محمد عثمان، بحث مختصر في ترجمته في 28 ص.

8- "المؤسسات التعليمية في عهد نور الدين محمود وأثرها في عملية الإصلاح"- (المدارس أنمُوذَجًا). بحث علمي في 28ص، للباحث أ. م. د. نور سعد مُحسن البياتي، "ديوان الوقف السني"، "مركز البحوث والدراسات الإسلامية" - العراق، 2019م، منشور في "مجلة البحوث والدراسات الإسلامية" العدد (58).

9- "نشاطات نور الدين محمود زنكي العسكري في دمشق ومنبج". بحث لعائشة بنت مرشود الحربي أستاذة التاريخ الوسيط المشاركة في "جامعة طيبة" السعودية، منشور في "مجلة دراسات بيت المقدس"، ع 18/سنة 2018م، في 12 ص.

*ينظر: 1- "سير أعلام النبلاء" للإمام الذهبي 20/532- 539.

2- "الأعلام" لخير الدين الزركلي 7/170.

3- "موقع د. عماد الدين خليل".

4- موقع "المكتبة الوقفية".

*ومواقع أخرى للكتب.

17

*غريب القصيدة:

(1) يا نفس: مخاطبة النفس أسلوب اعتاد بعض الشعراء استعماله، ويحضرني الآن سيدنا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين أنشد مُخاطِبًا نفسه مرتجزا:

أقسمتُ يا نفسُ ! لَتَنزِلِنَّه             لتنزِلِنَّ ،   أو   لَتُكْرَهِنَّهْ

ما لِي أراكِ تَكرَهِينَ الجَنَّة           ما أنتِ إلَّا نُطْفَةٌ في شَنَّةْ

*وَيكِ: وَيْ: كلمةُ تَعَجُّب، وقيل زَجْرٌ، وقد تليها كافُ الخِطاب، تقول: وَيْكَ. "المعجم الوسيط" 1061.

*أجيدي: قولي الجَيِّدَ من الشِّعر. *المدح: ذكر الصفات الحسنة لِلمَمْدُوح. *الهُدى: الإسلام. *محمود: اسم السلطان نور الدين الشهيد رحمه الله.

(2) العادل: هو لقب السلطان نور الدين الشهيد لحكمه بين الناس بالعدل. *التقي: مَن يخاف الله تعالى. *فَذٌّ: لا نظيرَ له، فَرْدٌ. *بحُسن سلوكه: بجميل اخلاقه، وحميد صفاته ومُعاملته. *المعهود: المعروف.

(3) خير الملوك بعصره: اتفق جل مؤرخي المسلمين على أن السلطان نور الدين محمود بن زنكي كان خير ملوك وحُكَّام زمانه. *أجلهم: أعظمهم. *استقام عمود: أي في استقامة الأمور والآراء؛ جاء في "المعجم الوسيط" ص 626: عمود الأمر: قِوَامه الذي لا يستقيم إلا به، ويقال: استقاموا على عمود رأيهم: على وجه يعتمدون عليه.

(4) القائد: الزعيم الذي يقود الجيوش في حروبه ومعاركه.

*المغوار: المقاتل كثيرات الغارات على أعدائه. *"الوسيط" 666. *المِقْدام والمِقْدامَةُ: الكثير الإقدام على العَدُوِّ، الجريءُ في الحرب ج مَقَادِيم. "الوسيط" 720. *سُوح وساح: ج ساحة، وهي المِساحة الواسعة. *الوَغَى: الحرب.

*ذو العَزْم: صاحب القُوَّة والشِّدَّة. *التأييد: التوفيق والنصر.

18

(5) الخَيَّال: الفارس الماهر في ركوب الخيل. *نظيره: شبيهه. *الفروسة: قيادة الخيل والأفراس. *الرياضة: أي الرياضة البدنية؛ فقد ذكر المؤرخون أن السلطان نور الدين محمود كان رياضيا من الطراز الأوَّل في كمال الأجسام، والفروسية، ولعب كرة الصولجان؛ كما سمعت من المؤرخ الشهير د. عماد الدين خليل حفظه الله تعالى. *كحديد: في قوته الجسدية.

(6) نجل: ابن. "زنكي: هو المُلَقَّب "عماد الدين" زنكي، وهو والد السلطان محمود نور الدين.

الأتَابِك عِمَاد الدِّين زَنْكِي

(478؟- 541هـ = 1085- 1146م)

هو زَنْكِي بنُ آقْسُنْقُرَ التُّرْكِيُّ، الملقب "عِماد الدين"، و"الأَتَابَكُ"، وهو "المَلِك الشَّهِيد"؛ كما عرَّفه ابنُ الأثِير في "التاريخ الباهِر".

*كان من كبار الشُّجْعان، وهو أبو غازي، ومودود، ومحمود.
*هو المَلِكُ، عِمَادُ الدِّينِ، الأَتَابَكُ زَنْكِي ابنُ الحَاجِبِ قَسِيمِ الدَّوْلَةِ آقْسُنْقُرَ بنِ عَبْدِ اللهِ التُّرْكِيُّ، صَاحِبُ حَلَبَ.

*والده "آقْسُنْقُر" هو أول ملوك الدولة الأتابكية في الموصل، وكان تُركِيًّا من أصحاب ملكشاه بن ألب أرسلان.

*مات وابنه زنكي صغير؛ فتواصى به أصحاب أبيه حتى شَبَّ وتولَّى مدينة "واسط" إقطاعًا.

*في سنة 511هـ فَوَّض إلى زَنْكِي السُّلْطَانُ مَحْمُوْدُ بنُ مَلِكْشَاه شِحْنَكِيَّة بَغْدَاد، وهو العَامِ الَّذِي وُلِدَ لَهُ فِيْهِ ابْنُهُ الملكُ العَادلُ نورُ الدِّينِ الشَّهِيْدُ، ثُمَّ إِنَّهُ حَوَّلَهُ إِلَى مدينَةِ المَوْصِلِ، فَجَعَله أَتَابَكًا لولدِهِ المُلَقَّبِ بِالخفَاجِيِّ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ. ثُمَّ اسْتولَى عَلَى البِلاَدِ، وَعَظُمَ أَمرُهُ، وَافتَتَحَ الرُّهَا، وَتَملَّكَ حلبَ وَالمَوْصِلَ وَحَمَاةَ وَحِمْصَ وَبَعْلَبَكَّ وَبَانِيَاسَ وَحَاصَرَ دِمَشْقَ وَصَالَحهُم عَلَى أَنْ خطبُوا لَهُ بِهَا بَعْدَ حُرُوْبٍ يَطولُ شرحهَا، وَاسْتنقذَ مِنَ الفِرَنْجِ كَفرطَابَ وَالمَعَرَّةَ وَدَوَّخَهُم، وَشغلهُم بِأَنْفُسِهِم، وَدَانت لَهُ البِلاَدُ.

وقاد ميمنة الجيش في حرب الخليفة "المُستَرشِد بالله" مع دُبيس بن صَدَقَة في محرم 517هـ، فَظَفِر، واُقطِع البصرة فَحَمَاها مِن الأعراب.

*ثم تولَّى الموصل وسائر بلاد الجزيرة سنة 521هـ، وسَلَّم إليه السلطان محمودُ وَلَدَهُ "فَرْخَشَاه" لِيُربِّيَه، ولهذا قيل له "أتَابَك".

*تَمَلَّك حلب سنة 522هـ، واستفحل أمرُ الفِرَنْج في الشام والعراق، فتصَدَّى لهم وأجلاهم عن حلب وحماة سنة 524هـ، وأخذ منهم "حصن الأتارب" بعد معارك، وتوَغَّل في "ديار بكر عام 528هـ، ثم عاد إلى شيزر، وسَيَّر جيشًا إلى "دمشق" أدخلها في طاعته، وأظهر دَهَاءً مع الفِرَنْج سنة 534هـ، واستعاد منهم "الرُّها؛ أورفة".

*كَانَ زَنكي -رحمه الله- بَطَلا، شُجَاعًا، مِقْدَامًا كَأَبِيْهِ، عَظِيْمَ الهيبَةِ، مليحَ الصُّوْرَةِ، أَسْمَرَ، جَمِيْلا، قَدْ وَخَطَهُ الشَّيْبُ، وَكَانَ يُضْرَبُ بِشَجَاعَتِهِ المَثَلُ، لاَ يَقرُّ وَلاَ يَنَامُ، فِيْهِ غَيْرَةٌ حَتَّى عَلَى نسَاءِ جندِهِ، عَمَرَ البِلاَدَ.
قَصَدَ حلبَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِيْنَ، وَكَانَتْ لِلبُرْسُقِيِّ، قَدِ انتزعهَا مِنْ بَنِي أُرْتُق، ثُمَّ وَلِيهَا ابْنُهُ مَسْعُوْدٌ، وَالنَّائِبُ بِهَا قَيمَاز، ثُمَّ بَعْدُ قتلغ، فَنَازلهَا جوسلين ملك الفِرَنْج، فَبذلُوا لَهُ مَالا، فَترحَّلَ، وَجَاءَ التَّقليدُ مِنَ السُّلْطَانِ مَحْمُوْدٍ بِحَلَبَ لزَنْكِي، فَدَخَلهَا، وَرتَّبَ أُمُوْرَهَا، وَافتَتَحَ مَدَائِنَ عِدَّةً، وَدوَّخَ
الفِرَنْج، وَكَانَ أَعدَاؤُهُ مُحيطينَ بِهِ مِنَ الجهَاتِ، وَهُوَ يَنْتصفُ مِنْهُم، وَيستولِي عَلَى بلادِهِم. قَالَ ابْنُ وَاصِلٍ: "لَمْ يُخلِّفْ قسيمُ الدَّوْلَةِ مَمْلُوْكُ السُّلْطَانِ أَلب آرسلاَن وَلدا غَيْر زَنكِي، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ عشر سِنِيْنَ، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ غلمَانُ أَبِيْهِ، وَربَّاهُ كربوقَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ."

*استِشْهادُه: بينما كان زنكي يُحاصر "قلعة جعبر" قُرب الرقة ويُقاتل مَن فيها، دخل عليها بعضُ مَماليكه وهو نائمٌ فقتَلُوه غِيلَةً، ودُفن في "صِفِّين".
قال الذهبي: نَازلَ زَنْكِي قَلْعَةَ جَعْبَر، وَحَاصَرَ مَلِكَهَا عَلِيَّ بنَ مَالِكٍ، وَأَشرفَ عَلَى أَخْذِهَا، فَأَصْبَحَ مَقْتُولا، وَفَرَّ قَاتِلُهُ خَادمُهُ إِلَى جَعْبَر، وَذَلِكَ فِي خَامِسِ رَبِيْعٍ الآخر، سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ، وقد زَادَ عُمُرُ زَنكِي -رَحِمَهُ اللهُ- عَلَى السِّتِّيْنَ سنة، وتَمَلَّكَ ابْنُهُ نورُ الدِّينِ بِالشَّامِ، وَابْنُهُ غَازِي بِالمَوْصِلِ.

قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ: وَثَبَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ مَمَاليكِهِ فِي اللَّيْلِ، وَهَرَبُوا إِلَى جَعْبَر، فَصَاحَ أَهْلُهَا وَفَرِحُوا.

*يُنظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي 20/189، "الأعلام" للزركلي 3/50، من كليهما بتصرف يسير.

*ذي الصلاح: صاحب الصلاح والتقوى. *سيرة زهراء: صاحب سيرة وحياة مُشرقة بخدمة الإسلام والعدل والبناء والتنمية. *مشهود: شهد له بصلاح عهده ومُلكه وحُسن سيرته كبار المؤرخين والعُلماء.

(7) زنكي الشهيد: عُرف زنكي رحمه الله بـ "الملك الشهيد"؛ لأنه توفي شهيدًا وهو يُحاصر "قلعة جعبر" سنة 541هـ كما تقدَّم في ترجمته.

*الغَيُور: أي كثير الغيرة على نسائه، كما عُرف عنه ذلك؛ بل كان غيورا حتى على نساء جُنوده، كما ذكرنا من قبل في ترجمته. *ذو التقى: الصالح الذي يخاف الله تعالى. *شجاعة: فقد كان زنكي شجاعا مقداما، كما ذكر مترجموه الإمام اذهبي وغيره. *البسالة: الشجاعة والعُبُوس عند الحرب. "الوسيط" 57. *الصمود: الثبات في الحرب أمام الأعداء.

(8) العهد: الزمان. *المُشِع: المُنير والمُضيء. *حضارةً: مَدَنِيَّةً. *نضارَةً: إشراقًا وحُسنًا. *بجهاده: في سبيل الله أعداء الله من الفرنجة والمُجرمين الفاسدين. *جهود: أعماله الحسنة، وإصلاحاته.

(9) عهد كعهد الراشدين: زمان نور الدين يُشبه زمان الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم؛ لذلك ألحقه بعض العلماء والمؤرخين المسلمين بالخلفاء الراشدين المَهْدِيِّين. *نقاوَةً: صَفَاءً وحًسنًا وعَدلًا بِنَاءً. *بمعزة: مع عِزَّة للإسلام وأهله على الكفر وأهله. *سُعود: ج سَعْد، اليُمْن والخير والنِّعْمَة. "معجم متن اللغة" للشيخ أحمد رضا 3/152.

(10) باني: اسم فاعل من "بنى"؛ مُنشئ ومُعَمِّر. *مُنصِف: عادل. *الرعية: الشعب والمُواطِنون. *ضعاف: ج ضعيف. *بمزيد: كثيرًا.

(11) الليث: من أسماء الأسَد. *الراية: العَلَم. *العِدَى: ج عَدُوٍّ. *ممدود: مُتَّصِل، وهي صِفة لِجِهاد.

(12) مُدَوِّخ الأعداء: مُحَيِّرُ الكُفَّار ومُرْبِكُهم. *داحِرُ: جاعِلُ أعدائه يَفِرُّون ويَنْهَزِمُون. *جمعهم: جيشهم. *الفِرَنْج والفرنجة: هم الكفار واعداء المسلمين القُدامى في العصور الوسطى؛ فرنسا ومن معها من دول أوربا. *الصِّنْدِيد: الشريف الشُّجاع، الشديد. "المعجم الوسيط" 525.

21

(13) الوَرِع: كثيرُ التَّقْوَى. *الفقيه: العالم بأحكام الشريعة الإسلامية. *وحديثه: العالم بالحديث الشريف وأحكامه الفقهية. *خلقه المحمود: خلقه الحَسَن، ومُعاملته الحسنة بين الناس.

(14) الفتى: السَّيِّد الكريم، الشاب. *شهبائنا: مدينة حلب الشهباء، وسُميت "الشهباء" لبياض حجارتها. *نشا: نشأ وترعرع وتَرَبَّى.

(15) سمع الحديث: أي أخذ علم الحديث النبوي. *جلق: دمشق. *رواه: أي روى علم الحديث. *أعلامه: كبار عُلماء الحديث. *بشهود: بحضور دروس أولئك العلماء الأعلام.

(16) استقى: شرب؛ أخذ العلم. *عذب نميره: حُلوِه. *ارتوى: اكتفى. *حوضه المورود: نبعه الذي ينهل منه الناس ويأخذون.

(17) درس: تَعَلَّمَ. *التفقه: علم الفقه الإسلامي. *ناهلا: شارِبًا، آخِذًا. *اشتفى: شبع واكتفى. *وِرده المقصود: نبعه الذي يقصده الناس لِلشُّرْب.

(18) لَكَمْ: كَثيرًا. *أفاد: استفاد. *خِبْرَة: تَجْرِبة. *فَذّ: فريد. *أجَلّ: عظيم. *فريد: لا يُشبِهه أحَد.

(19) منه: من والده عماد الدين زَنْكِي. *تَمَرُّس: تَعَوُّد وتَدّرُّب. *سياسة: حسن إدارة في الحُكْم. *إدارة: إدارة الأمور، وشُؤون الدولة. *بعقود: خلال سنين طويلة. والعقود: ج عَقد، وهو 10 سنوات.

(20) بُعيد: بعده بِقليل. *باشَرَ مُلكه: بدأ بممارسة الحُكم، وورث مملكة أبيه من بعده. *العزيمة: الإرادة والقُوَّة. *الهِمَّة: النشاط والقُدرة. *الصمود: الثَّبَات في الأمر، والبقاء عليه.

(21) البطل: الشجاع. *الهمام: الأسد. *بفتحه: للبلدان. *مدن: ج مدينة. *كثار: ج كثير. *القنا: اسم جنس جمعي لقناة، الرُّمْح الأجوف. "الوسيط" 764. *البنود: ج بند -"فارسي مُعَرَّب"- العَلَم الكبير. "الوسيط" 71.

(22) ناصر الإسلام: مؤيد دين الإسلام وأهله. *تحريره تلك المدائن: جعلها حُرَّة، وتخليصها من احتلال أعداء المُسلمين لها. *المدائن: ج مدينة. *القرى: ج قرية، المدينة، الضيعة. *بجهود: بقتال وحروب ومعارك.

22

(23) مُشَتِّتًا: مُفَرِّقًا. *جيش الفرنج: جيش أعداء المسلمين الكَفَرَة. *مُذِلّهم: جاعلهم أذِلَّاءَ داخِرين. *مُعِزّ دين الواحد: جاعل دين الله "الإسلام" عَزِيزًا. *المعبود: هو الله تعالى الذي يعبده الناس بِحَقٍّ.

