لماذا لم يتزوج الأستاذ محمد فتح الله كولن ؟!

لماذا لم يتزوج

الأستاذ محمد فتح الله كولن ؟!

حازم ناظم فاضل

[email protected]

الزواج شيء فطري للإنسان

يرى الأستاذ «فتح الله» بان الزواج شيء فطري للإنسان. وأهم هدف لهذه الوظيفة الفطرية هو التناسل (1) ،واذا  كانت  فائدة الزواج بالنسبة للفرد فائدة واحدة. ففوائدها للأمة جمة، لذا فان أضرار عدم الزواج عديدة، مثله في ذلك مثل الزواج الفاشل حيث تصبح الفتاة بائسة والشاب ضائعاً. وهو مرض ينخر في جسد الأمة كالكوليرا (2).

الأستاذ فتح الله من علماء المحنة

كما أن الزواج قَدَرٌ فإن العزوبة أيضا قَدَرٌ! ورغم أنه ليس من الواجبات العينية في الدين؛ إلا أنه سنة الله في الخلق أجمعين، وشرعة نبينا محمد سيد المرسلين، عليه أزكى الصلاة والتسليم. وللفقهاء فيه تفصيل وتأصيل.

 وتَركُ الزواج - بقصد الزهد والتعبد- خروجٌ عن فَلَكِ السير النبوي إلى الله، ورهبانية ما أنزل الله بها من سلطان. ورغم ذلك فكثير من علماء الأمة الكبار لم يتزوجوا، حتى اشتهروا بلقب «العلماء العزاب» (3) والمقاصد لها تأثير في الأحكام. والحقيقة أنما هم «علماء المحنة!» فأغلبهم كان تفضيله للعزوبة راجعاً إلى طبيعة الزمان الذي عاشوا فيه، أو إلى طبيعة المهمة التي تحملوها، أو إليهما معاً. فقد مضى على الأمة حينٌ من الدهر كانت في حاجة إلى بناء أركان العلوم، فتفرغ لها علماء مخلصون، أسهروا عيونهم في تسويد المجلدات بالليالي الطوال، وأرهقوا أقدامهم سيراً في رحلات الطلب، وخاطروا بعبور أهوال المفاوز والقفار من أجل جمع تراث الأمة وحفظ ذاكرتها! فلم يزالوا يفنون أعمارهم ما بين جهاد وتصنيف حتى ما بقي للزواج في حياتهم وقت ولا نصيب! وعلى هذا الطريق ارتفعت أعلامُ أئمةٍ كبار من العلماء العزاب، كشيخ المفسرين أبي جعفر الطبري(ت310هـ)، والإمام الزمخشري (ت538هـ)، والإمام النووي(ت676هـ).

ثم جاءت أزمنة المحن! فدشنها الإمام ابن تيمية(ت728هـ) -وهو الفقيه الحنبلي - بالتزام عزوبة قهرية! وأنّى له أن يتزوج في ظلمات السجون، أو في متاهات المنافي؟ ولم يكن له في حياته قيد شبر من الوقت لاتخاذ سكن مريح!

وكيف يتزوج بديع الزمان سعيد النورسي في زمن المشانق والمحارق؟ كيف؟ وقد كان قَدَرُهُ أن يعيش طريداً شريداً بين شواهق الجبال مع الأوابد!

وعلى معالم الطريق جاء «صاحب تفسير الظلال» سيد قطب رحمه الله !

فأبى أن يتيح للطغاة نقطة ضعف واحدة -وهو الشاعر الحساس!- يطوون فيها ذراعه!

فما اتخذ زوجة يهتك عرضَها الزبانية، ولا بنات يخطف براءتَهن الوحوشُ الكواسر! وخرج إليهم وحده حاسر الرأس يقاتل بالكلمة الملتهبة حتى الشهادة! (4).

أنا مربوط القدمين بدعوة الإيمان

عندما عاد الاستاذ «فتح الله» إلى أرضروم بعد تسريحه من الخدمة العسكرية، تحامت عليه الأسرة: أبوه وأمه وعمه «أنور» وأخته الكبرى، كلهم يلحُّون عليه بترك حياة العزوبة، والدخول في قفص الزواج!

كل منهم جعل يستدلّ له بأدلته على ضرورة الزواج!

لكن أحداً منهم لم يستطع إقناعه تغيير موقفه الحاسم!

أما والدته فقد قالت له معبرة بالمثل التركي:

«يا بني إننا نريد أن نربط رأسك، ونحن ما نزال على قيد الحياة» فأجابها:

 «يا أماه أنا مربوط القدمين بدعوة الإيمان وخدمة الإسلام، فإذا ربطتم رأسي أيضا فكيف أتحرك؟» (5).

