ابنة الطائي الأسيرة ورؤيتا شاعرين

محمد محمد السنباطي

محمد محمد السنباطي

عندما علم عدي بن حاتم الطائي بقدوم جيش المسلمين، وتأكد أن رايات ذلك الجيش الظافر مقبلة ترفرف من بعيد أسقط في يده واحتمل أهله وولده ليفر إلى الشام ولكنه لم يأخذ معه بنتا لحاتم... تلك التي وقعت في الأسر ووضعت في حظيرة بباب المسجد مخصصة للسبايا، مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهضت واعتدلت وصاحت:

- يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فامنن علي منّ الله عليك.

قال: ومن وافدك؟

قالت: عدي بن حاتم.

قال: الفار من الله ورسوله؟!

وحدث مثل ذلك الحوار في اليوم التالي، ثم في اليوم الذي يليه مر بها المصطفى وقد يئست فأشار إليها رجل خلفه أن قومي فكلميه فقامت وقالت:

- يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فامنن علي منّ الله عليك.

فأجابها: قد فعلت... فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني.

وعندما حان رحيلها إلى أخيها بالشام كساها الرسول صلى الله عليه وسلم وأعطاها نفقة وأكرمها.

وفي رواية أخرى أنها قالت:

- يا محمد، إن رأيت أن تخلي عنا ولا تشمت بنا أحياء العرب فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار ويفك العاني ويشبع الجائع ويكسو العاري ويقري الضيف ويطعم الطعام ويفشي السلام ولم يرد طالب حاجة قط... أنا ابنة حاتم طيء. فأجابها المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام وأتم التسليم:

"يا جارية... هذه صفة المؤمنين حقاً لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها يحب مكارم الأخلاق والله يحب مكارم الأخلاق، والذي نفسي بيده لا يدخل أحد الجنة إلا بحسن الخلق".

تلك هي القصة كما جاءت في (البداية والنهاية لابن كثير جـ5 ص 57 - 61) وفي غير هذا من كتب السيرة المطهرة... فتاة وقعت في الأسر... لا حول لها ولا طول... وهبها المصطفى حريتها وكذلك فعل لمن معها إكراماً لأخلاق والدها ذلك الرجل الذي كان يحب مكارم الأخلاق.

استهوت هذه القصة العديد من الشعراء ومن بينهم: سعدي الشيرازي ومحمد إقبال، وقد تناولها كل منهما بطريقته الخاصة.

أما سعدي الشيرازي ويتميز بين شعراء الفارسية بالطابع الإنساني حتى سماه العديد من النقاد بشاعر الإنسانية، وله شعر رائع يدعو للبذل والعطاء، والكرم والسخاء... فبعد هذه الحياة القصيرة حياة ممتدة طويلة خالدة وأن الزاد إليها ليس اكتناز الأموال وادخارها وإنما رعاية ذوي الحاجة والعناية بهم... ومما قاله في ذلك:

وانفق اليوم مما لديك لنفسك وللناس

حتى لا تعض غداً بنان الندم والأسف

واجتهد في الستر على كل ذي حاجة ومطلب

فإن الله يستر عليك ما بدا منك من عيوب

ولا تطرد من أبوابك السائل الغريبا

فلعلك – يوماً ما - تطرق الأبوابا

وأدخل ما استطعت سرورك على قلوب العاجزين

واذكر يوم العجز حين تساق مع الآخرين

إنك لست الواقف بباب الغير تطلب حاجتك

فاشكر الله نعماءه ولا تطرد السائلين ببابك

وفي أشعاره عن اليتامى – وقد ذاق اليتيم في طفولته - يقول سعدي الشيرازي:

ابسط ظلال رعايتك على من ذاق مرارة اليتم

وانثر عنه غبار الشقاء واحتث شوكة الألم

ثم يلتفت ويلف انتباه الغافلين إلى شيء هام جداً:

وحين تلمح يتيماً ساهماً في نظراته

كيف تضم ابنك مقبلاً وجناته؟

وإذا اليتيم بكى فمن يسكته بالتدليل؟!

وإذا الغضب تملكه فمن يرده إلى صفاء البال؟!