(24) مُوَفَّقًا: مُسَدَّدًا من الله تعالى. *صد جيش صليبهم: دفع جيش النصارى -"رافعي شِعَارِ الصليب"- الغُزاة لبلاد المُسلمين. *دحرهم: هزيمتهم، والانتصار عليهم. *الذِّلَّة: الذُّلُّ والخُنُوع والخُضُوع. *خُمُود: جعلهم خامدين، وعدم رجوعهم إلى بلاد المسلمين طِيلَةَ حَيَاتِكَ أيُّها المَلِكُ المُظَفَّر نُورَ الدِّين.

(25) حارم: بلدة معروفة تابعة لمحافظة "إدلِب" في سُورِيَة. *بانياس: مدينة معروفة في محافظة "اللاذقية" على الساحل السوري. *أنطاكية: مدينة شهيرة في "تركية". *نصر: ظَفَرٌ. *عزيز وُجود: قليل حُصُولُه.

(26) مُظهرًا: مُعْلِنًا ومُبْرِزًا. *للسنة الغراء: لسنة سيدنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، بعد طَمْس بعض معالمها زمن حكان حلب الحمدانيين "الرافضة" بقيادة سيف الدولة الحمداني. *خلب العلى: مدينة الأمجاد والمفاخر. *بعد طول عهود: بعد أزمان طويلة من حكم الحمدانيين لها.

(27) قمع عادات الروافض: منع بدع الحمدانيين التي أحدثوها في حلب، في الأذان؛ كقولهم: "حيَّ على خير العمل"، وغير ذلك. *المَريد: الشيطان الخارج عن طاعة الرحمن.

(28) أمعظما حُرَمَ الشريعة: يا مُحتَرِمًا لأحكام الشريعة الإسلامية الغَرَّاء. *الحرم: ج حُرمة: فرائض الإسلام وحُدُوده.

(29) أبطلتَ: ألْغَيتَ. *أحكام المُكُوس: فرض الضرائب الظالمة على الناس. *المكوس: ج مَكْس: الضريبة. *مُنكرات: ج مُنكر، المحرَّمات في دين الإسلام كالزنا، وشُرب الخمر ... . *جمَّة: كثيرة. *رُسِّخَتْ: ثبتت.

(30) قصدت: اقتصدتَ ولم تُسْرِف أو تُبَذِّرْ في الإنفاق. *لِبس: مَلْبَس. *طُعْم: طعام. *شُرْب: كل ما يُشْرَب. *أسرة: في أسرتك وعائلتك. *بزهيد: بنفقات قليلة هي الضرورية للحياة فحسب. والمعنى: أن السلطان نور الدين لم يكن كبقية الملوك المُتْرَفِينَ يعيش هو وأسرته حياة البَذْخ والإسراف والتبذير في المطعم والمشرب والملبس.

(31) مشافيا: ج مَشفى، دار الشفاء ومُعالجة المَرضَى. *خَوانق: ج خانِقاه، رِبَاط الصُّوفِيَّة. "الوسيط" 260. *الرُّفود: ج رِفْد، العطاء.

(32) مُحَصِّن البلدان: جاعل البلدان الإسلامية حصينة ببناء القلاع والحُصون والأسوار لها، وقبل كل ذلك تحصينها بالعدل في الحُكم. *أسوارها: ج سُور، ما يُبنى حول المدينة مِن جدار له أبواب؛ يكون حاميا لها من اللصوص وقُطَّاع الطريق. *قلاع: ج قلعة، وهي بناء خاص يُبنى في مكان مرتفع، ويُجعل عالِيًا وفيه غرف كثيرة، ونوافذ وكُوَى في أعلاه يضرب منها بالسهام والرماح كل من يعتدي على المدينة وأهلها ويُهاجمهم. *بالعدل: في الحكم بين الناس. *التشييد: بناء تلك القلاع والأسوار. وفي البيت إشارة إلى قول سيدنا عمر بن عبد العزيز حين أرسل إليه أحد وُلاته يقول: نُريد مالا لكي نبني للمدينة سُورا أو حصنًا؛ فكتب إليه عمر مُجِيبًا: "حَصِّنْها بِالعَدْل"؟! فهو أمتن حِصن وسُور.

(33) مُعَمِّرًا: بانِيًا.  *جسور: ج جِسر، وهو ما يُبنى فوق النهر أو البحر لِيَمُرَّ مِن فوقه الناس والسيارات ... .  *خانات: ج خانٍ، فَنَادِق يَنزِل فيها المُسافِرُون. *رُبُط: ج رِبَاط، ملجأ الفُقراء والصُّوفِيَّة. "الوسيط" 323. *نُهُود: نُهوض، يقال: نَهَدَ فُلان: نَهَض ومَضَى. "الوسيط" 957.

(34) "دار الحديث": هو بناء يخصص لدراسة الحديث وعلمائه وطلابه، وقد بنى نور الدين أكثر من دار للحديث في "دمشق"، و"حلب"، وغيرهما. وكان نور الدين أول من بنى دُورًا للحديث. *دار العدل: هي كالمحكمة. *إرعاءً: حِفْظًا وإبْقاءً، رَحْمَةً؛ يقال: أرعى عليه: أبقاه، رَحِمَهُ. "الوسيط" 356. *جَهِيد: ضعيف جِدًّا؛ من: جَهَدَهُ المَرَضُ والتَّعَب فجعله هَزِيلًا. "معجم متن اللغة" للشيخ أحمد رضا 1/586- 587.

(35) الأوقاف للضعفاء والأيتام: الأوقاف المُخَصَّصة لهم. *نِفاس: ج نفيس، غالية. *جُود: ج جَواد، وهو السَّخِيُّ: الذي يُعطي كثيرا، وبلا مسألة. "متن اللغة" 1/598، بتصرف يسير.

(36) موقرا: مُحْتَرِمًا لعلماء الإسلام. *مشاورا لهم: آخذا لرأي العلماء في الأمور المُهِمَّة للدولة والأمة الإسلامية. *التأييد: المُوافقة للعلماء.

24

(37) مقدما لهم ...: إشارة إلى تقديم نور الدين للعلماء على الأمراء. *فلذا: فلأجل هذا. *حباك: أعطاك. *التسديد: التوفيق.

(38) لله درك: ما أعظمك! *خلال: ج خَلَّة، الخصلة الحميدة. *مناقب: خصال وأخلاق حسنة. *غُرّ: ج أغَرَّ، مشهور، مُشرِق. *زهت: أشرقت. *عقود: ج عِقْد، ما يُوضع من الزينة في عُنق المرأة على صدرها من الزينة والجواهر المنظومة.

(39) أعطاكها: منحك إيَّاها. *الوهاب: الله تعالى الكريم، كثير الهِبَات والعطايا سُبحانه وتعالى. *تَكَرُّمًا: تَفَضُّلًا. *السيب: العطاء. *الممدود: المُتَّصل الدائم.

(40) الذكاء الوَقَّاد: الشديد. *الجِدِّيَّة: العمل الدؤوب، وعدم تضييع الوقت باللهو واللعب وكثرة المِزاح. *الشعور بالمسؤولية: الجِدِّيَّة. *الصمود: الثبات والدوام على الأمر.

(41) اللياقة البدنية: الاهتمام بالتمارين والتدريبات الرياضية البدنية وكمال الأجسام. *بمزيد: بكثرة.

(42) الشجاعة: الجسارة والجُرْأة. *السخاء في الإنفاق: العطاء الكثير. *الجُود: الكرم في العطاء.

(43) الزهد: أن تكون الدنيا في يد المسلم لا في قلبه. *الجَحُود: المُنكِر لِلنِّعْمة، أو لِوُجود الله تعالى.

(44) التقي: من يخاف الله تعالى ويرجوه. *لا تَعَصُّب عِنده: أي هو مُنفَتح على الآخرين؛ فقد كان رحمه الله حَنَفِيَّ المذهب من غير تَعَصُّب، وكان يستفيد من المذاهب الأخرى وعلمائها. *الهيبة: التقدير والاحترام، وإجلال الآخرين له. *التعبد: كثرة الطاعة والعبادة لله تعالى. *الهجود: التهجد والصلاة بالليل وقيامه لله سبحانه. *"الوسيط" 972، بتصرُّف.

(45) ببنا الحياة اهتَمَّ: ببنائها وإعمارها استجابة لقول الله تعالى: (هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)؛ أي طلب منكم إعمارها. *العُمران: البِناء. *الوِهَاد: ج وَهْدة: المُنخَفَض من الأرض. *النجود: ج نجد: المُرتَفَع.

25

(46) الاقتدار: القُدْرَة. *مواجهة الحوادث: حل مشكلات الحياة والتعامل مع المصائب والكوارث والنكبات. *الرأي السديد: الصحيح، المُوَفَّق.

(47) قارئا ومثقفا: للكتب والمعارف، ومُطلعا عليها. *لا سيما: خاصَّةً. *كتب الهُدَى: كتب العلوم الإسلامية.

(48) مؤديا لصلاتكم ...: ذكر المترجمون للسلطان نور الدين الشهيد أنه كان رحمه الله من المحافظين على صلوات الجمعة والجماعة في المسجد. *الاتباع لسنة المحمود: اتباع سنة المختار سيدنا محمد عليه وآله الصلاة والسلام في حياته وتصرفاته.

(49) فعل الخيرات: عمل المَبَرَّات والطاعات. *القبقب: البطن. *"معجم متن اللغة"4/479. *اللقلق: اللسان. "المعجم الوسيط" 835. *الذبذب: اللِّسَان. "الوسيط" 309. *المِرِّيد: الشَّدِيد العُتُوِّ. "الوسيط" 862.

(50) مع حُسن خط: ذكر الإمام الذهبي في ترجمته للسلطان نور الدين محمود عنه: أنه كان مليح الخط.

(51) ربع الشآم: قُطره، أرضه "سورية". *التَّاعِس: العاثِر، الساقِط المَكْبُوب على وَجْهه. "الوسيط" 85. *المَنْكُود: مِن النَّكَد، وهو: العُسْر، والقِلَّة، والشُّؤم، وشِدَّة العيش ومَشَقَّتُه. "الوسيط" 951.

(52) السَّقِيم: المريض الذي طال مرضه. "الوسيط" 437.

*مُنْهَكًا: شديد المرض، كادَ يَهْلِك بسبب مرضه. *بُشَيِّر: تصغير اسم "بشار" الأسد، نَيرون العصر، وتيمورلنكه، وهِتْلره، حاكم سورية الهِوَكّ، أسوأ حاكم مرَّ على الشام، ونُكِبت به. *المُتغطرس: الظالم المُتَطَاوِل، المُتَكَبِّر، المُتَغَضِّب، المُعْجَب بِنفسه، المُتَعَسِّف الطريق، المُتَبَخْتِر في مِشْيَتِه. "الوسيط" 655. *العِرْبِيد: الكثير العَرْبَدَة الشِّرِّير، ومن يُؤذي الناس في سُكْره، وسَيِّئُ الخُلُق. "الوسيط" 591.

(53) نيرون هذا العصر: شبيه الحاكم الروماني الطاغية نيرون.

26

نيرون

(37- 68م)

*هو نيرون Nero، الإمبراطور الروماني الذي حكم ما بين (54- 68م).

*تميَّز عهده بالطغيان والوحشيَّة؛ فقد كان مُضطرب الشخصِيَّة، فخُيِّل إليه أنه فَنَّان ومُمَثِّل مَسْرَحِي كبير.

*قَتَلَ أمَّه عام 59م، وزوجته أوكتافيا عام 62م.

*أحرق روما عام 64م، واتَّهَمَ النصارى بذلك فاضطهدهم؟!

*انتحر بعد أن ثار عليه القادة العسكريون في إفريقيا وإسبانيا وبلاد الغال. *"معجم أعلام المورد". لمنير البعلبكي 461، بتصرف يسير.

*بَطَّاشها: حاكمها العنيف المُتَوَحِّش؛ من "بطش به بطشًا: أخذه بالعُنْف". "الوسيط" 61. *الهِوَكّ: الشديد الهَوَك؛ كثير الحُمْق. "الوسيط" 1000. *الرِّعْديد: الجَبَان، شديد الخَوف.

(54) الخَوَّان: كثير الخِيَانة. *السفاح: كثير القتل. *الورى: الخَلق. *الدجال: كثير الكَذِب. *الحَشَّاش: مُدْمِن الحَشيش والمُخدِّرات، أو مَن يُتاجر بها. *النُّمْرُود: الحاكم الجَبَّار المُتكبر المُتَسَلِّط، المُشبِه لملك بابل الطاغية "النمرود" الذي ادعى الألوهية زمن إبراهيم عليه السلام وقال: (أنا أحيي وأميت)، كما ذكرت قصته في القرآن الكريم في سورة البقرة، في الآية: (ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ...).

ثم جُعل لكل جَبَّار، واشتقوا منه الفعل فقالوا: "تَنَمْرَدَ"، إذا فعل فعل الجبَّارِينَ. "معجم متن اللغة" لأحمد رضا 5/550.

(55) داهي الملاين: مُصيبهم بمصائب عظيمة. والداهية: الأمر المُنكَر العظيم، ودواهي الدهر: عَظيم نُوَبه "مصائبه". "الوسيط" 301.

27

*الملاين: أصلها الملايين ج مليون، وهو ألف ألفٍ. وحذفت الياء الأولى لضرورة الوزن في الشِّعر. *بني سورية: أبنائها، ج ابن. *بالقتل: بكثرة قتله للناس. *التهجير: إجبار الناس وإلجائهم إلى الهجرة بسبب محاربته لهم، وقصفهم بالطيران والمدافع والدبابات والبراميل المُتفجِّرة، والغازات السامَّة، والأسلحة الكيماوية ... . *تشريد الإنسان: طرده وتركه بلا مأوى، والتفريق. "الوسيط" 478.

(56) يسومنا: يُعَذِّبُنا. *الخَسْف: الذُّل، والظلم، والجُوع، والنقيصة. "الوسيط" 234. *بها: في هذه السنوات العشر. *بعساكر وجنود: بواسطة عساكره وجنوده الظلمة الزُّعْر"الشِّبِّيحَة".

(57) يُصْلِي: يُحْرِق. *سِجِّيله: الطين المُتَحَجِّر. *المنضود: المُتتابِع المُتراكم. قال تعالى عن إهلاكه قرى قوم لوط التي كانت تعمل الخبائث في سورة هود: (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود*). 82. *"التفسير الوجيز" من "الموسوعة القرآنية الميسرة" 232، "الوسيط" 417.

(58) قصفا: ضَرْبا بالقذائف من بعيد، أو من أعلى. من: قصفت الطائرات والمدافع ونحوها مواقع العدو: ضربتها بالقذائف والقنابل. "مُحدثة". *"معجم النفائس" 1586- 1587. *الدبابات: ج دَبَّابة: آلة كبيرة مُجنزرة أو بعجلات تستعمل في الحرب للقصف بالقنابل والقذائف. *المدافع: ج مدقع: آلة أصغر من الدبابة تستعمل في الحرب للقصف ورمي القذائف والقنابل أيضا. *طيرانه: مصدر طار يطير. والقصف بالطيران: هو ضرب العَدُوّ بالقنابل والقذائف من الطائرة. *ببرامل البارود: أي بإلقاء البراميل المتفجرة المحشوة بالبارود تُلقى على الناس؛ كما فعل بشار الأسد الحيوان المتوحش على أهلينا في سورية، بهذا السلاح الفَتَّاك الذي علَّمَه إياه سادته في إيران الفارسية الرافضية الطائفية.

28

(59) بالسجن: بواسطة سجن الناس ظلما. *التعذيب: جعل الناس يعذبون في السجون بالضرب والتجويع، والكهرباء، والحرق بالنار، وباغتصاب النساء، وبالبرد، وبالسباب والشتائم، وسب الدين، وشتم الله تعالى، أو النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ... .

*ضمن سجونه: في أقبيتها. *الأتون: الفُرن، النار.

*الجحيم: النار المُستَعِرَة. *الحديد: التعذيب بقضبان الحديد والأسلاك الحديدية، ومقامع الحديد.

(60) نشر الكبتاغون: إشاعته بين الناس وتوزيعه بينهم للفتك بهم، وللربح التجاري. *الكبتاغون: نوع من المخدرات اشتهر بتصنيعه "آل الأسد" بشار وماهر الأسد وآخرون معهم؛ من عصاباتهم المجرمة في سورية ولبنان، وشرعوا في تهريبه منذ سنوات إلى الأردن، والسعودية، والكويت، والإمارات، وبعض دول أوربة. *يهلكوا: يموتوا. *الزُّعاف: السُّمُّ القاطع المُمِيت. *المعهود: المعروف.

(61) في عهد بشار: في زمان حُكمه. *غدت: أصبحَتْ. *كَلَأً مُبَاحًا: أي ساحة مفتوحة لكل أحَد من أعداء السوريين الشُّرَفاء.

