من النشاط الدعوي للأستاذ محمد فتح الله كولن

المخيمات التربوية للطلاب

حازم ناظم فاضل

[email protected]

صيف عام 1968م، لم يكن فصلاً عادياً في حياة الدعوة الإسلامية بتركيا.. فقد شهد أول خطوة في اتجاه تأسيس المخيمات الإسلامية. كانت المشكلة الأولى آنذاك هي قضية التمويل. تذكر «فتح الله» أن الجيش كان قد استدان من الناس مبالغ كثيرة من المال، جمعها بُعَيد الانقلاب العسكري الذي تم في 27 مايو/أيار 1960، وأعطى مقابلها سنَدات أو شِيكات يمكن صرفها في خزائن الدولة في آجالها.

فرحل «فتح الله» إلى إزمير والتقى ببعض معارفه فيها وحدثهم عن المشروع فاستطاع أن يجمع نحو 3000 ليرة من سندات الديون. فعاد بها إلى إزمير، ثم أعطى تلك السندات لجمعية «كستانة بازاري» فحولوها إلى نقود.

 ثم شرع «فتح الله» مباشرة في استصناع الخيم (1). حتى إذا تم ذلك بدأ مع إخوانه في تنظيم مخيمات تربوية للطلاب، هنالك في أعالي الجبال، ووسط الغابات البعيدة.

كانت مخيمات ذلك العهد من أهم ما يذكره الأستاذ «فتح الله» ويتذكره في عمله الدعوي.. فقد كان لها من الأثر الكبير على الشباب ما لا ينساه أحد مر بمعسكراتها التربوية. كان يتم تكوين الطلبة فيها وتزويدهم بالحقائق الإيمانية والدعوية ما لا يتلقونه في العام الدراسي كله.

دامت مخيمات تلك المرحلة ثلاث سنوات متتالية. وكان على رأس الداعمين المخلصين لتلك المخيمات رئيس جمعية «كستانة بازاري» السيد «علِي رِضا  كُوَن»(2).

كان الشباب يستيقظون كل سَحَرٍ، لأداء صلاة التهجد والذكر والدعاء حتى يؤذِن الفجر. فإذا صلى الشباب صلاة الصبح تحلقوا بمجالس الذكر ينتظرون شروق الشمس لأداء ركعتين (3).

وخلال أطراف النهار، يتوزعون على مهامهم بحيوية ونشاط، وكانوا ينظمون رحلات بالمشي على الأقدام إلى بعض القرى، أو إلى بعض منابع المياه، ولاكتشاف بعض المرتفعات أو الأدغال (4)..

وكان أهل القرى يحبونهم كثيراً، ويبالغون في خدمتهم وإكرامهم. وربما نظموا مسيرة ليلية بين الأشجار. كما لم يفتهم حظهم من التدريب الرياضي، بأساليب شتى، كالمصارعة، والعدو، والتسلق، وسائر ضروب السباق..

فبقدر ما كانت تلك اللحظات الروحية الصافية فرصة لتلقي علوم الماضي وجهاد الأجداد؛ فقد كانت فرصة أيضاً لقراءة خرائط المستقبل، وتلقي خطواته من برزخ الإخلاص والمدد الإلهي (5) !..

فليس غريباً إذن أن تكون أيام تلك المخيمات في وجدان «فتح الله» أروع لحظات عمره المبارك، إلى درجة أنه ود لو أتيح له أن يحمل معه إلى الآخرة باقةً من ذكرى تلك المخيمات الجميلة (6)!

ولقد أدرك «فتح الله» معاينة ما لمسلك التخييم في الدعوة والتربية من أثر بليغ في إعداد الجيل، وتخريج الطاقات، واكتشاف المواهب والعبقريات، وصناعة الشخصية القيادية، والجندية المخلصة، وطبع ذلك كله بطابع الربانية.

رغم أن المخيم الأول كان أثقل على «فتح الله» من حيث المشقة والجهد، إلا أن أيامه كانت أحب الذكريات إلى قلبه (7) !..

 كان فيه خيمتان كبيرتان للطلبة، وأخرى صغيرة خاصة به. وكان هناك مبنى صغير استعملوه مطبخاً. وكان «علي رِضا» يخدمهم بدرّاجته النارية. كانت الإمكانات والوسائل محدودة جداً. كانت العاصفة تهب بالليل أحياناً؛ فكان الطلبة يشكلون مجموعات ويلتفون بالحُصُرِ، ثم يجلسون خلفها لتدارس الكتب المقررة في المخيم.