ثم يتنهد الشاعر تنهدة عظيمة وهو يتحسر على اليتيم الذي عاناه هو في صباه والذي فتح عيون قلبه على رعاية اليتامى:

إن لي من ألم الأطفال من الخبر

فقد حرمت حنان أمي منذ الصغر

وشاعرنا هذا يتمتع بشفافية عظيمة، إنه يريد من المحسن أن يهب إحسانه لجميع الناس حتى للماكرين المحتالين وللمنافقين السيئين!! فمن يدري فربما يعتدل المعرج إذ تربت كتفه يد الإحسان الحانية:

لا تقفل باب الإحسان على الناس وأن تقول

هذا منافق مخادع وذاك ماكر مختال

ولهذا لم تمر قصة ابنة حاتم على "سعدي الشيرازي" مرور الكرام بل استوقفته واستوقفها، وكيف لا؟ والنبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه قد رق لحال تلك الفتاة الأسيرة لأن أباها كان يقري الضيف ويطعم الجائع ويمد يد العون للمحتاج.

هذا وقد أضاف الشاعر من خياله الشاعري ما يدل على كرم هذه الفتاة التي أبت أن يطلق سراحها وحدها بينما قومها يرسفون في أغلال الرق، فظلت تستعطف الحبيب المصطفى حتى عفا عنهم جميعاً.

سمعت أن آل طي... في عهد الرسول

أعرضوا عن الدعوة، ولم يبادروا للقبول

فجرد الجيش عليهم البشير

فكان منهم الكسير وكان منهم الأسير

فاستغاثت امرأة من بينهم أنني ابنة حاتم

وسألتهم المغفرة والعفو من النبي الكريم

فلما جيء قالت أيها السيد العظيم

رق لحالي فإن أبي ينعت بالكريم

أمر الرسول ففكوا إسارها

وأطلقوها من يديها ومن قدميها

وكادوا أن يضعوا فيمن بقي السيوفا

حتى يجري سيل الدم غزيرا كثيفا

صرخت المرأة ضارعة للسياف

لست أرضى البقاء دون قومي فخذ برأسي

ولست أرى من المروءة أن يطلق سراحي

وقومي في القيد رهن الدم ملء والبطاح

وهكذا ظلت تندب حالها وحال قومها

حتى رق لها الرسول حين استمع طرفاً من أخبارها

وعفا عمن بقي من القوم وأجزل لها العطا

فإن الأصل الكريم قلما يصدر عنه الخطا

أما الشاعر الباكستاني الفيلسوف محمد إقبال فيتناول القصة بطريقة مختلفة، فبعد أن يحدثنا عن وقوع ابنة الرجل الكريم في الأسر، ويصف لنا حالها فالقيد في قدمها ورأسها بلا غطاء بينما طرفها في الأرض بائسة خاضعة خانعة ذليلة، فما كان من المصطفى الأكرم وقد علم بكرم أبيها إلا أن ألقى عليها بردته ساتراً عريها... والبردة هنا ربما تكون حقيقية أو رمزاً... لأن الشاعر يستأنف أبياته وقد حلق في آفاق العبرة والعظة، فها نحن في هذا العالم أكثر عرياً من تلك الأسيرة الحاسرة لا يكسو عرينا شيء إلا أن يستر علينا الرسول الكريم ذلك العري ببردة سنته المطهرة إذا ما تبعنا صراطها واقتفينا آثارها... إنه يسترنا في الدنيا ويشملنا بنظرة عطفه وحنانه في الآخرة.

ولم لا؟! وهو يحب كل من يرجع إليه ويقبل على الإسلام بقلب مفتوح، ألم يقل لأهل مكة يوم الفتح: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم؟!

أسرت في غزوة بنت الجواد

من علا طياً بجدواه وساد

رجلها في القيد والرأس حسير

مطرق في ذله الطرف الكسير

بردة ألقى عليها ساتراً

إذا رأى وجهاً ورأساً حاسراً

نحن أعرى في الورى من أخت طي

ليس يكسونا لدى الأقوام شيء

هو في الدنيا علينا ساتر

وهو في الحشر إلينا ناظر

وبيوم الفتح هذا الغافر

قال: "لا تثريب" وهو القادر