(62) الروافض: الشيعة الاثنا عشرية الإمامية الغُلاة الذين رفضوا حكم سَيِّدَينا أبي بكر وعمر، وهم يَسبُّونهما، ويُبغضونهما، ويُسَمُّونهما "صَنَمَي قُريش"؟! ويُبغضون جُلَّ الصحابة الكرام، ويدَّعُون أن أكثرهم ارتَدُّوا بعد رسول الله؟! ويتهمون صِدِّيقَتَنا السيدة عائشة بالزنا، ويبغضون أهل السنة والجماعة، ويُحَمّلُونهم مسؤوليَّة قتل سيِّدنا الحُسين، ويُجَوزُون زواج المُتعة، ويقولون بخلق القرآن، وبعدم رؤية الله تعالى في الآخرة، ... . *استباحوا شامنا؛ بالبيع ... : انتهكوا حرمتها، وقتلوا بعض أهلها، وحاولوا تشييع بعضهم، وبشراء بعض الأملاك والعقارات فيها، وبإقامة كثير من الحُسَينِيَّات في ربوع دمشق، وحلب، ودرعا، والرقة، ودير الزور، واللاذقية، وغيرها. وبإسكان بعض الروافض من إيران، ولبنان، وأفغانستان، وباكستان، والعراق، وغيرها، وإحلالهم محل السكان السوريين الأصليين، وببناء بعض المساجد على بعض الأضرحة والقبور والمقامات؛ كما فعلوا في مدينة الرقة على قبر سيدنا عمار بن ياسر، وقبر السيدة رقية المزعوم في دمشق.

(63) هم يسرحون ويمرحون: أي يذهبون ويأتون بحرية، ويفعلون ما شاؤوا في أرض سورية الحبيبة. *ينكلون بسنة: يُعَذِّبُون أهل السُّنَّة، ويُضَايِقُونهم. *بِمَزيد: أي كثيرا.

(64) للروس: لِحُكَّام رُوسيا "بوتين" السفَّاح وعصابته المجرمة الفاسدة. *سَلَّم سوريا: أعطاهم التصرف بسوريا. *أباحهم ثرواتها: جعل ثروات سورية مباحة لهم من نفط وغاز وغيرهما. *في صفقة وعقود: بصفقات وعقود طويلة الأجل؛ لعشرات السنين.

(65) شيوخ: ج شيخ، كبير السن؛ العجوز. *وليد: طفل.

(66) مع كل هذا يدعي لسيادة: مع كل إباحته أرض سورية لأعدائها الإيرانيين والروس؛ مع كل ذلك فهو يدعي أنه سَيِّد في حُكمه لسورية، مع أنه - في الحقيقة- عبد حقير ذليل لأعدائنا؛ بل هو ذنب الكلب، كما وصفه بعض المسؤولين الروس؟!

(67) نرى اليهود بكل حين: نحن نرى دولة إسرائيل الطاغية في كثير من الأزمان. *يُمطرون بلادنا: يقصفون بعض الأماكن من سورية؛ كمطار حلب، ومطار دمشق، وغيرهما. *قذائف البارود: ج قذيفة، قنابل متفجرة.

(68) يقابل صفعهم برضاه ... : أي بدلا من أن يرد عليهم القصف بالقصف والضرب بالضرب، إذا به يسكت خانعًا ذلِيلًا، أو يتكلم بعض أبواقه فيقول: نحن نحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المُناسِبَينِ؟؟!!

(69) أسد علينا: أي بشار هذا الجبان يُظهر نفسه أسَدًا بقتل شعب سورية الذي يحكمه قَهْرًا، بكل الأسلحة. *ممعن: مُستمِرّ وثابت منذ عشر سنوات. *نعامة: أي بشار أمام اعتداء اليهود عليه وعلى "بلده" سورية مثل هذا الحيوان في الخوف من الأعداء، والاستسلام لهم. *الصد: الرد والدِّفاع.

(70) مُسْرف: مُكثِر. *الأرنب: حيوان معروف يأكل العشب.

(71) لا تعجبوا: لا تَدْهَشُوا. *الضرب: هو الاعتداء على الغير باليد، أو الدفاع عن النفس بذلك. *الشَّهْد: العَسَل. *المعقود: القَطْر، وهو السُّكَّر المحلول بالماء. "والقطر" مُولَّد كما في "معجم متن اللغة" 4/593.

30

(72) مولاي: سَيِّدي. *أمست: صارَتْ. *شامكم: أرض الشام التي كنتم تحكمونها بالعدل، وتُدافعون عنها ببسالة. *مرعى: كمكان الرعي. *حقود: كثير الحقد على الإسلام وأهل السنة كالرافضة الفُرْس، والروس.

(73) عَجَبًا لها: كم هو مُدهِشٌ وعَجِيبٌ؟! *بُدِّلَتْ من بعدكُمْ: تغيرت أحوالها من بعدكم يا سيدي نُورَ الدِّين! *نحْسًا: شَقَاءً وتَعَاسَةً. *بسعد: بدل الخير والعدل بوجودكم. *قردها بأسود: وجاءنا بدل الأسود مثلكم ومثل صلاح الدين الأيوبي، جاءنا هذا الحاكم المِسْخ الأقبح والأسوأ من القِرد؟!

(74) فبجاه محمود إلهي: نسألك اللهم ونتوسَّلُ إليكَ بِعَبدك الحاكم الصالح نور الدين محمود بن ونكي أن تنهض بحال الشام. *انهض بها: ارفع شأن الشام وأهلها من جديد. *خلص حمانا: أنقِذْ أرضنا المُباركة الشريفة. *وبا نُمْرُود: طاعون ونكبة بشار الوحش.

(75) أعد لها مجدا: أرجع لها عِزَّتهَا وكرامَتَها. *لينهض أهلها: ليقوموا من جديد، وليتعافَوا بعد هذا البلاء الأطَمِّ، والوَبَاء الأعَمِّ. *كي يبتنوا: حتى يُعَمِّروا. *غِبَّ هُمُود: بعد خُمود وضعف وذهاب ذلك المجد والحركة والحيوية والاستقرار، أعدها إليها. *الهمود للنار والنبات: الخُمُود والضعف والجفاف. "الوسيط" 993.

(76) إلهي: يا إلهي! *ارحمن: امنحه رحمة مِنكَ. *مراحم: ج مرحمة، الرحمة؛ قال تعالى: (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة). "الوسيط" 335. *سعود: ج سعد، اليُمْن والنعمة والخير. "معجم متن اللغة" 3/152.

(77) أسكنه: اجعله يُقيم ويسكُن. *الفراديس العلى: الجنات العالية. والفردوس أعلى درجة في الجنة. *منعما: مُكَرَّمًا مُرَفَّهًا. *برود: ج بُرد، كِسَاء مُخَطَّط يُلتَحَف بِه، أو ثوب يُخَصُّ بالقَصَب والوَشْي. "الوسيط" 48، "متن اللغة" 1/267؛ أي: حُلَل وألبسة فاخِرة وثمينة.

(78) وكذاك: ومثل ذلك الإكرام والإنعام والجزاء. *أتباع: تابعون له، ج تَبَع. *أحبة: ج حبيب. *جنان: ج جنة. *عدن: إقامة دائمة. *اُحْبُهم: أعطِهم وأكرمهم. *بخلود: مع إقامة دائمة أبَدًا.

31

السلطان نور الدين الشهيد محمود بن زنكي

حامل راية تحرير القدس الشريف

 

لشيخنا المؤرخ الدمشقي د. محمد مطيع الحافظ

sdfdfd10492.jpg

 

الألوكة - 18/10/1436هـ - 3/8/2015م

في فترة كانت من أشد الفترات على الأمة الإسلامية ضعفا وفرقة، وهي  

الفترة التي استطاع الفِرنجة أن يستولوا على الساحل الشامي، وعلى عدد كبير من المدن العربية الإسلامية، ومنها القدس الشريف، وأن يقتلوا ويستبيحوا أهلها.

وفي هذه الفترة كان تمزق البلاد الإسلامية، وتفرق أهلها وحكامها إلى دويلات صغيرة، حتى كان في كل مدينة حاكم يحرص على سلطته، ويكيد لإخوته أو أبناء عمومته من حكام المدن الأخرى؛ من أجل أن يتسلَّط على أكبر قدر ممكن من الأرض، هكذا كان حال الأمة قبل أن يتولى السلطان نور الدين محمود بن زنكي الحكم؛ فقد كان حالها كحال اليوم، كما وصف

ذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)، قيل: يا رسول الله، فمن قلة نحن يومئذ؟ قال: (لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة، وليقذفن في قلوبكم الوهن)، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا، وكراهية الموت)؛ (رواه الإمام أحمد وغيره).

32

في هذه الفترة، أكرم الله الأمة بحاكم عادل وعلماء مخلصين، جمعوا الأمة تحت راية واحدة؛ للجهاد في سبيل الله، ولتحرير القدس وتطهير البلاد من المغتصبين.

 كان هذا الحاكم العادل هو السلطان نور الدين محمود بن زنكي الشهيد، ومن بعده السلطان صلاح الدين الأيوبي، وسار العلماء لهذه الغاية في الدعوة للجهاد في سبيل الله؛ فهيؤوا الناس روحيًّا وفكريًّا وعلميًّا، ونبهوا إلى الخطر المحدق بهم من أعدائهم الذين يتربصون بهم الدوائر؛ ليستولوا على دمشق، وليفعلوا بها كما فعلوا في القدس الشريف وغيرها.

وتحقيقًا للنصر والفتح، كان العلماء - وعلى رأسهم الحافظ ابن عساكر - بدمشق يهيئون الأمة لخوض المعركة تحت راية نور الدين، الذي أحبه الناس وتفاءلوا بأن النصر حليفه، فكانوا دائمًا يرددون في هُتافاتهم:

نور الدين يا منصور   وبسيفك فتَّحنا السُّور

وبقي هذا الهُتاف سائدًا في دمشق حتى يومنا هذا.

sdfdfd10493.jpg

محراب الجامع الأموي بدمشق

33

نور الدين زنكي:

سلطان بلاد الشام ومصر والحجاز، الإمام العادل العابد، سادس الخلفاء الراشدين، صاحب منبر المسجد الأقصى. 

لقد اجتمعت صفات الحاكم العادل في شخص نور الدين، الذي حقر الدنيا، وزهد في أبَّهة الحكم، ونذر نفسه لله، للغايتين اللتين سعى إليهما: وحدة المسلمين، وقهر الفرنج، كان قائدًا فذًّا، له قلب امتلأ إيمانًا وثقة بالله؛ فلا يعرف الجزعُ الطريقَ إليه، وكان يقول: لو كان معي ألف فارس لا أبالي بعدو، والله لا أستظل بظل جدار.

sdfdfd10494.jpg

باب المدرسة العادلية: أسَّسها السلطان نور الدين

لقد سمع أهل دمشق عن جهاده وبطولاته، وتناقلوها، ومنها: أنه سجد يوم معركة حارم مُنفردًا يُمَرِّغ وجهه بالتراب، يُناجي ربه، ويسأله النصر، ويرفع صوته، ويتضرع ويقول: اللهم انصر دينك، لا تنصر محمودًا - أي نفسَه - فنصره الله، وكان يأسف على أنه لم يُرزق الشهادة في الحرب.

 لقد أيقن العلماء وأعيان البلاد والعامة أن السلطان نور الدين هو الحاكم الذي يجب أن تقف الأمة كلها وراءه، وكان له ذلك؛ فحقَّق الله ما تمناه من توحيد الأمة؛ فتوحدت بلاد الشام ومصر والحجاز تحت رايته.

34

وكان إذا دعا الناس للجهاد كان الناس كلهم معه، فأيقن بنصر الله له، بل رآه قريبًا، ولثقته بالله وبنصره أمر بصُنع منبر بحلب، هيَّأه ليحمله إلى المسجد

الأقصى بعد فتحها، وحقق الله النصر وفتح بيت المقدس، ولكن بعد وفاته، على يد خليفته السلطان صلاح الدين الأيوبي، الذي كان أحد قواده، فكان له شرف وضع هذا المنبر في المسجد الأقصى؛ تنفيذًا لرغبة أستاذه نور الدين.

*وُلد نور الدين محمود بن زنكي يوم الأحد 17 من شوال سنة 511هـ بحلب، ونشأ برعاية والده صاحب حلب والموصل وغيرهما، وتعلَّم القرآن والفروسية والرمي، وكان شهمًا شجاعًا، ذا همة عالية، وحرمة وافرة، وديانة بيِّنة، فلما قُتل أبوه سنة 541هـ وهو محاصرٌ جعبر، صار الملك بحلب إلى ابنه نور الدين، وأخذ أخوه سيف الدين غازي الموصل، ثم تقدم نور الدين فافتتح دمشق في صفر سنة 549هـ، فأحسن إلى أهلها، وبنى بها المدارس والمساجد والرُّبط، ووسع الطرق، وبنى عليها الأرصفة، ووسَّع الأسواق، وأسقط المكوس، وكان حنفي المذهب، يحب العلماء والفقراء، ويكرمهم ويحترمهم ويُحسن إليهم، وكان يقوم في أحكامه بالعدل واتباع الشرع المطهَّر، ويعقد مجالس العدل، ويتولاها بنفسه، ويجتمع في ذلك القاضي والفقهاء والمفتون من سائر المذاهب، ويجلس يوم الثلاثاء في المسجد المعلق الذي بالكشك؛ ليصل إليه كل من المسلمين وأهل الذمة حتى يساويهم.

وأظهر بالبلاد السنَّةَ، وأمات البِدعة، وأمر بالتأذين بـ: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وأقام الحدود، وفتح الحصون، وكسر الفِرنج مرارًا عديدة، واستنقذ من أيديهم معاقل كثيرة من الحصون المَنيعة التي كانوا قد استحوذوا عليها من معاقل المسلمين، وأقطع الأعراب إقطاعات؛ لئلا يتعرَّضوا للحجيج، وبنى بدمشق بيمارستانًا لم يُبنَ في الشام قبله مثله ولا بعده، وجعل من شروط وقفه أنه على الفقراء والمساكين، وإذا لم يُوجد بعض الأدوية التي يعِزُّ وُجودها إلا فيه، فلا يُمنع منه الأغنياء، ومن جاء إليه، فلا يُمنع من شرابه؛ ولهذا جاء إليه نور الدين وشرب من شرابه رحمه الله، وقيل: إنه لم تُخمد منه النار منذ بني إلى قرن قبل اليوم.

 وبنى أيضًا الخانات في الطُّرُق؛ فأمن الناس، وحُفظت أموالهم، وباتوا في الشتاء في ستر من البرد والمطر، وبنى أيضًا الأبراج على الطرق بين المسلمين والفرنج، وجعل فيها من يحفظها ومعهم الطيور الهوادي، فإذا رأوا من العدو أحدًا، أرسلوا الطيور؛ فأخذ الناس حذرهم، واحتاطوا لأنفسهم، فلم يبلغ العدو منهم غرضًا، وكان هذا من ألطف الفِكَر وأكثرها نفعًا.

ووقف الأوقاف على من يُعلِّم الأيتام الخط والقراءة، وجعل لهم نفقة وكسوة، وعلى المجاورين بالحرمين، وله أوقاف دارَّة على جميع أبواب الخير، وخاصة على الأرامل والمحاويج.

وكان الجامع الأموي بدمشق قد أصابته أمور، فولَّى نظره القاضي كمال الدين الشهرزوري، وولاه قضاء دمشق، فأصلح أمور الجامع، وفتح المشاهد فيه التي أغلقت منذ حريق 461هـ، وأضاف إلى أوقاف الجامع أوقافًا كثيرة.

sdfdfd10495.jpg

بيمارستان نور الدين بدمشق

36

وبنى بدمشق "دار الحديث" دار السُّنَّة النورية، ووقف عليها وعلى من بها من المشتغلين بعلم الحديث وقوفًا كثيرة، وجعل شيخها الحافظ الكبير ابن عساكر، وهو أول من بنى دارًا للحديث، وأصلح الكثير من المساجد التي تحتاج إلى إصلاحٍ أو تجديد.

وأمر بإكمال سور المدينة المنورة، واستخراج العَيْن التي بأُحد، وبنى الرُّبط والجسور والخانات، وبنى أسوار مدن الشام جميعها، وقلاعها، وحصَّنها، وأحكم بناءها، وبنى المدارس في بُلدان الشام للشافعية والحنفية، وبنى الجوامع في جميع البلاد، فجامعه في الموصل إليه النهاية في الحسن والإتقان، وبنى أيضًا بمدينة حماة جامعًا على نهر العاصي، من أحسن الجوامع وأنزهها.

وبنى الربُط والخانقاهات في جميع البلاد للصوفية، ووقف عليها الوُقوف الكثيرة، وأما ما كان يُهدى إليه من الهدايا من الملوك وغيرهم، فإنه كان لا يتصرَّف في شيء منه، بل إذا اجتمع يُخرجه إلى مجلس القاضي، يحصل ثمنه ويُصرف في عمارة المساجد المهجورة، وكان يزور المقادسة الحنابلة في جبل قاسيون، وبنى لهم المدرسة الصغيرة والمصنع والفرن.

وأما زهده وعبادته وعلمه، فقال فيه الإمام أبو شامة: إنه مع سعة ملكه وكثرة ذخائر بلاده وأموالها، لا يأكل ولا يلبَس ولا يتصرف فيما يخصُّه إلا من ملك كان قد اشتراه من سهمه من الغنيمة، ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، أحضر الفقهاء واستفتاهم في أخذ ما يحل له من ذلك، فأخذ ما أفتَوْه بحلِّه، ولم يتعدَّه إلى غيره البتة، ولم يلبَس قط ما حرَّمه الشرع من حرير أو ذهب، ومنع من شرب الخمر، وبيعها في جميع بلاده، ومن إدخالها إلى بلد ما، وكان يحدُّ شاربها الحدَّ الشرعي، كلُّ الناس عنده فيه سواء.