كانت أشغال المخيم الأول كلها تقريباً على عاتق الاستاذ «فتح الله»، من نصب الخيم، إلى التدريس، إلى إعداد الطعام إلى إصلاح ما تعطل من الآلات والأدوات(8)! كان أحياناً يصنع مُحَلَّبِيّة ويوزعها بيده على الشباب. كان يجلس على كرسي ويضع أمامه قِدرَ المحَلَّبِيّة، ويأخذ بيده مغرفة كبيرة، ثم يصطفّ الطلبة بين يديه، كل واحد يحمل قدحه، فيغرف الأستاذ لكلِّ مَن وصله الدور نصيبه من المحلبية، ثم يمازحه بسرور بالغ، ويقول بصوت عال: «مغرفة من الحليب، فصَلِّ على الحبيب!».

كان مُوَلِّدُ الكهرباء قديماً، وكان يحتاج إلى إصلاح يومي، فكان الاستاذ «فتح الله» هو الذي يتولى تلك المهمة؛ حتى كان يصبح مختصاً في إصلاح الْمُوَلِّدَاتِ الكهربائية؛ لكثرة ما عانى في إصلاح مُوَلِّدِ كهرباء المخيم. غار ماء البئر قليلاً فشعر بأنه في حاجة إلى زيادة حفر، فتولى تلك المهمة أيضاً بنفسه (9).

بنى مراحيض المخيم، وصنع حفرها بنفسه (10). وليس ينسى الذين شهدوا الأستاذ «فتح الله» وهو يحفر بفأسه مكان المراحيض، كيف أن أحد الطلبة المبتدئين، كان واقفاً عند رأسه يتفرج عليه وهو يحفر حفرة المرحاض، فكان الطالب يشير على الأستاذ قائلاً: «يا أستاذ احفر هناك أيضاً!» فيجيبه الأستاذ بحبور: «نعم! نعم!» ثم يقول الطالب مرة أخرى: «وهنا أيضا!» فيجيبه: «تماماً .. تماماً!» فيتوجه بالفأس إلى حيث أشار تلميذه! كان الأستاذ يتلذذ بالحفر هناك من أجل أن تخرج ينابيع الماء الصافي في الزمن الآتي، ويجد من ضربات الفأس في يده ما لا يدركه الطالب المتربع على راحته فوق رأس أستاذه (11).

بسبب انعدام من يحسن سياقة السيارات هناك كان «فتح الله» مضطراً للسياقة.. مرة كان يسوق حافلة صغيرة استعاروها من إدارة الإفتاء لنقل الطلبة من مدينة «بوجا» إلى مركز المخيم، فانقلبت به في أحد المنعطفات الوعرة. وليس يدري إلى الآن كيف خرج منها سَالِماً. فقد أصيبت مقدمتها بأضرار بليغة، وقد كلف إصلاحها نحو أربعة آلاف ليرة. أما الطلاب فإنما أصيب بعضهم بجراح متفاوتة. كان من بين الذين أصيبوا «ساجد» ابن السيد مولود سكرتير المفتي، فقد أصيب بكسر في رأسه وسال منه دم كثير. أخبر «فتح الله» والده على الفور عبر الهاتف فكان أن أجابه بما ليس ينساه في حياته أبداً، قال: «فداك ابني ومئات مثله إذا كنت أنت بخير..!» (12) .

في السنة الثالثة اشترى الإخوة سيارة، وكان «فتح الله» يستعملها لنقل الطلبة إلى المخيم أيضاً، ولخدمات أخرى تهم مصالح المخيم. مرة كان ذاهبا إلى «بُوجَا» لأخذ الطلبة الجامعيِّين إلى المخيَّم، كان يركب إلى جانبه السيد «عيسى سراج»، وبدأ «فتح الله» يحاول تشغيل شريط القرآن في مسجلة السيارة، فلم يشعر إلا وقد انفلت المقود من يده، وانقلبت بهما السيارة، لكن الله سلّم فلم يصب أحدهما بشيء.. لكن السيارة تضررت، فكلف إصلاحها مصاريف بليغة مرة أخرى (13). عندما شغل «فتح الله» مسجل السيارة بعد ذلك وجده قد التقط صوت الحادث وصدى استغاثة صدرت من «فتح الله»: «يا الله..!» فبكى «فتح الله» لذلك، وقال لصديقه: لما زلقت قدم بديع الزمان يوماً في سطح برج عال نادى ربه: « وَادَعوَتَاهُ..!» فما أهمه عند مشاهدة خطر الموت سوى أمر دعوته إلى الله! أما أنا فقد أهمتني نفسي!»..

كانت أيام المخيم كلها مسرات، وكانت مشقته كلها متعاً ولذات! ولذلك فما كان «فتح الله» يغادر رباطه ذاك طيلة ثلاثة أشهر إلا لأداء درس الجمعة في مدينة إزمير، ثم يعود مباشرةً إلى مخيمه الحبيب (14)!