والحقيقة أن أسف الأسرة كان بليغاً! فقد كانت محبة «فتح الله» شجرة خضراء تضرب بجذورها الرطبة في قلوبهم جميعاً! وفي الأخير قال له عمه:

 «تدبر ما تقول يا فتح الله! إننا الآن نلح عليك بالزواج إلحاحاً، وأنت في الثانية والعشرين من عمرك، ولعلك ستتلقى إلحاحاً مثل هذا عند بلوغك الثلاثين! لكن كن على يقين يا فتح الله! فإنك لن تتلقى -بعد ذلك- طلبا مثل هذا في حياتك!» (6) .

ولقد صدق عمه! فعند بلوغه الثلاثين بالضبط -وكان آنئذ في مدينة إزمير- جاءه الأستاذ «يَشَار طوناكور» يعرض عليه الزواج من فتاة اختارها له بنفسه، فلما اعتذر بأنه لا يفكر في الزواج أصلاً؛ ألح عليه الأستاذ إلحاحاً! فوجد نفسه مضطراً لرد طلب أستاذه المحبوب برفق لا يخلو من قوة وصرامة! فقال: «إنني لا أريد أن يرفرف أمام عيني عَلَمٌ سوى عَلَمِ خدمة الدين الإسلامي والدفاع عن قضاياه!« وأصر على موقفه إصراراً؛ حتى إن الأستاذ «يشار» قال بأسًى شديد: «إذا لم تكن أنت تسمع كلامي فمن سيسمعه إذن؟!»(7) واغرورقت عيناه بالدموع، فبَكَى الرجلان معاً!

وتذكر فتح الله آنئذ قول عمه أَنْوَر، وعلم أنها ستكون آخر فرصة للزواج، ففكر في حاله وحال زمانه؛ ثم اختار مرة أخرى مسلك العزوبة!

لو تزوج فسيموت

ودخل الاستاذ فتح الله امتحان العزوبة فرداً! وإنه بالنسبة لِشَابٍّ قوي مثله، كاملِ الرجولة والفحولة، لامتِحَانٌ عسير! حتى إذا بلغ من عمره الأربعين عَبَرَ خاطرٌ خاطفٌ بخياله، وهو منهمك في غسل ثيابه وملابسه -وقد تكاثرت عليه وثقلت- فضاقت بها نفسه: «أوَ لم يكن خيراً لو كنتُ تزوجت؟» فلما كان اليوم التالي طرق بابه أحد أحبائه في وقت مبكر، فقال له: «أَبشِر يا فتح الله! لقد رأيت الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمس في المنام في أمرٍ يخصك! لقد أقرأك السلام! وقال: أخبروا «فتح الله» أنه لو تزوج فسيموت! وإنني -لو يفعل- لن أحضر جنازته!» (8).

وما كان الاستاذ «فتح الله» ممن يعملون بالرؤى في الأمور الشرعية والقضايا المصيرية، لكن هذه الرؤيا وافقت قراره واختياره، وطردت وسواسه، وزادته تشجيعاً على متابعة الطريق!

ولقد تبين -فيما بعد- أنه فعلاً لو تزوج لَمَات... فحياته ارتبطت بدعوة عظيمة، واندمجت في خدمة جليلة... فعلى كاهله بنى الشباب المؤمن بكل بلاد الأناضول مدارسهم ومساجدهم .. وعلى تلال قلبه الزمردية أنشأوا خلواتهم ومخيَّماتهم... فصار أباً لكل أطفالهم ونسائهم... ولو كان تزوج فعلاً لتحطم كل شيء... ولو تحطم من دعوته شُرفَةٌ واحدةٌ لانهار ومَات!

يقول الاستاذ «فتح الله»:

والذي نستطيع أن نقول بأن هذه العوائل كلهم من العوائل الأصيلة ولكن قراري الحاسم بعدم الزواج حال بيني وبينهم ، وأن أفدي بنفسي لهذه الخدمة من أول طلب للزواج (9).

الهوامش :

(1) كولن ، محمد فتح الله ، الموازين ، ص 50.

(2) كولن ، محمد فتح الله، الموازين ، ص146.

(3) وقد افرد الشيخ عبدالفتاح ابو الغدة كتاباً خاصاً سماه : (العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج)، وطبع عدة طبعات أولها ببيروت سنة 1982.

(4) الانصاري،فريد، رواية عودة الفرسان ، ص 165-166.

 (5) İsmail Ünal, Fethullah Gülenle Amerikada bir ay S.21.

(6) Fethullah Gülenle Amerikada bir ay S.21

(7)  Küçük dünyam,S . 62 .

(8) Küçük dünyam, S.63.

(9)  Küçük dünyam,  S.62.