وكان يصلي كثيرًا في الليل، ويدعو ويستغفر ويقرأ، ولا يزال كذلك إلى أن يركب صباحًا، وكان عارفًا بالفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، ليس عنده تعصُّب، بل الإنصاف سجيته في كل شيء، وسمع الحديث وأسمعه؛ طلبًا للأجر، وعلى الحقيقة، فهو الذي جدَّد للملوك اتِّباع سنة العدل والإنصاف، وترك المحرمات من المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك؛ فإنهم كانوا قبله كالجاهلية، حتى جاء الله بدولته، وكان حسن الخط، كثير المطالعة للكتب الدينية، مُتتبعًا للآثار النبوية، مواظبًا على الصلوات في الجماعات، عاكفًا على تلاوة القرآن، حريصًا على فعل الخير، عفيف البطن والفَرْج، مقتصدًا في الإنفاق، لم تسمع منه كلمة فُحش

في رضاه ولا ضجره، وأشهى ما إليه كلمة حق يسمعها، أو إرشاد إلى سُنَّة يتَّبعها.

قال ابن الأثير: قد طالعت تواريخ الملوك والمتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا، فلم أرَ فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز ملكًا أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحريًا للعدل والإنصاف منه، قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره، وجهاد يتجهز له، ومظلمة يزيلها، وعبادة يقوم بها، وإحسان يُوليه، وإنعام يسديه، وكان نور الدين إذا جاء إلى زوجته الخاتون عصمة الدين ابنة معين الدين أنر - وكانت صاحبة خيرات ومبرات كثيرة - يجلس في المكان المختص به، وتقوم في خدمته، لا تتقدم إلا أن يأذن في أخذ ثيابه عنه، ثم تعتزل عنه إلى المكان الذي يختص بها، ويتفرَّد هو، يطالع رقاع أصحاب الأشغال، أو في مطالعة كتاب أتاه، ويجيب عنهما، وكان يُصلي فيطيل الصلاة، وله أوراد في النهار، فإذا جاء الليل وصلى العشاء ونام، يستيقظ نصف الليل، ويقوم إلى الوضوء والصلاة إلى بكرة، فيظهر للركوب، ويشتغل بمهام الدولة.

وكانت عادته في الصدقة أن يُحضر جماعة من أماثل البلد في كل محلة، ويسألهم عمَّن يَعرفون في جوارهم من أهل الحاجة، ثم يصرف إليهم صدقاتهم.

وكذلك كانت زوجته "خاتون" تكثر القيام في الليل، فنامت ذات ليلة عن وِردِها، فأصبحت وهي غضبى باكية، فسألها نور الدين عن أمرها، فذكرت نومها الذي فوَّت عليها وِردها، فأمر نور الدين منذ ذلك الوقت بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر؛ لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى الضارب على الطبلخانة أجرًا جزيلًا، وجراية كثيرة.

وإذا أقبل أحد العُبَّاد والزُّهَّاد يقوم له مذ تقع عينه عليه، ويجلسه معه على سجادته، وكذلك كان أيضًا يفعل بالعلماء من التعظيم والتوفير والاحترام، ويجمعهم عند البحث والنظر، فقصدوه من البلاد الشاسعة.

وبالجملة، كان أهل الدين عنده في أعلى محل وأعظمه، وكان أمراؤه يحسدونه على ذلك، وكان الحافظ ابن عساكر يحدِّث أن مجلس نور الدين عليه الهيبة والوقار، بحيث كان الحضور كأنما على رؤوسهم الطير، إذا تكلم أنصت الجميع، وإذا تكلم أحد العلماء استمع له.

وأمَّا عدله فإنه كان أحسن الملوك سيرة، وأعدلهم حكمًا، فمن عدله أنه لم يترك في بلد من بلاده ضريبة ولا مكسًا ولا عُشرًا، وكان يتحرى العدل،

وينصف المظلوم من الظالم، كائنًا من كان، القوي والضعيف عنده

38

في الحق سواء، وكان يسمع شكوى المظلوم، ويتولى كشف حاله بنفسه، ولا يَكِلُ ذلك إلى حاجب ولا أمير.

*ومن عدله: أنه كان يُعظم الشريعة المطهرة، ويقف عند أحكامها، ولو على نفسه؛ فمن ذلك أن رجلًا خاصمه في ملك، فأرسل إلى القاضي يقول له: إنني قد جئت محاكَمًا، فاسلك معي مثل ما تسكله مع غيري، فلما حضر ساوى خصمه، وخاصمه وحاكمه، فلم يثبت عليه حق، وثبت الملك لنور الدين، فقال نور الدين حينئذ للقاضي ولمن حضر: هل ثبت له عندي حق؟ قالوا: لا، فقال: اشهدوا أنني قد وهبت له هذا الملك الذي قد حاكمني عليه، وهو له دوني، وقد كنت أعلم أن لا حق له عندي، وإنما حضرتُ معه؛ لئلا يُظن بي أني ظلمته، فحيث ظهر أن الحق لي وهبته له.

*ومن عدله: أنه أمر ببناء دار العدل، وهو أول من بنى دارًا للكشف، وسماها دار العدل، فلما فرغت دار العدل، جلس نور الدين فيها لفصل الحكومات والخصومات، وكان يجلس في الأسبوع مرتين وعنده القاضي والفقهاء، بقي كذلك مدة.

*ومن فضائله:

أنه جلس يومًا يفكر طويلًا، فسئل عن ذلك؟ فقال: إنني أفكر في والٍ وليته أمرًا من أمور المسلمين، فلم يعدل فيهم، أو فيمن يظلم المسلمين فلم يعدل فيهم، أو فيمن يظلم المسلمين من أصحابي وأعواني، وأخاف المطالبة بذلك، فبالله عليكم - وإلا فخبزي عليكم حرام - لا ترون قصة مظلوم لا ترفع إليَّ أو تعلمون مظلمة إلا وأعلمتموني بها، وارفعوها إليَّ.

 وأما جهاده: فقد استرجع نيفًا وخمسين مدينة من الصليبيين، وكان قد هيأ العدة لفتح بيت المقدس، فتوفي قبل أن يحقق ذلك على يديه.

وأما شجاعته: فقد كانت النهاية إليه فيها؛ فإنه أصبر الناس في الحرب، وأحسنهم مكيدة ورأيًا، وبه كان يُضرب المثل في ذلك، وكان إذا حضر الحرب باشر القتال بنفسه، وكان يقول: طالما تعرَّضت للشهادة فلم أدركها.

وكان ثابت القدم، حسن الرمي، شديد الضرب، يقدم أصحابه ويتعرض للشهادة، وكان يسأل الله تعالى أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير.

 قال القيسراني في مدحه قصائد كثيرة، منها قصيدة أولها:

ذو الجهادين ؛ من عدوٍّ ونفسٍ           فَهْو طُولَ الحياة في هيجاءِ 

أيها المَلْك الذي قد ألزم النَّا           سَ  سلوكَ المحجة البيضاءِ 

قد فضحتَ الملوك بالعدل لمَّا           سِرْتَ في الناس سيرة الخلفاءِ 

قاسِمًا ما ملكتَ في الناس حتى           لَقَسَمْتَ   التُّقَى  على الأتقياءِ

sdfdfd10496.jpg

المدرسة النورية، وفيها دُفن نُور الدين

ولما كان يوم عيد الفطر من سنة 569هـ ركب إلى الميدان الأخضر، وصلَّى فيه صلاة عيد الفطر، وطهَّر ولده الملك الصالح إسماعيل، وزينت البلد، ثم حصلت له خوانيق بعد احتباسه عن الناس أسبوعًا، وكان قد أشِير عليه بالفصد فلم يقبل، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، فلما كان يوم الأربعاء 11 من شوال من سنة 569هـ قُبض إلى رحمة الله تعالى عن ثمان وخمسين سنة، وصُلي عليه بجامع القلعة بدمشق، ودُفن بها، ثم حُوِّل إلى تربته التي أنشأها لفقهاء الحنفية (المدرسة النورية الكبرى).

وقد رثاه الشعراء بمراثٍ كثيرة، أوردها أبو شامة في كتابه العظيم: (الروضتين في أخبار الدولتين)، ومن أحسن ما قال العماد الأصبهاني:

عجِبْتُ مِن الموتِ   لمَّا أتى      إلى ملِكٍ ، في سجايا  مَلَكْ

C:\Users\MTS\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\clip_image010.gif

و كيف ثوى الفَلَكُ المستديـ      ـرُ في الأرض والأرض وسْطَ الفَلَكْ

40

ُ مِن الموتِ لمَّا أتى 

إلى ملِكٍ في سجايا مَلَكْ 

وكيف ثوى الفَلَك المُستديـ 

رُ في الأرض والأرضُ وسْطَ الفَلَكْ

نور الدين الشهيد

رائد توحيد الأمة الإسلامية لفتح القدس

 

د. أحمد الخاني

 

sdfdfd10497.jpg

*أسرة الجهاد: زنكي: هو زنكي بن آق سنقر التركي، كان من أخص أصحاب السلطان ملك شاه بن ألب أرسلان.

هذا هو جد نور الدين، بطل قصتنا هذه، وولده عماد الدين، والد نور الدين، فمن هو هذا البطل؟

عماد الدين زنكي: كان واليًا على مدينة واسط، وكان فاضلًا صالحًا مجاهدًا وقائدًا عظيمًا مثل أبيه زنكي، ملَك حلب وحماة وبلادًا كثيرة، حارب الصليبيين، ونصره الله عليهم في المواقف كلها، ثم حاصر قلعة جعبر فاستشهد غيلة في حصارها.

كان شجاعًا مقدامًا حازمًا، وكان من أشد الناس غيرة على النساء، يرحمه الله. 

عرفنا طرفًا يسيرًا عن سيرة الأب والجد، فكيف تكون سيرة سليل هؤلاء العظماء؟

كان القائد نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي في حلب يجاهد الصليبيين، فقام باستعادة الرها أول الإمارات الصليبية تأسيسًا منذ وصولهم إلى الديار الإسلامية، فكان أمام جبهتين؛ جبهة داخلية ممزقة متناحرة، وجبهة خارجية هي الخطر الصليبي الداهم.

41

وكان الحال كما قال الشاعر:

لكل جماعة فينا إمام                   و لكن الجميع بلا إمام

 


لكل جماعة فينا إمام 

ولكن الجميع بلا إمام 

فكيف استطاع هذا القائد أن يشق طريقه بين هاتين الجبهتين؟

كان نور الدين في حلب، أما دمشق؛ فكانت تحت سلطان مجير الدين بن أتابك حاكمًا عليها. 

أغار الصليبيون على بصرى، فاستغاث حاكم دمشق بنور الدين، وهي فرصة لم يضيعها نور الدين، بل ركب سريعًا للنجدة، فالتقى مع الصليبيين بأرض بصرى فكسرهم وهزمهم، ورجع فنزل على الكسوة وخرج ملك دمشق مجير الدين فاحترمه وخدمه، وفي هذه السنة نفسها ثلاث وأربعين وخمسمئة حاصرت الفرنجة دمشق في سبعين ألف مقاتل، ومعهم ملك الألمان، في خلق لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل، فاستغاث مجير الدين مرة ثانية بنور الدين، فتوجه إليهم وكانت هيبته قد دبت في قلوبهم فهربوا من وجهه، فلحق بهم بجيشه، وأدركهم وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وجمًا غفيرًا، وقتلوا قسيسًا اسمه: إلياس، هو الذي أغراهم بدمشق، بعد أن افترى منامًا عن المسيح أنه وعده فتح دمشق.

ثم سار إلى سنجار ففتحها، ثم فتح حصن أفامية قرب حماة، وكان من أمنع حصون الصليبيين وأوسعها، خطبت له الخطباء على المنابر بالنصر والتأييد، ومدحته الشعراء ومنهم ابن القيسراني فقال:

تلك العزائم ، لا ما تدَّعي القضُب         وذي المكارم لا ما قالت الكتب

صافحت يا بن عماد الدين ذروتها          براحة للمساعي دونها تعب

وحُلَّت العقدة:

كانت العقدة الرئيسية في مسيرة نور الدين الجهادية هي مدينة دمشق، كان مقيدًا في حركته فدمشق، لها أهمية خاصة في التاريخ الإسلامي.

 وهيأ الله دمشق لنور الدين، وهيأ نور الدين لدمشق، فقد انكشف ضعف حاكمها مجير الدين، وساءت سيرته وضعفت دولته، وحاصره العامة في القلعة أكثر من مرة، فكان الناس يدعون ليلًا نهارًا أن يولي عليهم نور الدين.

أخذ الصليبيون عسقلان، ولا يمكن استرجاعها إلا أن تكون دمشق بيده؛

42

لذلك هاجمها وفتحها عنوة ونادى في الناس بالأمان، ورفع عنهم المُكوس، ففرح المسلمون وأكثروا له الدعاء.

وكان مما ساعد على تقدم نور الدين في جهاده، آل أيوب، وصار يفتح المدن والممالك، فيمينه أسد الدين شيركوه، وشماله صلاح الدين.

وتوالت فتوحات نور الدين فاستردَّ قلعة تل حارم، ثم فتح مدينة بانياس....

*فتح مصر:

بعد أن ترسَّخت جذور الدولة الإسلامية في الشام، تطلعت نفس نور إلى مصر، فبين الشام ومصر تكامل تاريخي عريق منذ زمن يعقوب وابنه يوسف، عليهما السلام، وعيسى، ذهبت به أمه إلى مصر خوفًا من حاكم الشام الروماني، ثم عادت به بعد أن اطمأنت على ولدها عليه السلام. وتكاملت مصر مع الشام في زمن العثمانيين لإمداد الجيوش الفاتحة، ونابليون، لما جاء إلى مصر جاء إلى عكا ... وكذلك فعل محمد علي الأرنؤوطي، وقد أرسل ابنه إبراهيم إلى الشام ليضمها على مصر، ثم جاءت حرب السويس، ثم قامت وحدة بين القطرين، ولكن جمال عبد الناصر كان سيئًا فاسدًا، فأساء على الوحدة وأفسدها.

فالشام لمصر، مثل اليمين للشمال.

وقد كان أسد الدين شيركوه، الساعد الأيمن لنور الدين في فتح دمشق، وله اليد الطولى في ذلك، وكذاك كان في فتح مصر.

أسد الدين شيركوه:

وهو عم صلاح الدين الأيوبي، وجهه نور الدين لفتح مصر وكان معه ألفا فارس، وأقبلت الفرنجة في جحافل كثيرة إلى الديار المصرية.

المشورة:

استشار أسد الدين من معه من الأمراء، أن يرجع إلى الشام، ثم يعود بجيش قادر على أن يقاتل هذه الجموع الهائلة من الفرنجة، فكلهم أشار بالرجوع إلا رجلين؛ الأول الأمير شرف الدين بزغش؛ فإنه قال:

من خاف القتل أو الأسر فليقعد في بيته عند زوجته، ومن أكل أموال المسلمين فلا يسلم بلادهم إلى العدو. وأما الثاني: فهو صلاح الدين.

43

*هزيمة الصليبيين:

سار أسد الدين نحو العدو، واختار ستمئة فارس انتقاهم من الأبطال، وظلوا معه حسب خطة حربية رسمها، ثم أرسل الباقي ليقابلوا العدو، وفيهم صلاح الدين، وأوصاهم ألا يقاتلوا العدو بشراسة، وألا يصدقوهم اللقاء، كما أوصاهم أن يتراجعوا.

 هجم الصليبيون، وكان جهد المسلمين في اللقاء فاترًا، ولم يفطن الصليبيون لِلمَكيدة، وفي تقهقر الجيش، وظن الصليبيون أنهم منصورون، فاجأهم أسد الدين شيركوه من خلفهم بالأبطال، وقد ظن الصليبيون أن شيركوه مع الجيش الذي هاجموه، فأصبحوا بين فكي كماشة، أو بين المطرقة والسنْدان حينما ارتد عليهم صلاح الدين يعمل فيهم السيف، وعمه يرعب أبطال الصليب، ودارت الدائرة عليهم، وتطلعوا إلى النجاة، ثم أسلموا أقدامهم يسابقون الريح لا يلوون على شيء، وقد قتل منهم في هذه المعركة خلق كثير.

ثم سار أسد الدين إلى الإسكندرية فملكها، وأناب عنه ابن أخيه صلاح الدين يوسف، وما لبث أن توفي أسد الدين يرحمه الله، فولى الخليفة صلاح الدين الأيوبي الوزارة في مصر بعد عمه.


وجاءت حملة صليبية إلى دمياط، وقتلوا فيها خلقًا كثيرًا، جاؤوا إليها من البر والبحر، آملين أن يملكوا الديار المصرية، خوفًا من استيلاء المسلمين على القدس.

وكان نور الدين بالموصل، أقام فيها أربعة وعشرين يومًا، فلما كانت آخر ليلة أقام بها رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام يقول له: طابت لك بلدك وتركت الجهاد وقتال الأعداء؟

فنهض من فوره إلى السفر، وما أصبح إلا وهو سائر إلى الشام.

*وفاة نور الدين:

أصيب نور الدين بالتهاب في حلقه يسمى الخوانيق؛ فتوفي عن عمر بلغ ثمانية وخمسين عامًا.

44

كان طويل القامة، أسمر اللون، حلو العينين، واسع الجبين حسن الصورة، مهيبًا متواضعًا.

