حسين الشافعي... وتوبته الغائبة

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

كنت في الثامنة عشرة من عمري عند قيام ما سموه بثورة 1952, كدنا نطير من الفرح, وقلنا إنها الأمل الجديد الذي به يتحقق النصر بعد هزيمة الجيوش العربية السبعة هزيمة منكرة علي أيدي العصابات الصهيونية.

 ولكن «الثوار» أسفروا عن وجوههم الحقيقية, واستطاع عبد الناصر بالمكر والغدر أن يقضي علي مفجر الثورة وأبيها وراعيها «محمد نجيب», وأن يزيح من طريقه كل من قال له لا, أو قال له «اتق اللّه». وأصبح هو الدستور والقانون والحكم والحاكم والدولة.

 وحاك المؤامرات, ودبر المظاهرات, وافتعل حادث الاعتداء عليه في المنشية. وشكل ما سمي بمحاكم الثورة, ومحاكم الشعب, وغيرها, وما كانت إلا محاكم الظلم والدم والقهر والاستبداد, وبأمره شنق قادة الإخوان, وهم الأشراف الأبرياء المجاهدون الأبرار.

 وفتح السجون ليلقي في غياباتها عشرات الآلاف لا ذنب لهم إلا معارضة استبداده ودكتاتوريته, وصب عليهم من العذاب ما لم تعرف البشرية مثله من قبل, حتي مات الكثيرون من التعذيب, ودفنوا في الصحراء, وأصيب بعضهم بالجنون من هول ما نزل بهم, وما شاهدوه مما نزل بزملائهم. وأصبحت «شخصية المصري» هينة مهينة في البلاد التي يهاجر إليها ليكسب عيشه في أمان, وهو الذي كان - قبل العهد الناصري - ملٍءَ السمع والبصر, أو عملة صعبة - كما يقولون.

 وعلي يديه كانت مذبحة القضاة, ومذبحة الصحفيين, لا لذنب جنوه, ولكن لأنهم لم يكونوا من أهل الثقة والولاء.

 وظهرت بفضله طبقة جديدة من «الضباط العظام».. نهبوا القصور الملكية, وأموال الحراسة, وأصبحوا وزوجاتهم وأبناؤهم أصحاب تجارات واسعة, ومكاتب استيراد, ونفوذ واسع. وعنهم عبر الشعب «بالنكتة» التي أفرغ فيها نقمته علي هذا الوضع, ومنها: أن أحد المواطنين - في الترام المزدحم - شعر براكب آخر يقف علي قدمه حتي كاد يسحقها, وهو يتحمل الألم الشديد في صمت إلي أن وصل الترام إلي آخر الخط, ونزل الراكب, فسأل الضحية دائسه:

- سيادتك من رجال الثورة?

- لا..

- هل أنت ضابط في الجيش, أو أحد أقربائك ضابط في الجيش?

- لا..

فصرخ هائجًا في وجهه «أُمّال دايس علي رجلي ليه من أول الخيط لآخره يا ابن (.....)?!!

 كما نجح عبد الناصر في إهدار أموال مصر في الخارج علي الأنصار والمغامرين للقيام بانقلابات ضد حكوماتهم في أفريقيا والبلاد العربية.

 وضحي - في سبيل تحقيق مجد شخصي - بعشرات الألوف من خيرة شبابنا في اليمن, زيادة علي الملايين التي وُزعت علي شيوخ القبائل لكسب ودهم وتأييدهم.

 وزّيف إرادة الشعب في استفتاء تمخض عن «نجاحه» بمجموع 99.999, وفي انتخاب أول «مجلس أمة» في عهد الثورة.

 وحقق - بتفوق - أكبر هزيمتين في تاريخ مصر والعرب سنة 1956, سنة 1967.

