محمود شيت خطاب وتراثه الأدبي

د. مجاهد مصطفى بهجت

محمود شيت خطاب وتراثه الأدبي

د. مجاهد مصطفى بهجت

حادث جلل.. فقدُ الأعلام البارزين، ومصاب فادح.. إهمال ذكرهم، ودروس حية في استذكار حياتهم واستحضار مواقفهم.. فما أحوجنا – اليوم - لعلم هؤلاء الرجال وأدبهم الرفيع في وقت كدنا نفقد فيه العلم الحقيقي والأدب المشرق النقي، وما أحوجنا إلى رجولة هؤلاء الأعلام وشجاعتهم للوقوف بوجه الباطل والثبات أمام أعاصير الضلال والفساد.

ومن هذه الأعلام التي نُكِّست، والأنوار التي انطفأت جذوتها، وذهب بهاؤها اللواء محمود شيت خطاب، والشيوخ: علي الطنطاوي، وابن باز، وعطية سالم، ومناع القطان، والدكتور عبد الستار القدسي، ومحمد المجذوب، والدكتور مصطفى الزرقا، ومحمد ناصر الألباني، ويصدق وصف عام موتهم بعام الحزن، ويصدق وصف هذا الزمن بزمن قبض العلم، وفي الحديث الصحيح: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء".

وهؤلاء إن ذهبوا فقد تركوا آثاراً عميقة في الفكر والثقافة والتراث، وهم وإن كان يجمعهم صلاحهم وتقواهم وخشيتهم لله تعالى، ووقوفهم عند حدوده، والاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، والاجتهاد في الدعوة إلى الله على بصيرة – نحسبهم كذلك ولا نزكى على الله أحداً - فقد تميز كل منهم بخصال تفرّد بها.

فقد عرف الشيخ الطنطاوي بأحاديثه الغدقة العذبة، وروحه الفكهة، وقربه إلى شرائح المجتمع كلها – في دروسه ومواعظه- فهماً وتوجيهاً وإصلاحاً.. وعرف الشيخ الندوي بعمق فكره وفقهه الدعوي، كما عرف بقلمه الرفيع وأدبه الثر وعطائه الغزير.. وعرف الشيخ ابن باز بفقهه السلفي، وفتواه الرصينة، وغيرته الإسلامية، وتفقده لأحوال المسلمين.. وعرف الدكتور القدسي بعمله الجامعي الدؤوب وصبره وحدبه على إخوانه، وقد عرفه إخوانه في البلاد الإسلامية أكثر من بلده.. جزى الله خيراً هؤلاء العلماء المجاهدين، وأثابهم ورزقهم منازل الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، وجمعنا بهم في دار المقامة من فضله.

التراث العسكري

أما الشيخ العلم المؤرخ اللواء محمود شيت خطاب، فقد تميز بصلته الوثيقة بالسيرة النبوية الشريفة، ومعرفته العميقة بالتاريخ الإسلامي أحداثاً وغزوات وفتوحات، وتراجم أعلام، وسير قادة، ومعالم آثار في التراث.

وخير شاهد على ذلك مؤلفاته وآثاره التي تركها كتباً وبحوثاً ومقالات، فلم ينقطع نشاطه العلمي ولا توقف قلمه عن الكتابة. وإن كان النشر في العراق مر بظروف عصيبة، لا يجد فيها الكاتب فرصة النشر إلا في حدود ضيقة، لكنه كان ينشر بشكل دوري بمجلة المجمع العلمي العراقي حيث كان عضواً فيه.

لقد كان – يرحمه الله- مفكراً لامعاً، وعالماً عاملاً ترك لنا تراثاً زاخراً في فنوف اختصاصه العسكري تحقيقاً وتأليفاً، وهو من أوائل المفكرين في هذا القرن الذين عرضوا تراثنا العسكري الإسلامي بمنهج حديث، وأسلوب علمي رصين، فكتب عن الرسول صلى الله عليه وسلم قائداً، وعن "تاريخ جيش النبي صلى الله عليه وسلم"، و"دروس عسكرية في السيرة النبوية"، و"غزوة بدر الكبرى"، بل درس "العسكرية العربية الإسلامية"، فضلاً عن "المصطلحات العسكرية في القرآن الكريم".

وكتب عن الخليفة الراشد أبي بكر – رضي الله عنه- "الصديق القائد" وعمر – رضي الله عنه- "الفاروق القائد"، والصحابي الجليل خالد بن الوليد المخزومي، وسلسلة قادة النبي ومنهم: "عمرو بن العاص"، والقادة الشهداء في مؤتة، وقادة فتح العراق والجزيرة "وفارس" و"بلاد الشام ومصر" و"المغرب العربي".