وكان شجاعًا صبورًا في الحرب، يضرب به المثل في ذلك، وكان يلقب بالشهيد وقد وضع المكوس وسبب ذلك أنه دخل عليه أبو عثمان الواسطي، وكان من كبار الصالحين فأنشد نور الدين قصيدة منها:

مثل وقوفك     أيها المغرور          يوم القيامة و السماء تمور

 

إن قيل: نور الدين رحت مسلمًا          فاحذر بأن تبقى وما لك نور

 

مَهِّدْ لنفسك حجة تنجو بها          يوم المعاد لعلك المعذور


مثل وقوفك أيها المغرور 

يوم القيامة والسماء تمور 

إن قيل: نور الدين رحت مسلمًا 

فاحذر بأن تبقى وما لك نور 

مهد لنفسك حجة تنجو بها 

يوم المعاد لعلك المعذور 

فلما سمع نور الدين هذا الشعر بكى، وأمر بوضع الضرائب في سائر بلاده.

وقد كان هم نور الدين فتح القدس الشريف، حتى إنه أمر بصنع منبر للمسجد الأقصى؛ لينقل إلى بيت المقدس بعد فتحه واسترداده من أيدي الصليبيين قبل عشرين سنة من فتحه، وقد جاء على يد صلاح الدين، وهذه الثقة بالله ثم بالنفس، لم بعهدها التاريخ لبطل من أبطال الإسلام غير نور الدين.


فبعد توحيد مصر والشام، صار الطريق مُعَبَّدًا لفتح القدس أمام صلاح الدين، وكان فتح القدس ثمرة من جهاد آل زنكي؛ بدءًا بِالجَدِّ زنكي، ثم عماد الدين ولده، ثم نور الدين الحفيد، رحم الله آل زنكي آل الجهاد وتحرير القدس، ورحم الله فقيد جهاد القدس نور الدين الشهيد.

الألوكة - 18/9/1434هـ - 25/7/2013م

 

 

 

45

الملك العادل نور الدين الزنكي - باني الوحدة الإسلامية

د. طارق السويدان

 

sdfdfd10498.jpg

موقعه الرسمي في 27/2/2022م

أُمتنا الإسلاميّة غنية بالرجالِ العظام، المبدعين والقدوات في كلّ مَيدان، نقفُ لنتعرّف على أحدِ هؤلاءِ القامات، إنّهُ الملك العادل"نور الدين الزنكي": باني الوحدة الإسلامية، وصانع حضارتها بعد الغزو الصليبي على بلاد الشام ومصر.

إذا عُدّ القادة بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز؛ كان نور الدين الزنكي أبرزهم، فمن هو هذا القائد البطل؟ وبماذا تميز عن غيره من القادة؟

*مولد نور الدين الزنكي: ولد نور الدين في (17) شوال سنة (511هـ).

ظهر نور الدين على مسرح الأحداث في النصف الأول من القرن السادس الهجري، والمسلمون آنذاك يعيشون في ظلامٍ دامس، فمنذ بدء الحروب الصليبية: (دولهم متفرقة، وحكامهم متخاذلون، قد أُرهِقوا بالضرائب والإتاوات، وأصبحوا يتجرعون الذل والمهانة في حياتهم اليومية)؛ جراء تسلط أعوان الحكام من جهة، وتصرف الصليبيين في بلادهم وكأنها ملكٌ لهم من جهة أخرى.

والذي يتأمل في تاريخ أمتنا، يجد أنّ الأوضاع التي عاش فيها عماد الدين

46

وولد فيها نور الدين، كانت أسوأ من أوضاع الأمة الإسلامية اليوم، ومع ذلك استطاعا أنْ يوحدا الأمة.

*وصول الزنكيين إلى الإمارة - جهاد عماد الدين الزنكي ضد الصليبيين

كان عماد الدين يسيطر على الموصل ونصيبين وحرّان، وكان قد هيأ نفسه للجهاد ضد الصليبيين، لكنّه رأى أنّ ذلك لن يتحقق، مالم تتحد القوة الإسلامية في العراق والشام، فبدأ هدفه لتحقيق الوحدة منطلقًا من حلب، والتي كانت آنذاك غارقة بالفوضى، وكانت موضع تنازع بين سلاجقة الروم ونصارى الصليبيين، فتحرك إلى حلب وسيطر عليها سنة 522هـ.

خاف حكّام الإمارات الإسلامية على ممالكهم، فأخذوا بالعمل ضده، وأشغلوه عن هدفه الأسمى في الجهاد ضد الصليبيين لمدة (7 سنوات)، ثم عاد إلى منازلة الصليبيين وتمكن من فتح مدينة “الرّها” سنة (538هـ)، وأقام فيها ينشر العدل.

عاد الصليبيون للهجوم على مدينة الرّها بعد شهر، ظنًا منهم أنّ عماد الدين رجل ضعيف، فخرج لهم بغتة، وقتل ثلاثة أرباع الجيش الصليبي، وكانت هذه ضربة موجعة للصليبيين؛ لأن الرّها كانت أول إمارة صليبية تأسست في الشرق، وها هي تسقط الآن وتصبح مركزًا لبدء الحملات عليهم.

*وفاة عماد الدين الزنكي: تم التآمر على عماد الدين من قبل جماعة تدعى بـ "الحشاشين"، وقاموا باغتياله سنة (541هـ).

وكان له من الولد (4 أولاد) أكبرهم "سيف الدين غازي"، ثم "نور الدين محمود"، وقد ورثوا صفات والدهم الحسنة، وخصاله الحميدة، وحبه للإسلام والمسلمين.

بعد وفاة عماد الدين اقتسم ولداه دولته فكان سيف الدين غازي في الموصل، ونور الدين في حلب، وكان الفاصل بين دولتيهما نهر الخابور.

والملاحظ: بعد وفاة عماد الدين لم تنشأ نزاعات على الحكم بين أولاده، كما هو متعارف عليه في هذه الأحوال، وهذا من إكرام الله لعماد الدين، فهو الذي خرج غيرة على دين الله وحبًا للمسلمين، فحفظ الله له تلك النية، وجمع قلب أولاده على تحقيق رغبته.

47

أما عن صفات الأخوين: "سيف الدين غازي: كان صاحب سياسة وأناة وحكمة ومفاوضات، أما "نور الدين محمود" كان يعشق الجهاد في سبيل الله، ميّالًا لجمع كلمة المسلمين، وإخراج أعداء الأمة من بلاد المسلمين، وهذه الأهداف هي التي جعلته من أعظم حكّام المسلمين.

*توحيد نور الدين الزنكي لبلاد الشام

*نور الدين الزنكي وإمارة حلب والرها

استشعر نور الدين خطر الصليبيين من إمارة أنطاكية، فقام بالهجوم عليها، وسيطر على بعض القلاع التابعة لها.

حاول "جوستين الثاني" استعادة "الرّها"، فقاتله نور الدين وهزمه هزيمة نكراء، أذل من الهزيمة الأولى، وانتشر خبر النصر في الأمة، واستبشر المسلمون بهذا البطل خيرًا، فبعد سنوات عجاف من الهزائم والذل والهوان، عاد النصر إلى صفوف المسلمين.

قام الملك العادل "نور الدين" بمعاقبة الخونة المتآمرين مع الصليبيين، ولم يعاقب إلا من ثبتت خيانته.

نور الدين كان عنده صفة الشدة والغلظة ولكن على أعداء المسلمين، أما على المسلمين والمعاهدين فكان رقيق القلب، فكان محبوبًا من قبل شعبه المسلم وغير المسلم، وذاع صِيته في البلاد الإسلامية كلها، فأخذ حبه بمجامع قلوب كل المسلمين.

*نور الدين الزنكي وإمارة أنطاكية

كان تحرير المسجد الأقصى هو الهدف الأسمى لنور الدين، ولن يتحقق هذا الهدف إلا بتوحيد كلمة المسلمين، فكان يسعى بشكل دؤوب على رأب الصدع، ونبذ الخلافات، ولمّ الشمل، واستمالة القوى الإسلامية في شمال العراق والشام.

فعقد معاهدة مع حاكم الشام "معين الدين أنر" سنة (541هـ)، وأراد توثيق العلاقة فتزوج ابنة أنر، ثم لما تعرض أنر لخطر الصليبيين استعان بصهره نور الدين الذي لبّى نداء عمه، ودافع عن دمشق، وطارد

48

الصليبيين، وقام بفتح "بصرى" و"صرخد"، ثم عاد إلى دمشق، ولم يطل البقاء فيها حتى يطمئن حاكم دمشق بأنه لا نية له بالاستيلاء على دمشق.

عاد "نور الدين" صاحب (29 عامًا) إلى مقارعة الصليبيين في أنطاكية، وسيطر على بعض القرى حولها، فأثار الرعب في قلوب الصليبيين.

*نور الدين الزنكي والحملة الصليبية الثانية

سنة (542هـ) وصلت إلى فلسطين الحملة الصليبية الثانية، والتي هي من أخطر الحملات على بلاد الشام، وصلت بقيادة ملك فرنسا "لويس السابع" وملك ألمانيا "كونراد الثالث"، لكن هذه الحملة باءت بالفشل، وتعرضت لخسائر هائلة على يد جنود المسلمين من جيوش: حلب ودمشق والموصل تحت قيادة نور الدين.

قام نور الدين باستغلال دوي هذا النصر العظيم، وهاجم أنطاكية، فبدأ بـ"حارم" سنة (544هـ) وحاصر قلاعًا أخرى، فنهض "ريموند" ملك أنطاكية وخرج يتصدى لنور الدين، فالتقى الجيشان سنة (544هـ)، لكن الله أيد جند الحق وهزم جيش الصليبيين الذي أبيد عن بكرة أبيه، وكان من جملة القتلى حاكم أنطاكية نفسه، وفرح المسلمون بهذا النصر العظيم.

*نور الدين الزنكي وإمارة دمشق

حتى تتحد القوات المسلمة بين الفرات والنيل لابد من ضمان ولاء دمشق، لكن دمشق كانت تحت إمرة حاكم لديه معاهدة مع الصليبيين، على الرغم من مصاهرته لنور الدين.

لكن تدبير الله فوق كل تدبير، وكان من تدبير الله أن يموت "أنر" عم نور الدين وحاكم دمشق، وتولى بعده “مجير الدين آبق”، وبقي على سياسة "أنر" في التحالف مع الصليبيين، بل قام بالتذلل لهم، ووافق أن يدفع أهل دمشق جزية سنوية للصليبيين؛ مقابل أن يقوموا بحماية دمشق من نور الدين.

لم يحدث هذا العار من قبل، المسلمون في دمشق العظيمة يدفعون جزية للصليبيين، أي ذلٍّ وصل إليه حاكم دمشق الخائن؟

فهب أهل دمشق -وهم أصحاب مروءة وإباء- وأرسلوا إلى نور الدين عن طريق علمائهم: أنهم يرغبون به حاكمًا عليهم، يُخلصهم من هذا الذل،

وهذا من ميزات الأمة الإسلامية: أنها تقبل أن يحكمها من يُقيم فيها شرع الله سُبحانه وتعالى، ولا يعطل أي حدٍّ من حدود الله.

سنة (549هـ) كانت سنةً حاسمةً في تاريخ الحروب الصليبية، عندما دخل نور دين إلى دمشق بطلب أهلها، وضمّها إلى ولاية حلب، واجتمعت راية المسلمين في بلاد الشام (من الرها شمالًا إلى حوران جنوبًا) تحت قيادة واحدة، همّها تحرير كل المناطق من أيدي الصليبيين.

أما بالنسبة لحاكم دمشق "مجير الدين آبق"، فقد خيّره نور الدين إما بالبقاء في دمشق أو الخروج منها، ولم يبطش به كعادة القادة المنتصرين.

وهكذا انتهت المرحلة الأولى من جمع كلمة المسلمين، بإحكام نور الدين سيطرته على شمال العراق وبلاد الشام، وهذا الأمر دفع الصليبيين لتغيير توجهاتهم في التوسع، فأصبحت تطلعاتهم نحو مصر التي كان يحكمها الفاطميون حينها.  

*الأمير نور الدين الزنكي وفتح مصر

(558هـ) قام "بلدوين الثالث" ملك بيت المقدس، بتحريك حملة نحو مصر، بحجة عدم التزام الفاطميين بدفع الجزية له، لكن حملته باءت بالفشل، وأجبر على الانسحاب.

تنبّه نور الدين إلى خطورة الوضع، فأسرع بشن حملات على الصليبيين في الشام ليشغلهم عن مصر، وتخفيف الضغط عن أهلها.

ودخل في سباقٍ مع الزمن للفوز بمصر، فأرسل حملة لمؤازرة أهل مصر وحاكمها ضد الصليبيين، على رأس هذه الحملة بطل من قادة نور الدين إنه "أسد الدين شيركوه"، وأرسل معه بطلًا حديث السنّ ليسانده في هذه المهمة: إنه ابن أخ شيركوه “صلاح الدين".

واستمرت حملات نور الدين لمؤازرة مصر (5 سنوات)، منذ سنة (559هـ) حتى سنة (564هـ)، وكان الصليبيون يحاولون الظفر بمصر كل هذه المدة، ولو عن طريق التحالف مع مصر ضد نور الدين، حتى جاءت سنة (564هـ).

50

*معركة حارم

كان نور الدين خلال هذه الفترة، في جهاد دائم ضد الصليبيين في دمشق ليشغلهم عن مصر، لكنه تعرّض في إحدى الفترات لكمين، كاد أن يقتل فيه، هزم نور الدين في معركة" البقيعة "وكثر القتل في جيشه، فانسحب وغضب، كان أمله أن يحرر فلسطين وها هو الآن يهزم؟

فقال مقولة عظيمة: (والله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام)، وبدأ يضغط بشدة على الصليبيين، فتعجَّبوا لشدة إصراره، فعرضوا عليه الصلح لكنه رفض، والتقى معهم في معركةٍ عظيمة "معركة حارم" فقتل منهم (10 آلاف)، وأسر منهم (10 آلاف) ما بين أمراء وقادة وجند.

*أسد الدين شيركوه وزير العاضد: بالمزامنة مع هذه المعركة كانت أوضاع مصر تسير وفق ما يتمنى نور الدين، فهذا “أسد الدين شيركوه” يصبح وزيرًا للخليفة الفاطمي "العاضد" (آخر الحلفاء الفاطميين)، وأما سبب قيام العاضد بهذه الخطوة: ليخفف من خطر نور الدين، لكنه قام بالتواصل مع الصليبيين سرًّا، ليخلصوه من "شيركوه".

اكتشف "شيركوه" هذه الخيانة، وأراد أن يحل الأمر بالسياسة، لكن ابن أخيه “صلاح الدين” كان له رأي آخر في هذه المسألة، فعارض رأي عمه، وأخبره بعزمه على قتل الخليفة العاضد، لأن هؤلاء القوم لا يصلح معهم إلا السيف، فأخذ مجموعة من الشباب المجاهد، وتسلّق قصر الخليفة الفاطمي الخائن "العاضد" وقتله.

فأصبحت مصر الآن تابعة لنور الدين تحت قيادة "أسد الدين شيركوه"، فتوحّدت مصر والشام مع العراق تحت لواء نور الدين.

*علاقة نور الدين الزنكي وصلاح الدين: لم يستمر "شيركوه" طويلا في حكم مصر (شهرين)، لأن الأجل باغته وانتقل إلى رحمة الله، فجاء أمر نور الدين بتولية "صلاح الدين" قيادة مصر واليًا لها من قبل نور الدين، فشرع صلاح الدين على نشر الأمن والعدل بين الناس، وتثبيت أقدامه في مصر، وأصبح الوقت حاسمًا لتحرير فلسطين.

كان لدخول مصر تحت حكم نور الدين دويّ هائل في أوربا كلها، فأصبحت تشعر أنّ فلسطين ستخرج من أيديها، فارتفعت الأصوات

51

في أوروبا لإرسال حملةٍ جديدة؛ تعيد للصليبين في الشام هيبتهم وسلطتهم، وتقف أمام نور الدين، فتحركت هذه الحملة نحو مصر، لكنها فشلت في أنْ تحقق أهدافها.

*نور الدين الزنكي صانع حضارة المسلمين بعد الغزو الصليبي

من خلال إيمانه بعظمة الإسلام: استطاع نور الدين أن يصنع حضارة ساهمت فيما بعد باستعادة المسجد الأقصى وبيت المقدس، هو لا يريد بناء مجد شخصي، بل نشر تعاليم الدين الإسلامي بين الشعوب.

*أما الأعمال التي قام بها لتحقيق هذه الحضارة فهي:

*العدل في حياة نور الدين الزنكي

تطبيق العدل في تعامله مع غير المسلمين من المواطنين:

كان غير المسلم يتمتع بكامل حقوق المسلم، مالم يقم بخيانة ضد أهل بلده، كان يدعو للتعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم من أبناء الديانات الأخرى.

مناهضته للعصبية القومية أو القبلية:

كل الناس عنده سواء، لا يميز بينهم إلا إخلاص النية لله، يأخذ برأي العربي والكردي والتركماني و…، طالما أنّ الرأي يصبّ في مصلحة المسلمين، اعترضه نهر الفرات يومًا، كيف يعبره ليصل إلى الصليبيين، فأشار عليه أحد التركمان أنْ يعبر من مخاضة، فأخذ برأيه وعبر الفرات بجيشه، فقذف الله الرعب في قلوب الصليبيين قبل أن يلقاهم نور الدين.

*تطبيق الشريعة في كل مجالات حياته

 كان كثير التضرع لله في كل أوقاته:

يعلم تمام العلم أنّ النصر بيد الله، فكان كثير الالتجاء إلى الله، ففي يوم “حارم” المشهود جلس يدعو الله ويبكي وارتفع صوته، يتضرع ويقول: (اللهم انصر دينك، لا تنصر محمود، من محمود حتى ينصر دينك؟)، فنصره الله في هذا اليوم العظيم، وكان هذا ديدنه في كل حياته.