وفي غيبة العدل والقانون, وانفراد الدكتاتور وحوارييه بالحكم والتحكم والسيادة والهيمنة علي مصر المسكينة.. أصبح الشعب يعيش في جو خانق من الرعب والفزع, والشك والقلق, وتغلغلت عيون الدكتاتور في الجامعات والمصالح الحكومية والبيوت, ودارت علي ألسنة الناس عبارات مثل: يا عم وأنا مالي - سبنا نأكل عيش - الحيطان لها ودان, وأصبح الجبن والتردد طبيعة, والنفاق دينًا, وماتت الضمائر, والشعور بالمسئولية, والتحمس للعمل والإنتاج.

 ومن عجب أن تري من النفعيين والملاحدة والمنافقين من يتغافل - في مقام تقييم هذا العهد - عن ذكر هذه الجرائم والخطايا. وقد يذكر بعضهم بعضها, ويطلق عليها سلبيات.. أي واللّه سلبيات, مع أنها - في واقعها - إيجابيات إجرامية شيطانية جرّت علي مصر والعرب الخراب والدمار.

من أقذر نقاط العار

وكان من أقذر نقاط العار في وجه المسماة بالثورة, ووجه العهد الناصري إنشاء ما أطلقوا عليه «محكمة الشعب» بالأمر الصادر من مجلس قيادة الثورة في الأول من نوفمبر 1954 (أي بعد افتعال تمثيلية الاعتداء علي عبد الناصر في المنشية), وشكلت المحكمة برئاسة قائد الجناح جمال سالم, عضو مجلس قيادة الثورة, وعضوية القائمقام أنور السادات, والبكباشي أركان حرب حسين الشافعي, عضوي مجلس قيادة الثورة. وصدر الحكم بإعدام عبد القادر عودة, والشيخ محمد فرغلي, ويوسف طلعت, وإبراهيم الطيب, وهنداوي دوير, ومحمود عبد اللطيف, ونفذ حكم الإعدام. وذلك غير أحكام أخري بالأشغال الشاقة.

 وهلك جمال سالم بعد مرض بشع خبيث طويل عاني فيه من الأوجاع والآلام والهلوسة والهذيان ما لا حدود له. كما قُتل السادات علي يد خالد الإسلامبولي في 6/10/1981.

مات كلاهما, ولم ينقل عنهما أنهما تابا إلي اللّه من جريمة إعدام الأبرياء. ولم يبق من الثلاثة علي قيد الحياة إلا حسين الشافعي. وقيل لي إن الرجل نزع نزعة صوفية في الثمانينيات, وإنه يخطب أحيانًا في المساجد, وإن عباراته أصبحت ذات طوابع دينية. وتمنيت أن ألقي الرجل لأطلب منه أن يتوب إلي اللّه توبة نصوحًا كواحد من ثلاثة اشتركوا في إهدار دم شهداء الإخوان, ولكن أني لي ذلك, وأيان? والرجل لا يعرفني, ولم ألقه من قبل.

لقاء مع حسين الشافعي

وما تمنيت أن يتم في مصر لم يتم إلا صدفة في مكة أمام بيت اللّه الحرام. كنت أنزل بفندق «خوقير» - وهو مطل علي الحرم - بالحجرة رقم 214, واكتشفت أن السيد حسين الشافعي ينزل بالحجرة 221 (في الطابق نفسه). وكان لقائي به قبل المغرب بساعة يوم السبت 28 من رجب 1410 - 24 من فبراير 1990), وبعد التعارف دار بيننا الحديث التالي:

- حمدًا للّه إذ ألقاك, فقد كنت عزمت علي أن أنشر مقالاً بعنوان "رسالة مفتوحة إلي حسين الشافعي", أطلب منك فيه أن تتوب إلي اللّه, بسبب ما اقترفته يداك.

- أتوب مم?!! أتوب مم?!

- من الاشتراك في قتل الأبرياء: عودة, وفرغلي, ويوسف طلعت, وإبراهيم الطيب, وغيرهم.

- ولكن هؤلاء كانوا أعداء للثورة من أول لحظة.

- هذا غير صحيح, بل إن الإخوان هم الذين حموا الثورة. وعبد القادر عودة بالذات كان «يفرمل» شباب الإخوان, ويحد من حماستهم.