  

 

زُوَّارُ المخيم كلهم انبهروا بنظامه البديع، ومسلكه الرفيع. فقد تردد على المخيم الأول السيد «علي رضا كوَن»، وقدَّم له خدمات كثيرة، والتاجر «الحاج أحمد تَتَارِي»، والسيد «مصطفى بِيرلِيك» وكذلك الداعيان الكبيران تلميذا بديع الزمان النورسي الشهيران؛ السيد «خلوصي يحيى كيل»(15) و«مصطفى صونغور»(16). كما وزار المخيم إمام الحرمين الشريفين العالم الجليل «محمد مخدوم»(17) والذي اندهش أمام هذا المشهد الإسلامي البديع وصرح قائلاً:« إن مثل هذا الجو المعنوي لا يمكن أن يحصل في أي مكان من العالم وفي أي وقت كان فحتى الجو المعنوي للحرم الشريف تفتقر لمثل هذا الجو فهي مماثلة لعصر السعادة النبوية. فأنتم تعيشون عصر السعادة في هذه الأيام» (18).

ومن ثم اشتهر أمر المخيمات بإزمير، وشاع خبره بين صفوف أبناء الدعوة الإسلامية بكل تركيا، حتى إن منهم من أرسل طلبته من أقصى الشرق التركي، وإزمير في أقصى الغرب التركي. فقد جاء طلبة من مدينة «أُورفَه»، ومن محافظة «دِيَاربَكر»(19). وعلى أثر ذلك تناسلت المخيمات الإيمانية في كل الربوع التركي، ما بين بحارها وجبالها، وغاباتها البرية الجميلة. كان عدد الطلاب في المخيم الأول مائة طالب، ثم بلغ العدد في السنة الثانية مائتين، وفي الثالثة ثلاثمائة. في هذه السنة قل الماء في المخيم، فكان فتح الله يضطر لنقل الماء بالسيارة من مكان بعيد مع التزامه بمهمة التدريس والتأطير التربوي.

كانت البرامج تنبني على الإعداد الروحي والتزكية الإيمانية من جهة، وعلى التكوين العلمي والتدريب على القراءة، خاصة فيما يتعلق بمواجهة الفكر الإلحادي، الذي كان يغزو تركيا آنذاك بشراسة، وكل العالم الإسلامي. كما كان هناك برنامج يومي للتدريب الرياضي الجسماني. ذلك أن فتح الله أقام نسيج مخيماته على ثلاثة مناسج:

أولها : التكوين العلمي.

ثانيها: التزكية الروحية.

الثالث: الانضباط العسكري.

وكان في ذلك من التوازن التربوي ما لم يُعرَف له مثيل بتركيا في تلك المرحلة. ومن ثم فقد كان لهذا التكوين الشمولي أثره البالغ في إضعاف موجة الالحاد في البلاد بما خرَّج من الطاقات الإيمانية الفعالة، وما بث منها في كل منطقةٍ وقِطَاع.

               

Küçük dünyam, S.105. (1)

 Küçük dünyam, S.117. (2)

Himmeti milleti olan insan, S.78. (3)

Küçük dünyam, S.117. (4)  

M.F.Gülen , Sızıntı Derğisim, Kamplarda Zaman. (5)

 Küçük dünyam, S.117. (6)

Himmeti milleti olan insan, S.76. (7)

  Gurbetteki öğretmen, S.84. (8)

Himmeti milleti olan insan, S.76. (9)

Himmeti milleti olan insan, S.76. (10)

Küçük dünyam, S.124. (11)  

Küçük dünyam, S.125. (12)

 Küçük dünyam, S.125-126. (13)

Himmeti milleti olan insan, S.77. (14)  

(15) خلوصي يحيى كيل : من السابقين الذين تتلمذوا على الأستاذ النورسي في "بارلا" وكان حينئذ ضابطاً برتبة نقيب،وأصبح طالباً للاستاذفي 14/ 4/ 1929 كان يبعث الى استاذه اسئلته وما يستفسر منه من امور ايمانية. جمعت هذه الاجوبة بتوجيه الأستاذ نفسه وسميّت بـ (مكتوبات). توفي سنة 1986 عن 91 سنة من العمر، رحمه الله رحمة واسعة.

 (16) مصطفى صونغور :من مواليد 1929 في أفلاني،خريج معهد ريفي في كولكوي التابع الى قسطموني ، من اقرب طلاب بديع الزمان سعيد النورسي اليه ومن القائمين بخدمته .( الشهود الاواخر ج4 ص5 )

(17) سألت الاستاذ محمد قرقنجي عن الشيخ محمد مخدوم  فلم يتذكره ،وتدخل الاستاذ محمد فرنجي قائلاً : انه تركستاني الاصل ، اتى الى اسطنبول ، واني شخصياً أخذته الى زيارة المخيمات . ( في لقاء شخصي معهما بتاريخ 27/ 8 /2012 ) .  

Gurbetteki öğretmen, S.84. (18) 

 Küçük dünyam, S.122. (19)