52

*جهاده المستمر ونفسه التواقة للشهادة:

ساعيًا نحو تحقيق هدفه الأسمى (تحرير المسجد الأقصى)، يقود الجيوش ويقاتل بنفسه، كان يرغب أن يلقى الله على ظهر جواده، يقول عن نفسه: (تعرضت للشهادة غير مرة، فلم تتفق لي، ولو كان فيَّ خير، ولي عند الله قيمة؟ لرزقت الشهادة).

*قلبه العامر بالإيمان بالله عزوجل:

فهو لا يعرف الخوف أو الجزع في مجابهة أعداء الإنسانية، كان يقول: (لو كان معي "1000" فارس لا أبالي بعدو).

*التربية والتعليم في حياة نور الدين الزنكي

لم يُغفل دور التربية والتعليم في بناء الأمة:

قام ببناء المدارس والمساجد، في الشام وحدها كانت تعد بالمئات، في كل بلد كان يدخله نور الدين كان يُنشىء فيه مدرسة، ويجتهد في اختيار المدرسين من الشيوخ الثقات، ويوقف عليها الأوقاف الكثيرة، كانت هذه المدارس تُعنى بالقرآن والحديث والسنة.

كان له شغف في طلب وسماع أحاديث النبي صلوات الله وسلامه: حتى في أحلك الظروف كان يطلب العلم، حتى صار من المُحدِّثين.

*عبادة نور الدين الزنكي

أما جانب العبادة: كان نور الدين مؤمنًا صادق الإيمان، عابدًا، ذاكرًا، زاهدًا، مجاهدًا، متصوّفًا، كان ينام نصف الليل ثم يقوم يتوضأ ويقبل على الصلاة والدعاء إلى الصباح، يُصلّي الصبح ثم يتفرغ لشؤون دولته.

53

 *الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند نور الدين

يعلم أنه إذا انتشر الفساد في الأمة تراخت وضعفت، فمن أعماله:

1- أبطل العمل بالنداء بـ (حيَّ على خير العمل) في الأذان، وكان قد ابتدعها الفاطميون.

2- منع الخمور، وأزال المنكرات، وقام بإسقاط الضرائب عن الشعب.

3- كانت له عناية شديدة في قضية جمع الزكاة وَفْق الأنصِبة الشرعية المقدرة من الإسلام.

4- أنشأ "دار العدل" في دمشق، وبسط العدل بين الناس.

5- توسع في بناء الخدمات الأساسية في المجتمع، فقام ببناء "المستشفى النوري"؛ (مدرسة التجارة اليوم)، و"دار الحديث النورية" في دمشق، وبناء الخانات؛ على الطرق لينزل بها المسافرون.

*وفاة نور الدين الزنكي

بقي نور الدين طوال عمره ساعيًا خلف هدفه، مجاهدًا في سبيل الله، يجهز الجيوش ويقاتل الصليبيين.

في يوم من الأيام كان يجهز حملة كبيرة، يلتقي فيها مع جيش مصر، ليسير الجيشان نحو فلسطين، إلا أنَّ الحُمَّى ألمَّت به، ومنعته من الخروج، واشتدَّ به المرض، إلى أن لقي الله تعالى في (11) من شوال سنة (569هـ)، وعمره (59) سنة.

واهتزت الأمة الإسلامية كلها لموته رحمه الله تعالى.

لكنه قبل وفاته قام بعمل عظيم، يدلّ على إخلاصه لهذه الأمة، وغيرته على هذا الدين، فقام بتولية صلاح الدين خلفًا له، ليسير على نهجه في تحرير كامل تراب فلسطين.

54

 

سادس الخلفاء الراشدين

نور الدين زنكي

للأستاذ إيهاب إبراهيم - الألوكة

13/9/1433هـ - 31/7/2012م

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، وبعد:

"إنِّي لأستحيي من الله -تعالى- أن يراني مبتسمًا، والمسلمون محاصرون بالفرنج!".

هكذا لَخَّصَتْ تلك العبارةُ منهجَ وهِمَّةَ هذا البطلِ العظيم، إنَّه الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي.

لقد تقطعتْ أوصالُ الأمة الإسلامية، وذهبت ريحُها بين الأُمراء والإمارات، وعاث الصليبيون في أرضِ الإسلام الفساد، وتسلَّط الفاطميون على بلاد المسلمين سنينَ ينشرون الكُفْرَ والإلحاد، وتعاون خونةُ الأمراء من المسلمين مع الفرنجة لإسقاط بعضهم، وبين كل ذلك ضاع المسلمون وعانَوُا الظلمَ والقهر على يد الفرنجة تارة، وعلى يد الأمراء الفاسقين تارة.

وفي هذا الظلام الحالك أشرقتْ شمسُ يوم الأحد 17 من شهر شوال عام 511هـ، وأشرق معها نورُ الدين محمود على الأمة الإسلامية؛ ليكمل ما بدأه أبوه عماد الدين زنكي، لقد ورث نورُ الدين مِن والده حبَّ الجهاد والسَّعي المستمر لتخليص الأُمَّة من الصليبيين، وقد مَنَّ الله على نور الدين بصفات حميدة أهَّلته ليكون -كما يطلق عليه كثيرٌ من أهل العلم- سادسَ الخلفاء الراشدين.

لقد وضع بطلُنا سيرةَ الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز أمام عينه وجعله قُدوته؛ قال ابن الأثير: "قد طالعت تواريخَ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا، فلم أرَ بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسنَ سيرةً من الملك العادل نورِ الدين، ولا أكثر تحرِّيًا للعدل والإنصاف منه، قد قصر ليله ونهاره على عدلٍ ينشُره، وجهادٍ يتجهز له، ومظلمةٍ يزيلها، وعبادةٍ يقوم بها، وإحسانٍ يُوليه، وإنعامٍ يُسديه." اهـ

55

وقال أبو حفص معين الدين الإربلي في مقدمةِ كتابه عن عمر بن عبد العزيز وتقديمه ذلك الكتاب لنور الدين: علمًا منه أنَّ الاقتداء بالسَّلف الفضلاء العقلاء يكمِّل الأجر، ويُبقي الذكر، واتباع سنن المهديين الراشدين يصلح السريرة، ويُحسن السيرة، وأنَّ الله -سبحانه وتعالى- أَمَر نبيَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالاقتداء بسلفه من الأنبياء.

وكان نور الدين يتَّسم بالجدية والذكاء، فقد كان سريعًا لسد أي فَتْقٍ أو اعتداء من الصليبين، فلما سمع أنَّ جوسلين حاصر الرها، هَبَّ مسرعًا لنجدتها، وسبى أهلَها، وأجلى منها النصارى؛ وذلك لأنَّهم خانوا أباه مرتين قبل ذلك؛ لذا كان يجب الرد الحاسم وعدم الرِّفق بأهلها.

ولما اعتدى الصليبيون على قاربين للمسلمين، غَضِبَ نور الدين وطلب من الصليبيِّين رد القوارب والأمتعة فرفضوا، فقام بحصار حصن عرقه وتخريب ربضه، والاستيلاء على حِصْنَي صافيتا، فاضطر الصليبيون إلى ردِّ القاربين والمهادنة، فقبل نور الدين؛ لحاجته يومئذٍ لذلك.

لقد تربَّى نورُ الدين على الشعور بالمسؤولية وحمل همّ المسلمين، وقد كان وَرِعًا تقيًّا يعد نفسه مسؤولاً عن المسلمين أمام الله -عزَّ وجلَّ- ويَظهر هذا جليًّا في رسالته إلى زعماء دمشق؛ قال: إنني ما قصدتُ بنُزولي هذا المنزل محارَبَتَكم؛ وإنَّما دعاني إلى هذا الأمر كثرةُ شكاية المسلمين بأن الفلاحين أُخِذَت أموالهم، وشُتِّتَتْ نساؤهم وأطفالهم بِيَد الفرنج، وعدم الناصر لهم، فلا يسعُني مع ما أعطاني الله -وله الحمد- من الاقتدار على نصرة المسلمين وجهاد المشركين، وكثرة المال والرجال، ولا يحلُّ لي القعود عنهم، وترك الانتصار لهم، مع معرفتي بعجزكم عن حفظِ أعمالكم والذبِّ عنها، والتقصير الذي دعاكم إلى الاستصراخ بالفرنج على مُحاربتي، وبذْلكم لهم أموالَ الضُّعفاء والمساكين من الرعية؛ ظلمًا لهم وتعديًا عليهم، وهذا ما لا يُرضي الله -تعالى- ولا أحدًا من المسلمين.

وقد كان نور الدين مَهِيبًا موقرًا، مع ما فيه من الحلم والرَّحمة واللين؛ قال ابن الأثير: كان مهيبًا مخوفًا مع لينه ورحمته، كانت إليه النهاية في الوقار والهَيْبة، شديدًا في غير عُنف، رقيقًا في غير ضعف.

56

وقال الحافظ ابن عساكر الدمشقي: "كنَّا نحضر مجلس نور الدين، فكنَّا كما قيل: كأنَّ على رؤوسنا الطير، تعلونا الهيبةُ والوقار، وإذا تكلم أنصتْنا، وإذا تكلمنا استمع لنا".

وقال ابن كثير: "لم يسمع منه كلمة فُحْش قطُّ في غضب ولا رضا، صَمُوتًا وَقورًا".

ومع هذه الهيبة كان رفيقًا بالضعفاء والمساكين، يقوم لهم، ويُقبِل عليهم، ويجلسهم بجانبهم، ويقول: "هؤلاء جندُ الله، وبدُعائهم ننتصر على الأعداء، ولهم في بيت الله حقٌّ أضعاف ما أعطيهم، فإذا رضوا منا ببعض حقِّهم، فلهم المِنَّة علينا".

ولذلك؛ فقد كان محبوبًا من الرعية، مُعظَّمًا عندهم؛ قال ابنُ كثير لما مرض نور الدين: "وفيها مرض نورُ الدين، فمرض الشامُ بمرضه، ثم عوفي ففرح المسلمون بذلك فرحًا شديدًا".

ولا عجبَ؛ إنَّه الحب الصافي العاري عن النفاق والمصالح، وإخلاص الملك لشَعبه وخدمته، والسَّعي في مصالحه، فنشأت تلك المحبة والثقة، والشعوب إذا أحبتْ قائدَها صنع بها المعجزات، وقد كان.

لقد عَلِم الملِك العادل أنَّ هذه الدنيا فانية، وأن المرء لن يخرج منها إلا بصالح العمل، فلم يَغُرَّه المُلكُ والسُّؤْدَد، فكان زاهدًا ورعًا -رحمه الله- مُتفكرًا؛ قال ابن الأثير: "وحَكَى لنا الأميرُ بهاء الدين علي بن الشكري قال: كنت معه في الميدان بالرُّها والشمس في ظهورنا، فكلَّما سرنا تقدَّمَنا الظل، فلما عُدنا، صار ظلُّنا وراء ظهورنا، فأجرى فرسَه وهو يلتفت وراءه، وقال لي: أتدري لأي شيء أُجري فرسي وألتفت ورائي؟ قلت: لا، قال: قد شبهت ما نحن فيه بالدُّنيا، تهرب ممن يطلبها، وتطلب من يهرب منها، قلت: رضي الله عن مَلِكٍ يفكر في مثل هذا".

وكان من ورعه -رحمه الله- أنه كان ينفق على أهل بيته من ماله الخاص من سَهمه في الغنيمة؛ قال ابن كثير: "كان نورُ الدين عفيفَ البطن والفرج، مقتصدًا في الإنفاق على أهله وعياله في المطعم والملبس،

57

حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقةً منه، من غير اكتناز ولا استئثار بالدُّنيا".

وكان نور الدين محبًّا للشهادة، مُقبلاً عليها، يطلبها في مظانِّها ويتمنَّاها، وقد غادر الموصل يومًا وهو يُحبُّها، فسأله أصحابه: إنَّك تحب الموصل والمقام بها، ونراك أسرعت العود؟ فيجيب: قد تغيَّر قلبي فيها، فإن لم أفارقها ظلمت، ويمنعني أيضًا أنني ها هنا لا أكون مُرابطًا للعدو وملازمًا للجهاد.

قال أبو شامة: كان في الحرب ثابتَ القدم، حَسَن الرمي، صليب الضَّرب، يتقدم أصحابَه، ويتعرض للشهادة، وكان يسأل الله -تعالى- أن يحشره في بطون السِّباع وحواصل الطير.

كان بطلنا يضع قولَ الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 169-170] نُصْبَ عينه، فظلَّ حياته يبحث عن الشهادة ويطلبها.

إنه القائد الرباني، العابد الزاهد، كان يصلي مُعظمَ الليل يسأل ربَّه ويتضرع إليه، وكان صَوَّامًا، محافظًا على الجماعة؛ قال ابنُ الأثير: حدثني صديقٌ لنا بدمشق -كان رضيع الخاتون زوجة نور الدين- فقال: كان نور الدين يُصلِّي فيُطيل الصلاة، وله أوراد في النَّهار، فإذا جاء الليل وصلى العشاء نام، ثم يستيقظ نصف الليل، ويقوم إلى الوضوء والصلاة والدُّعاء إلى بكرة، ثم يظهر للركوب، ويشتغل بمهام الدولة. اهـ.

إنَّها العبادة بمفهومها الشامل، فقد جعل نور الدين شغل الدولة من أهم العبادات، ولم ينسَ حظَّ نفسه منها.

وقد علم نورُ الدين أنَّ الاجتهادَ في العبادة من شروط التمكين؛ قال - تعالى: - ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾. (النور: 55).

58

وقد علم -رحمه الله- شَرَّ البدعة وفضل السُّنة، فأقام دولته على السنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال عنه ابنُ كثير: أظهرَ نورُ الدين ببلاده السنةَ، وأمات البدعةَ، وأمر بالتأذين بحيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح، ولم يكن يؤذَّن بهما في دولتي أبيه وجده، وإنَّما كان يؤذَّن بحي على خير العمل؛ لأن شعار الرَّفض كان ظاهرًا.

وقد أنشأ المدارس لمحاربة الأفكار المنحرفة -وفي مقدمتها الفكر الشيعي- في كلٍّ من حلب ودمشق ومصر، ونصر المذهبَ السني، وعلى الرَّغم من أنه كان حنفيَّ المذهب إلا أنه أنشأ الكثير من المدارس للشافعية؛ تأكيدًا منه لعدم التعصُّب، وجهود أهل السنة من المذهب الشافعي المُسلَّحين بدراسة الجدل وعلم الكلام؛ ليُواجهوا الشيعة مواجهة فكرية.

لقد كان نور الدين يسعى لتحرير جميع أراضي المسلمين من يد الصَّليبيين، وخاصة بيت المقدس، وتطهير المنطقة منهم للأبد، وعلم نور الدين أنَّه لن يتأتي له ذلك إلا بتوحيد بلاد المسلمين لمواجهة العدو، وتخليص البلاد من الأمراء الخونة المتعاونين مع الصليبيِّين.

وكان من أكبر العوائق أمامه دمشق؛ إذ إنَّها البوابة الشرقية لبيت المقدس، وبضمها تتَّحد بلاد الشام تحت إمارة نور الدين، وقد ظلتْ عائقًا أمامه لحماية المدن الجنوبية مثل عسقلان، وبالفعل استطاع الصَّليبيون أن يحتلوها، وبذلك أصبح الطريق مفتوحًا أمامهم إلى مصر.

أدرك نورُ الدين أن اعتماد العنف سيستفز حكامها، ويدفعهم إلى مراسلة الصَّليبيِّين والاستعانة بهم، فعمَد إلى إعمال الحيلة والسياسة، فأخذ يُراسِل صاحبَها مجير الدين ويستميله ويبعث إليه بالهدايا الموصولة، ويظهر له المودة، حتى وَثِق به، وأخذ نور الدين يُكاتبه مشكِّكًا بنيات عدد من أمرائه، وأنَّهم بصدد الاتصال به ضد ملكهم، وذلك دفع مجير الدين إلى إبعاد واعتقال عددٍ من أبرز أصحابه، فلما خلتْ دمشق من زهرة أُمرائها، انتقل نورُ الدين خُطوةً أخرى، فاتصل بأحداث دمشق (أي: حَرَسها الشعبي) وجماهيرها واستمالهم، فأجابوه إلى تسليم البلد، وعند ذاك تقدم لحصار دمشق وتَمكَّن بمعونة أهلها أنفسِهم من دخولها بسهولة بالغة ودونما إراقة للدماء، فحقق

فحقق بذلك الهدف الكبير الذي طالما سعى له أبوه". اهـ الدولة الزنكية.

59

ومن أعظم فتوحات نور الدين أيضًا فتحُ مصر وتخليصها من الدولة الفاطمية العبيدية الإسماعيلية، التي نشرت الكُفْرَ والإلحاد مئات السنين بمصر، ولطالما تحالفت مع أعداء الأمة ضدَّها، كما كانت مصر هي البوابةَ الغربية لبيت المقدس.