- ولكن الذي «وداهم في داهية» هو محمد نجيب.

- هذا الكلام أضعف من أن يرد عليه, ويكفيك خطيئة أنك كنت مرءوسًا لقاض مجنون.

 .........-

- أسألك سؤالاً محددًا: هل كان رئيسكما.. رئيس المحكمة جمال سالم سويًا أم مختلاً?

- إنه سؤال تصعب الإجابة عليه..

- بل إجابته سهلة جدًا.. يعرفها الجاهل والمتعلم.

- كنت أتمني أن تقرأ المحاكمة كلها.

- قرأتها بالكلمة. كل محاضر الجلسات بأجزائها السبعة التي طبعتها الحكومة.. يا سيدي أنت الوحيد الباقي حيًا من الثلاثة فتب إلي اللّه, وانشر توبتك في الصحف, فقد يقتدي بك طغاة أخذهم الندم في «نوبة» من يقظة الضمير.

و... بلا حدود

وتركت حسين الشافعي, ولم ألتق به بعد ذلك, وفي مساء الأربعاء 17/7/2002 شاهدته في برنامج «بلا حدود» بقناة الجزيرة ولم أسمع من السيد حسين إلا الأغاليط والمغالطات, والإصرار علي الخطأ والخطيئة: زعم أن هدف الكيان الصهيوني من حرب 1967 - ومعها أمريكا - كان التخلص من عبد الناصر. ومعني هذا بمنطقك - يا سيد حسين - أن الكيان الصهيوني هُزم في هذه الحرب, وأننا انتصرنا انتصارًا ساحقًا لأن هدف الصهاينة لم يتحقق, وبقي لنا «ناصرنا» العظيم. ونسيت يا سيد حسين أنك بمقولتك هذه قد كذّبت عبد الناصر الذي اعترف بالهزيمة, وبأنه مسئول عنها. فأيكما نصدق?

 ولن أقف عند كلام «صغير» يصدر من رجل كان أحد حكامنا ذات يوم مثل «كل الانتقادات التي وجهت للثورة كانت هدامة, أما نقدي فهو الوحيد البنّاء» ومثل «أريني بيتًا واحدًا في الوطن العربي مفيش فيه صورة لعبد الناصر?», وأقول: أنا لم أدخل بيتًا فيه صورة لعبد الناصر, وإذا كانت الزعامة بالصور لكان من زعمائنا كاظم الساهر, وعمرو دياب, ونوال الزغبي , ونانسي عجرم.

وينفي عن الإخوان اشتراكهم في الثورة, وطبعًا ينكر دور بطل مثل عبد المنعم عبد الرءوف, وما قام به الإخوان من حراسة المنشآت والكباري والكنائس. ويستحل دم ا لإخوان بمقولة إنه كان ضرورة لتحافظ الثورة علي بقائها, وأن اللي إيده في الميه مش زي اللي إيده في النار. ولا أملك في النهاية إلا أن أقول: تب إلي اللّه يارجل من خطيئتين: الأولي شنق الإخوان, والثانية رضاؤك بأن تكون مرءوسًا لقاض مجنون كان يسخر من الذات الإلهية ومن الرسول والقرآن الكريم, ويطلب منهم أن يقرءوا الفاتحة بالمقلوب, (محاضر الجلسات 3/567), ويسبهم بأفجر الشتائم وأقذرها, ويستعدي عليهم الجمهور. تب إلي اللّه يا سيد حسين الشافعي, تب إلي اللّه {غافرالذَّنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الَطَّوًل لا إله إلاَّ هو إليه المصير} [غافر: 3].

هذا ما سجلته بيومياتي في حينه . وحسين الشافعي الآن بين يدي الله , وهذا لا يمنعني أن أنشر ما سجلته

بيومياتي للتاريخ , ولا أقصد إساءة للرجل , فحسابه موكول إلى الله الذي حرم الظلم على نفسه , وما كان

ظلاما للعبيد . ( أكتوبر 2007 ) .