العقيدة.. والقيادة

وتعمق في تراثنا العسكري مبيناً علاقة العقيدة والإيمان بالقيادة العسكرية من خلال كتابيه: "بين العقيدة والقيادة"، و"إدارة القتال في الجهاد الإسلامي"، ولعل من أجود مؤلفاته – على صغر حجمه في 174 صفحة- كتابه "الشورى العسكرية النبوية"(2) الذي كشف فيه عن مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم الشورية في الغزوات العسكرية، وحاول فيه حصر هذه المواقف باستقصائها واستخلاص الدروس والعبر منها، وقد درس تطبيقات الشورى العسكرية في عهد الرسالة ضمن تسع غزوات "بدر وأحد وحمراء الأسد والخندق والحديبية وخيبر وحنين والطائف وتبوك"(3)، ثم لخص ذلك كله في جدول بخمسة مجالات "خانات"

وهي: "الغزوة، التاريخ، موعد الاستشارة، المستشار والمستشارون، النتائج"(4).

ولم يكن في عسكريته نظرياً تراثياً، منقطعاً عن واقعه، بعيداً عن الجانب العملي، بل تمتع بحس القائد المحنك وحدس الخبير المجرب، فهو الذي أعلن سنة 1967 عن موعد هجمة إسرائيل وجعلها في الخامس من يونيو قبل وقوعها معتمداً في ذلك على القواعد العسكرية العلمية.

وإن كان السياق يتجه نحو شمائله ومناقبه فقد كان – يرحمه الله- صاحب خصال رفيعة وخلال جمة لعل من أبرزها – مما عرفناه فيه - تواضعه وجرأته في الحق.

فهو وإن كان قد تقلد المراكز والمناصب العالية، وبلغ أعلاها وأسناها وزارة وإدارة، لكن صفة التواضع كانت حليته وزينته، فلم يعرف عنه التكلف في ملبسه وهيئته عند حضوره الدعوات الرسمية، حيث كان يشارك في أعمال المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بثوبه المتواضع، وطاقيته فوق رأسه، وكان لا يفوت فرصة لقائه بالحكام في إسداء النصيحة والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ولا يقبل هدايا الرؤساء وعطاياهم تعففاً وتنزهاً، لا تكبراً أو تعالياً.

أدبه وقصصه

لئن كان – خطاب - متخصصاً من الطراز الأول في التراث العسكري، وفنون الحرب والمعارك، والقيادة العسكرية في تراثنا الإسلامي... فقد كان أديباً له حظ وافر في الكتابة الأدبية، إذ أسهم في إصدار سلسلة من الكتب القصصية الهادفة ذات الطابع الإسلامي الواقعي الذي يحيي المعاني الإسلامية، ويبرز البعد الغيبي في الإيمان بالله تعالى وقدره "خيره وشره"، وقصصه إن خلت من عنصر الخيال المجنح، لكنها تحفل بغرائب الأحداث وعجائبها مما يقع في كل عصر ومكان، ويضفي على قصصه عنصر الإثارة والتشويق.

لقد نشر مجموعتين قصصيتين هما: عدالة السماء(5) وتدابير القدر مما وقفت عليه، ثم نشر مجموعتين أخريين وهما: الرقيب العتيد، واليوم الموعود(6)، وهو جدير بأن ينهض أحد طلبة الدراسات العليا – ممن تتيسر له أدوات البحث بجمع آثاره- للكتابة عنه أديباً وقاصاً، لاستجلاء هذا الجانب المجهول من شخصيته.

فإن كان قد غاب ذلك عن الدارسين وفاتهم وهو حي، فعسى أن يستدركوا ذلك بعد فقده، وهل يحق لنا أن نعاتب أهل بلادنا؟ كما عاتب الإمام فخر الدين الرازي (ت606هـ) بمرارة أهل بلده فقال لهم:

المرء ما دام حياً يستهان به      ويعظم الرزء فيه حين يفتقد(7)

               

الهوامش

(1) رواه البخاري كتاب العلم ح (100) ومسلم كتاب العلم ح (2673)

(2) طبع بالمجمع العلمي العراقي، بغداد سنة 1986م.

(3) راجع الشورى العسكرية النبوية ص 22 – 100.

(4) راجع الشورى العسكرية النبوية ص 118 – 122، ومجموع استشارات الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية هو إحدى وعشرون استشارة. راجع ص 117.

(5) طبع الكتاب بدار الفكر – دمشق 1974م.

(6) مجلة المجتمع – الكويت – العدد 1336، 2-8- فبراير 1999م.

(7) طبقات الشافعية: تاج الدين السكي، ج8 ص9، تحقيق الحلو والطناحي، ط الحلبي سنة 1971م.