وقد ضعفت الدولة الفاطمية فيها، وسادها حالةٌ من الفوضى، فطمع بها الصليبيون، وقاموا بحملات عليها، فهب نور الدين مُسرعًا إليها قبل أن يسبقه الصَّليبيون، وقام بهجومٍ مُكثَّف على حصونهم وقلاعهم؛ ليشغلهم عنها، وظل يرسل الحملات المتتابعة يقودها قائدُه المقرب أسد الدين شريكوه بصُحبة ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، واستطاع أسد الدين أن يدخل القاهرة، ويقتل الخائن شاور، الذي تَحالف مع الصليبيين مرارًا، ومنع أسد الدين من دخول مصر ثلاث مرات، وكان ذلك في السابع عشر من ربيع الآخر، عام 643هـ.

وبذلك اجتمع لنور الدين حكمُ مصر والشام، وأصبح يطوق الصَّليبيِّين من كل جهة، وراسل الخليفةَ العباسي مُبشِّرًا إياه بفتح مصر قائلاً: وبقيت مائتين وثمانين سنة ممنوعة بدعوة المبطلين، مملوءة بحزب الشياطين، حتى أَذِنَ الله لغُمَّتِها بالانفراج، وأقدمنا على ما كُنَّا نؤمله من إزالة الإلحاد والرَّفض، وتقدمنا إلى من اسْتَنَبْنَاهُ أن يستفتح باب السَّعادة، ويقيم الدعوة العباسية هنالك، ويورد الأدعياء ودُعاة الإلحاد بها المَهالك.

 وكانت عينُ البطل على بيت المقدس، وقد أمر أمهرَ الصُّنَّاع بصناعة منبر ما زال التاريخ يتحدَّث عنه؛ ليضعَه في المسجد الأقصى، ولكن وافتْه المنية يومَ الأربعاء الحادي عشر من شوَّال سنة تسع وستين وخمسمائة، ودفن بقلعة دمشق، ثُمَّ نقل إلى تربة تُجاور مدرسته التي بناها لأصحاب أبي حنيفة.

رحل البطل الجَسُور بعدما فتح الطريقَ إلى بيت المقدس، وقد فُتِحَت على يد أحد تلاميذه؛ صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله.

تلك هي سيرة الملوك العظماء، ملوك الإسلام، مَن عَلَّموا الدُّنيا معنى التجرُّد والعدل والإقدام، وتلك آثارهم شاهدة على صحة منهجهم، ففي عهدهم نُصِرَ الإسلام، وفُتحت البلاد، وارتاح العباد، ونُصرت السُّنة، وقُمعت البدعة، ولا يزالون يذكرون بالمجد وأطيب الثناء.

هذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

60

السُّلطان نور الدِّين والقبر النَّبوي الشَّريف

تحقيق تاريخي

للأستاذ إبراهيم عمر الزيبق- الألوكة

26/8/1435هـ - 24/6/2014م

ثمة أحداثٌ في التاريخ ترتبط أهميتها بأسماء أبطالها، وتكون تعبيرًا عما في ضمير الأمة من أشواقٍ أو هواجس، وإذا افتقد التاريخ أحياناً هذه الأحداث، فإن خيال الأمة يصطنعها اصطناعاً، ومع مرور الزمن يكتسب الحدث المتخيَّل قوة الواقع، بل يصير عند بعض الناس هو الواقع حقًّا.

من هذه الأحداث التي اتخذت هذا المنحى ما يُروى من أن نور الدين محمود بن زَنْكي رأى فيما يرى النائم النبيَّ صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات في ليلة واحدة، وهو يقول له: يا محمود، أنقذني من هذين الشخصين الأشقرين. ويُشير إلى شخصين تجاهه، فينتبه نورُ الدين من منامه، ويُخبر وزيره بذلك، فيقول له الوزير: هذا أمرٌ حَدَثَ في مدينة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليس له غيرك، فيتجهز نور الدين على عجل، ويخرج مع ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك، حتى يأتي المدينة، فيدخلها مع وزيره على غفلةٍ من أهلها، فيجلس في المسجد النبوي لا يدري ما يصنع، فيقول له الوزير: أتعرف الشخصين إذا رأيتهما؟ قال: نعم. فيطلب الناسَ عامة ليعطيهم الصدقة، ويفرِّق عليهم ذهباً كثيراً وفِضَّة، ويقول: لا يبقِين أحدٌ بالمدينة إلا جاء. فيجيء أهل المدينة كلُّهم، لم يتخلف عنهم إلا رجلان مجاوران من أهل الأندلس، نازلان في الناحية التي تلي قبلة حجرة النبي صلى الله عليه وسلم من خارج المسجد، فطلبهما نور الدين للصَّدَقَة، فامتنعا، وقالا: نحن في كفاية، ما نقبل شيئاً. فألحَّ في طلبهما، فجيء بهما، فلما وقعت عينه عليهما عرفهما، وقال للوزير: هما هذان، فسألهما عن حالهما وما جاء بهما؟ فقالا: جئنا من أجل مجاورة النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: اصدقاني الحديث، وتكرَّر السؤال حتى أفضى إلى معاقبتهما، فأقرَّا أنهما مع الفرنجة، وأنهما وصلا لكي ينقلا الجسد الشريف من الحجرة النبوية باتفاقٍ مع ملوكهم على ذلك، ووجدهما قد حفرا نَقْباً تحت الأرض باتجاه الحجرة الشريفة، وكانا يُهيلان التراب المتخلف عن الحفر في بئر البيت الذي يقيمان فيه. فأمر في الحال بضرب أعناقهما، ثم أحرِقا بالنار.

61

وحين هَمَّ بمغادرة المدينة عائداً إلى الشام، صاح به من كان نازلًا خارج السور من أهل المدينة، يستغيثون به، ويطلبون منه أن يبني لهم سوراً حول المدينة يحفظ أبناءهم، فأمر ببناء السور، فبني سنة (558هـ)، وكُتب اسم نور الدين على باب البقيع، رحمه الله.

هذه القصة ذاعت على كثير من الألسنة حتى غدت حقيقة مسلَّمة، تُذكر كلما ذُكرت مناقب نور الدين، والذي يقرؤها بإنعام نظرٍ وأناة يجدها مضطربة لا تتماسك أمام المنهج العلمي في تحليل الأخبار ونقدها، ولكن قبل أن نغوص في أعماقها دعونا نتساءل: كيف وصلت إلينا هذه القصة؟

إذا استعرضنا المصادر التي سأذكرها نراها تحيلنا في أغلبها على مصدر واحد استقت منه هذا الخبر، وأعني به "التعريف بما أَنْسَتِ الهجرة من معالم دار الهجرة" وهو كتابٌ ألفه أحد مؤذني المسجد النبوي هو محمد بن أحمد المَطَرِي، المتوفَّى سنة (741هـ)، وهذا يجعلنا نرجِّح أنه أول مصدر ذكر هذه القصة.

ونتساءل: من أين أتى المطريُّ بهذه القصة، وبين وفاته ووفاة نور الدين مئة واثنتان وسبعون سنة، وأين المعاصرون لنور الدين من هذه القصة؟

نجد بادئ ذي بدء أَنَّ المَطَريَّ يُصرِّح بمن سمع منه هذه القصة، فيقول: سمعتُها من الفقيه علم الدين يعقوب بن أبي بكر المحترق أبوه ليلة حريق المسجد، عمن حدَّثه من أكابر من أدرك.

ويعرِّفنا كذلك على راويها في موضع آخر من كتابه، فيقول: يعقوب بن أبي بكر بن أوحد، طالب علم من أولاد المجاورين بالمدينة، كان أبوه أبو بكر فَرَّاشاً من قوَّام المسجد الشريف، وهو الذي كان حريق المسجد الشريف على يديه، فاحترق وهو في حاصل المسجد ليلتئذٍ.

والحريق الذي يشير إليه المطري هو الذي وقع سنة (654هـ).

إذن هي قصة كانت شائعة في ذلك العصر، وقد حدَّث بها يعقوب عمن حدثه من أكابر من أدرك، وسمعها منه المطري فأثبتها في كتابه، وهذا إسناد مُسلسل بالمجاهيل، ولذلك لم يجزم المطري بصحتها، فقال في أواخرها: هكذا حدَّثني عمن حدثه!

62

ولكنَّ من أتى بعد المطري أخذ القصة ورواها نافيًا عنها أي ظل من الشك، بل زاد فيها بعض العبارات التي أكسبتها قوة اليقين، فالشك الذي لوَّح به المطري بقوله: هكذا حدثني عمن حدثه، تختفي عند من يأتي بعده، وقوله في إسنادها: عمن حدثه من أكابر من أدرك، تصبح عند بعضهم: عن مشايخ المدينة وعلمائها، بل إنهم - وقد ثبتت عندهم هذه القصة - يختلفون في تعيين الوزير الذي كان مع نور الدين: أهو جمال الدين الأصفهاني، أم الموفَّق القَيْسراني؟ بل يأخذ الأمر مداه حين يغيب التاريخ تمامًا، لتصبح الواقعة ضرباً من كرامات نور الدين، ودليلاً على ولايته.

ويأتي جمال الدين الإسنوي، المتوفَّى سنة (772هـ)، فيسوقها دون إسناد - وينقلها عنه السمهودي - مُضيفًا إلى القصة عناصر جديدة، فهو يجعل نور الدين بعد قتله الرجلين يحفر خندقًا حول الحجرة الشريفة، ويملؤه بالرَّصاص المُذاب.

هكذا انشغل بهذه القصة كل من أتى بعد المطري من المؤرخين، كالزين المراغي في "تحقيق النصرة" ص 146-147، وابن قاضي شهبة في ،"الدر الثمين في سيرة نور الدين" ص 72-73، والسمهودي في "وفاء الوفا" 2/650-651، وابن العماد في "شذرات الذهب" 4/230-231 والبرزنجي في "نزهة الناظرين" ص 83-84

مع أنه لم يذكرها كلُّ من أرَّخ لنور الدين ممن عاصره أو جاء بعده، فلم يذكرها الحافظ ابن عساكر مؤرِّخ دمشق، وهو الذي كان معجباً بنور الدين غاية الإعجاب، وإليه قدَّم تاريخه الكبير، وكذلك لم يذكرها العماد الكاتب وهو الذي لازم نور الدين ملازمة تامة، فقد كان كاتبه ورئيس ديوان الإنشاء عنده، وقد ألَّف كتاباً في أخباره سماه "البرق الشامي"، وكذلك لم يذكرها ابن منقذ في كتابه "الاعتبار" وهو الذي كان يتتبَّع فيما يكتب كل خبر طريف، وعاش بعد نور الدين نحو خمس عشرة سنة، بل لم يتناولها من أفرد لنور الدين كتاباً في سيرته، أو قسماً كبيراً من كتابه، كابن الأثير في كتابه "الباهر"، وهو الذي لا يخفي إعجابه بآل زَنْكي، وخاصة نور الدين، وكأبي شامة في كتابه "الروضتين"، وهو الحريص على تدوين كل منقبة له.

63

وهذا يعني أن القصة لم تكن معروفة في بلاد الشام - معقل نور الدين - حتى منتصف القرن السَّابع الهجري، أي في سنة (649هـ) وهي السنة التي فرغ فيها أبو شامة من تصنيف كتابه "الروضتين"، ولو كانت معروفة لربما ذكرها ونقدها، وإن كانت بدأت تشيع في تلك السنين نفسها في المدينة المنورة بين العامة، إذ إن يعقوب الذي سمع منه المطري ولد قبل سنة (654هـ) - وهي سنة وفاة والده كما سلف - وسمعها هو من أكابر من أدرك، يعني ممن عاش في منتصف القرن السَّابع.

وقد ظلت غير معروفة في بلاد الشام حتى زمن المطري نفسه، وهو منتصف القرن الثامن، إذ لم يشر إليها مؤرخ ذلك القرن الإمام الذهبي في كتابيه "سير أعلام النبلاء" و"تاريخ الإسلام"، وقد توفي بعد المطري بنحو سبع سنوات، وذلك سنة (748هـ)، بل لم يذكرها من تصدَّى لتاريخ المدينة، وهو ابن النجار المتوفى سنة (647هـ) في كتابه القيم "الدرة الثمينة في تاريخ المدينة".

هذا الإغفال لها من مؤرِّخين كبار يلقي بظلال من الشك على القصة، يزيده قوة أن نور الدين لم يزر المدينة في السنة التي ذكر المطري أن القصة وقعت فيها، وهي سنة (557هـ)، بل إن نور الدين لم يزر المدينة في أيٍّ من سني حكمه التي امتدَّت ما يقرب من ثلاثين عامًا، بل إنه لم يحجَّ أبدًا، فقد شغله جهاد الفرنج عن الحج كما شغل صلاح الدين من بعده، وما ذكره الفاسي في "شفاء الغرام2/229" من أن نور الدين حجَّ في سنة (556هـ) فهو وهم منه، إذ إن الذي حج في تلك السنة هو قائد جيشه أسد الدين شيركوه، وقد خرج نور الدين إلى لقائه يوم رجوعه، فيما ذكر أبو شامة في "الروضتين".

ثم إن في القصة اضطرابًا في متنها ونكارة، لم أدر كيف لم يتنبَّه له من رواها، فهو يقول: إن نور الدين تجهز على عجلٍ، وخرج ومعه ألف راحلة، وما يتبعها من خيل وغير ذلك، وهو عددٌ غير قليل لا بد أن يُحدث عند دخوله المدينة جلبة واهتماماً، ومع ذلك يقول: إنه دخل المدينة على غفلة من أهلها!

ويجلس في المسجد وكأنه عابر سبيل، وهو سلطان الشام وقتئذٍ، لا يدري حتى أمير المدينة به!

64

ويطلب أهلَ المدينة كلهم للصدقة، وكأنهم كلهم يستحقونها، ويحرق الرجلين بعد قتلهما، وهو عقابٌ منهيٌّ عنه شرعًا!

 وكأن الإسنوي في روايته حاول أن يخفف من بعض اضطرابها فذكر أن نور الدين خرج في رواحل خفيفة، في عشرين نفراً، وجعل التراب المتخلف عن الحفر، بدل أن يلقى في بئر البيت، يُذْهب به، فَيُلْقى بين القبور في البقيع.

ونتساءل حقًّا: ما الباعث على شيوع هذه القصة مع اضطرابها؟

يذكر المطري أن هذه القصة هي وراء بناء سور المدينة، وقد رأى اسم نور الدين على أحد أبوابه. ومن ثَمَّ يمكن أن يُلتقط الباعث على تأليف هذه القصة.

حقًّا إن نور الدين قد أكمل سور المدينة الذي بدأ بناءَهُ وزير الموصل جمال الدين الأصفهاني المتوفى سنة (559هـ)، وقد كتب اسم نور الدين على باب البقيع.. فربما أثارت كتابة اسمه فكرة مجيئه إلى المدينة، وهي فكرة لها ما يقويها من دليل مادي، ثم حدث بعد سنوات قليلة، وذلك سنة (578هـ) أن حاول الصليبيون الاستيلاء على المدينة المنورة، وقد أخفقت محاولتهم هذه بفضل يقظة صلاح الدين، وقد أشيع وقتها بين المسلمين أن الفرنجة كانوا يريدون نبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ونقل جسده الشريف إلى فلسطين، ودفنه هناك حتى لا يمكِّنوا المسلمين من زيارته إلا لقاء مالٍ يدفعونه لهم، فيما ذكر الرحالة ابن جبير في "رحلته" ص 60، والمقريزي في "خططه" 2/443 (طبعة دار التحرير)، فدمج الخيال الحدثين ليكشف عن هاجس أقلق بال المسلمين وقتئذٍ، وهو أن ما أخفق الصليبيون في تحقيقه في العلن سيحاولونه في الخفاء، فكانت هذه القصة، والله أعلم.

*مقالة نشرت في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، المجلد السابع والثمانون، الجزء الثاني، جمادى الآخرة 1433هـ/ نيسان 2012م.

65

الطيب أردوغان

على نهج نور الدين الزنكي في إدارة الكوارث والأزمات

بقلم د. علي محمد الصلابي

 

sdfdfd10499.jpg

 

تعتبر شخصية السلطان الزنكي نور الدين محمود (511 - 569هـ) من الشخصيات العظيمة في تاريخ الأمة الإسلامية، فقد سار على طريق الخلفاء الراشدين ونهج الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز في تطبيق العدل والإنصاف، واستطاع أن يقود مشروعاً نهضوياً للتصدي للفكر الباطني والمشروع الصليبي الغازي، وقدمت دولته نموذجاً في مقارعة الغزاة؛ اعتمد على الله عز وجل، والمرجعية الحضارية لأمة الإسلام.

كما اتصف نور الدين زنكي بصفات القيادة الربانية في العِلم والذكاء والشعور بالمسؤولية، ومخافة الله، وخدمة الناس، وإقامة المؤسسات الاجتماعية والدينية والسياسية والعسكرية والخدمية، ورفع راية أهل السُّنة في مفهومها العظيم، فدعم المدارس الفقهية التقليدية الشافعية والمالكية والحنفية والحنابلة، والتصوف السُّني، والأشاعرة، والمدارس السلفية، وذلك في سبيل التصدي للمخاطر الداخلية والخارجية، فكان من ثمار جهوده العظيمة تحرير مصر من هيمنة الدولة الفاطمية، ووضع أسس تحرير بيت المقدس من الصليبيين، وتم تحريرها في عهد خلفه وتلميذه القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي، والذي يعتبر أحد تلاميذه النجباء. وتعتبر سيرة نور الدين محمود زنكي مدرسةً ملهمةً لقادة الشعوب والأمم. ونستخرج من سجلات تاريخيه دوره في مواجهة الأزمات والكوارث التي نزلت بالعباد والبلاد في أيام حكمه.

ولقد كان تحرك السلطان نور الدين محمود زنكي (رحمه الله)، وفق سنن الله في دفع أقدار الله بأقدار الله، فحين كان القدر الإلهي في الابتلاء بالزلزال دفعه زنكي باتباع منهج الاستخلاف في البناء والتعمير، وترميم المساجد، والأماكن العامة في المناطق المنكوبة، ومساعدة المحتاجين والفقراء والمبتلين والمتضررين في زمانه، وهو ما شهدناه بعد زلزال تركيا المدمر الذي وقع يوم الاثنين في 15 رجب 1444ه/ 6 فبراير2023م، حين حضر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأركان دولته وطواقم حكومته بكل تخصصاتها، وذلك منذ اليوم الأول بين المواطنين المتضررين من أبناء شعبه في المناطق التي ضربها الزلزال في جنوبي تركيا؛ يضمدون الجراح، وينقذون الناس من تحت الأنقاض، ويحاولون تخفيف المخاطر والآثار التي خلّفها الزلزال، وبالتالي تجاوز هذا المصاب.

أولاً- تجربة نور الدين الزنكي الناجحة في إدارة الكوارث والأزمات:

قرأنا في كتب التاريخ والحضارة الإسلامية عن تجارب ناجحة، وأمثلة رائعة يضرب بها المثل، لقادة كبار حملوا رسالة التكليف وكان لهم دورهم في مواجهة الأزمات والكوارث الطبيعية، ومن هؤلاء القادة البارزين، السلطان العادل والقائدُ الكبير نور الدين محمود زنكي (سلطان العراق ومصر والشام).

اعتمد نور الدين محمود زنكي على الحلول العقلية ذات الطابع العلمي في مواجهة المشاكل والأحداث، واضعاً عينيه على التعامل مع سنة الأخذ بالأسباب. ففي عام 552هـ شهدت المناطق الوسطى والشمالية في بلاد الشام زلازلاً عنيفةً، تتابعت ضرباتها القاسية، فخرَّبت الكثير من القرى والمدن والمزارع والحصون، وأهلكت حشداً لا يُحصى من الناس، وتهدمت الأسوار والدور والقلاع، فما كان من السلطان نور الدين إلاَّ أن شمَّر عن ساعد الجدِّ، وبذل جهودا عظيمةً في إعادة إعمار ما تهدم، وتعزيز دفاعاته.

فعادت البلاد كأحسن مما كانت، ولولا أن الله منَّ على المسلمين بنور الدين، فجمع العساكر، وحفظ البلاد؛ لكان دخلها الفرنج بغير قتال ولا حصار (خليل، نور الدين الرجل والتجربة، 2020).

67

وفي عام 565هـ، ضُرِبَتْ مناطق الشام موجة أخرى من الزلازل، لم تقلَّ هولاً عن سابقتها، خرَّبت الكثير من المدن، وهدمت أسوارها وقلاعها، وسقطت الدور على أهلها، وهلك منهم ما يخرج عن الحدِّ والإحصاء، فلما بلغ الخبر نور الدين سار إلى بعلبك، لإعادة إعمار ما تهدَّم من أسوارها وقلعتها، ولم يجأر إلى الله بالشكوى، ويعلن أن الظلم قد فشا، وإن هذا عقاب الله فقط، أو إنه إشارات الساعة، وأنها قد لاحت في الأفق القريب، وإنما دعا الله تعالى أن يُعينه على تأدية الواجب في خدمة عباده المستضعفين والمكلومين، وإعادة الإعمار في الأرض، وتنفيذ المهام المنوطة به كحاكم بين الناس بعد التوكل على الله، وبهمة وعزيمة وإرادة صلبة.

وعندما وصل نور الدين (رحمه الله) مدينة بعلبك أتاه خبر دمار باقي البلاد، وهلاك كثير من أهليها، فرتَّب في بعلبك من يحميها ويعمرها، وانطلق إلى حمص ففعل مثل ذلك، ومنها إلى حماة، فبعرين.

وكان شديد الحذر على سائر البلاد من الفرنج، لا سيما قلعة بعرين فإنها مع قربها منهم لم يبق من سورها شيء البتة، فجعل فيها طائفة صالحة من العسكر مع أمير كبير، ووكل بالعمارة من يحث عليها ليلاً ونهاراً. ثم أتى مدينة حلب، فلما شاهد ما صنعته الزلازل بها، وبأهلها؛ أقام فيها وباشر عمارتها بنفسه، وكان هو يقف على استعمال الفعلة والبنائين، ولم يزل كذلك حتى أحكم أسوار جميع البلاد، وجوامعها، وأخرج من المال ما لا يقدَّر قدره (خليل، نور الدين الرجل والتجربة، 2020).

إنَّ الكوارث، التي يبتلي الله بها عباده، تأتي بمثابة تحديات دائمة، تستفزُّ الجماعات البشرية وقياداتها إلى المزيد من الوعي والإنجاز، وإن الاستجابة لهذه التحديات هي التي تقود الأمم والتجارب السياسية والحضارات خطوات إلى الأمام. والعجز عنها هو الذي يربك مسيرتها، ويصيبها بالعجز والشلل والجمود، أما نور الدين فقد اختار الموقف الأول، وأعاد إعمار ما هدمته الكوارث بسرعة مدهشة، وواصل الطريق (خليل، نور الدين الرجل والتجربة، 2020).

ثمة حادثة أخرى ذات دلالة واضحة في هذا المجال؛ كانت في الموصل خرابة واسعة في وسط البلد أشيع عنها: أنه ما شرع أحدٌ في عمارتها إلاَّ

من ذهب عمره؛ ولم يتم على مراد أمره. فأشار الشيخ عمر الملاء أحد صالحي المدينة، وشيوخها الورعين بابتياعها، وبناء جامع كبير فيها، تقام فيه الصلوات، وتخطب الجمع، وتدرس العلوم، ففعل نور الدين، وأنفق فيه أموالاً كثيرةً.

وعلَّق الدكتور عماد الدين صاحب كتاب (نور الدين محمود الرجل والتجربة) على هذه الحادثة، فقال: "لم يضرب نور الدين الخرافة، والشائعة بالكلمة، ولكنه ضربها بالفعل، وبالإنجاز، وزالت الخرافة"، ولكن المسجد الكبير الذي بناه على أنقاضها ظلَّ حتى اليوم يستقبل مئات المتعبدين والدارسين (خليل، نور الدين الرجل والتجربة، 2020).

ثانيًا- قيادة الطيب أردوغان وحنكته في مواجهة آثار الزلزال المدمر:

أصاب الزلزال المدمر مناطق واسعة في جنوب تركيا وشمال سورية، بقوة زلزالية عالية قُدرت بـ 7.8 على مقياس ريختر، بالإضافة إلى أكثر من 6500 هزة ارتدادية بمعدل هزة كل 3 إلى 5 دقائق منذ وقوع الزلزال الأول؛ خلفت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى، والملايين ممن تعرضت بيوتهم لدمار وخراب كبيرين. واللافت أن هذه المناطق المنكوبة تقع ضمن نطاق ما يُعرف بـــ “فالق شرق الأناضول”، وهي منطقة حدود تكتونية بين صفيحتين من صفائح القشرة الأرضية هما؛ صفيحة الأناضول، والصفيحة العربية (أيوب، منتديات الجزيرة، 2023).

ووسط هذه الأهوال والمصاب الكبير، شاهد العالم الحضور الكبير والاستجابة الفورية من الحكومة التركية التي استجابت لنداء سكان الولايات التركية الذين أصيبوا بهذه الكارثة الكبيرة، فصرح الرئيس أردوغان فجر الاثنين يوم الزلزال أنّ كافة الوحدات المعنية التابعة للدولة في حالة تأهب قصوى برًّا وبحرًا وجوًّا، وبدأت بأداء مهامها وعملها تحت إشراف إدارة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد).

وأوضح أنّ وزارتي الصحة والداخلية وإدارة الكوارث (آفاد)، وإدارات الولايات وكافة المؤسسات الأخرى، بدأت أعمالها على وجه السرعة.

وأعلن على الفور حالة الطوارئ القصوى التي تستدعي المساعدة الإنسانية الدولية، وبدأ الدعم يتوافد من عشرات الدول بما فيها خصوم تركيا؛

اليونانيين والأرمن وغيرهم.

وخلال الأسبوعين الماضيين، وبإشراف غرفة عمليات القيادة العليا في الدولة التركية التي يرأسها الطيب أردوغان، كانت جهود الإغاثة ورفع الأنقاض وجسور الإغاثة ونقل المصابين، والطواقم الإسعافية الطبية، والفرق العسكرية، وخبراء الكوارث يتابعون ويبحثون ضمن دائرة الزلزال ويحاولون إنقاذ أكبر عدد من الناجين من تحت الأنقاض، وتقديم العون الفوري للمتضررين من رعاية طبية ومواد غذائية، وتأمين أماكن إيواء مؤقتة لهم. ولم تخل هذه المرحلة من صعوبات لوجستية بفعل الحجم الكبير للأضرار والاحتياجات الإنسانية الكبيرة والظروف الطبيعية السيئة التي عقّدت جهود الإغاثة، لكنّ المرحلة الثانية من الاستجابة كانت محورية وحاسمة في جهود التعافي السريع والانتقال لمرحلة التحكم بالأزمة إلى حد كبير.

وبتصريحات ميدانية يومية من مناطق الزلزال في كهرمان ماراش وأورفا وأضنة وعينتاب وأنطاكيا والعثمانية وملاطيه وألازيغ، كان يعلن الرئيس الطيب أردوغان بأن تركيا ستتجاوز كارثة الزلزال في أسرع وقت، وأعلن عن عملية البدء بخطط إعمار المدن المتضررة، وخطط التعويض والدعم المادي للمواطنين المتضررين، فصرَّح بأنّ الحكومة ستشرع ببناء بيوتٍ لنحو 270 ألف أسرة في المدن والأرياف في 11 ولاية متضررة من كارثة الزلزال بداية من مارس 2023م. وذكر في تصريحات له عقب تفقّده مدينة منازل مسبقة الصنع لإيواء المتضررين من الزلزال بولاية غازي عنتاب في جنوب البلاد، كما أشار إلى أنه سيتم بناء تسعة آلاف منزلاً ريفياً مع ملحقاتها في قرى غازي عنتاب، وبأنه سيتم إعادة تحديد الأرقام بدقة متناهية ومتابعة مستمرة، خلال الأشهر المقبلة، بحسب التقييمات في جميع الولايات التي تعرضت للزلزال.

وللطيب أردوغان في مسيرته السياسية الحافلة، وقيادته المتميزة، بالتعامل مع الكوارث والأزمات السياسية والأمنية والطبيعية، والتعافي منها، بتوفيق الله وفضله، تاريخ حافل بالإنجازات والمآثر.

ومع أن الكارثة الأخيرة تُعدُّ أكبر تحدٍ لحكومته وإدارته، من حيث الخسائر البشرية، وأضرارها المادية وتداعياتها الصحية والنفسية والأمنية، والتي

طالت مساحة تقدر ب 500 كيلو متر مربع، وهي تشكل نحو 10% من الناتج الإجمالي المحلي، كما أن ما يقرب من 20 مليون شخص تضرروا من الزلزال، ولكنها في الوقت نفسه كشفت حقيقة الجهود والتنظيم والمتابعة من شخص الرئيس الطيب أردوغان نفسه، وقد تكاتفت وراءه جهود شعبية ومؤسساتية وطواقم وطنية بكل عناصرها، وقدمت ولا تزال تقدم عملاً نوعيًّا لن ينساه التاريخ التركي والتاريخ الإنساني المعاصر. كما أن اللافت هو حجم التضامن والتعبئة الهائلة للشعب التركي، والذي أظهر أمثلة من التضحية والتضامن والوحدة في ظل هذه الظروف الحالية الحرجة، مسانداً لحكومته في هذا المصاب الوطني الكبير.

ليس جديدًا على القيادة التركية، - وعلى رأسها الطيب أردوغان- هذا الجهد والتنظيم والتخطيط في تجاوز تبعات الزلزال الكارثية، فالتجارب التي خاضتها تركيا كبيرة في مد يد العون للشعوب المصابة، فلم تتوقف حملات المساعدة للحكومة وللشعب التركي في مراحل الحروب والكوارث التي عاشتها البوسنة وفلسطين والصومال واليمن والسودان وليبيا وباكستان وكشمير واليابان وهايتي وأمريكا وسورية طيلة السنوات الماضية.

إن النماذج الناجحة في قيادة الشعوب بحكمة وحيوية وهمة وتخطيط وإيمان مثلتها شخصية السلطان نور الدين محمود زنكي في زمانه، والرئيس الطيب أردوغان في الوقت الراهن، وهو المعروف عند الشعب التركي وشعوب العالم وحكوماتها، بأنه إذا وعد وفى، ونال احترام شعبه وشعوب العالم بمواقفه الإنسانية وجرأته النادرة، وإقدامه في قول الحق، ووفائه بوعوده، واكتسب مصداقيته بأفعاله ومواقفه لا بأقواله وتصريحاته فحسب، مع إيمانه العميق بأقدار الله، وهمته العالية في الأخذ بأسباب البناء والتمكين، وهذه لها كانت أسباب كفيلة في تخفيف الآثار، وتوفير الأمن والأمان، وهذا ما نتمناه لتركيا وسورية وجميع بلاد المسلمين التي تعيش الضيق والمصاب، بأن يتلطف الله بها، ويحفظ أهلها، ويرحم موتاهم، ويُعافي جريحهم، ويَجبر كسرهم، ويُفرج كربهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

"منتدى العلماء" - السبت 5/شعبان/1444هـ - 25/2/2023م 

71

المراجع

*أولا- الكتب:

1- "الموسوعة القرآنية الميسرة". ومعها "التفسير الوجيز" لمجموعة مؤلفين منهم شيخنا د. وهبة الزحيلي رحمه الله، ط10، دار الفكر - دمشق، 1432هـ- 2011م.

2- "الأعلام". لخير الدين الزركلي ت 1396هـ، ط15، دار العلم للملايين - بيروت، 2002م.

3- "تهذيب سير أعلام النبلاء للذهبي". لأحمد فايز الحمصي، ط1، مؤسسة الرسالة - بيروت، 1412هـ - 1991م.

4- "سير أعلام النبلاء". للإمام الذهبي ت 748هـ، ط1، مؤسسة الرسالة -بيروت، 1422هـ- 2001م.

5- "معجم أعلام المورد". للأستاذ منير البعلبكي، ط1، دار العلم للملايين - بيروت، 1992م.

6- "معجم متن اللغة". للشيخ أحمد رضا العاملي ت 1953م، ط1، دار مكتبة الحياة - بيروت، 1378هـ - 1958م.

7- "المعجم الوسيط". لنخبة باحثين ولغويين مصريين، ط2، "مجمع اللغة العربية"- القاهرة، 1392هـ- 1972م.

8- "المؤسسات التعليمية في عهد نور الدين محمود وأثرها في عملية الإصلاح"- (المدارس أنمُوذَجًا). بحث علمي في 28ص، للباحث أ. م. د. نور سعد مُحسن البياتي، ديوان الوقف السني، مركز البحوث والدراسات الإسلامية - العراق، 2019م، منشور في "مجلة البحوث والدراسات الإسلامية" العدد (58).

9- "الموسوعة العربية الميسر". لنخبة باحثين مصريين بإشراف د. محمد شفيق الغربال، ط 2، دار نهضة لبنان- بيروت، 1407هـ - 1987م.

10- "معلوماتي الشخصية".

*ثانيا- مواقع الشابكة:

أ- موقع "إسلام ويب":

1- كتاب: "سير أعلام النبلاء للذهبي"، ط 1، مؤسسة الرسالة - بيروت، 1422هـ - 2001م.

72

ب- موقع "الألوكة"

2- مقالة فيها بعنوان: "السلطان نور الدين الشهيد محمود بن زنكي حامل راية تحرير القدس الشريف"، لشيخنا المؤرخ الدمشقي د. محمد مطيع الحافظ، منشورة بتاريخ 18/10/1436هـ - 3/8/2015م.

3- ومقالة أخرى فيها بعنوان: "نور الدين الشهيد رائد توحيد الأمة الإسلامية لفتح القدس" د. أحمد الخاني، نشرت في 18/9/1434هـ - 25/7/2013م.

4- مقالة أخرى فيها بعنوان: "سادس الخلفاء الراشدين نور الدين زنكي"

للأستاذ إيهاب إبراهيم - الألوكة 13/9/1433هـ - 31/7/2012م.

5- ومقالة رابعة فيها بعنوان "السُّلطان نور الدِّين والقبر النَّبوي الشَّريف، تحقيق تاريخي" للأستاذ إبراهيم عمر الزيبق- نشرت بتاريخ 26/8/1435هـ - 24/6/2014م.

ب- "الموقع الرسمي لـ د. طارق السويدان":

6- مقالة وترجمة "الملك العادل نور الدين الزنكي- باني الوحدة الإسلامية" لـ د. طارق السويدان، في "موقعه الرسمي" نشر في 27/2/2022م.

ج- "منتدى العلماء":

7- مقالة "الطيب أردوغان على نهج نور الدين الزنكي في إدارة الكوارث والأزمات"، لـ د. علي محمد الصلابي، في "منتدى العلماء" - السبت 5/شعبان/1444هـ - 25/2/2023م.

د- "الموقع الرسمي للدكتور عماد الدين خليل".

هـ- "المكتبة الوقفية".

وسوم: العدد 1049