داوود شيخاني

محمد فاروق الإمام

داوود شيخاني

الضابط الذي عاش تجربة الوحدة والانفصال

محمد فاروق الإمام

[email protected]

داود شيخاني الذي رحل عن هذه الدنيا في دمشق يوم 10 تموز عام 2010م إثر نوبة قلبية كان كاتباً من نوع فريد، غاص في أعماق البيئة ونبش حكايا التاريخ والتراث، ومنتج ريادي أقدم بإصرار وتصميم لإيجاد المبادرات الخلاقة.

داود شيخاني، شيخ منتجي الدراما التلفزيونية السوريين، الذي غيبه الموت عن سبع وسبعين عاماً بدأها ضابطاً في الجيش السوري، قبل أن تعصف السياسة بالحياة العسكرية في غير حقبة من تاريخ سورية المضطرب، فينتقل إلى وزارة الصناعة، ثم إلى وزارة الإعلام، ليجد في الفن والدراما العالم الذي طالما بحث فيه عن الموضوعات الكبيرة، والهموم الكبيرة، بدءاً من هم التأسيس من نقطة الصفر، وانتهاء بهموم التمويل والعرض والتسويق خارج حدود الوطن الذي انطلق منه، واغترب عنه، ثم عاد إليه ليحط فيه الرحال!

ولد داوود محمد خالد شيخاني في حي البحصة بدمشق عام 1933م لأب كان يعمل ضابطاً في الجيش التركي، وأم تحمل بذوراً من الحضارة الإغريقية، ثقافته الأولى تلقاها من مكتبة جده، ومن نمط الحياة الاجتماعية لفريدة التي كان يعيشها المجتمع الدمشقي المعروف بغنى وثراء تقاليده وصرامتها في الآن نفسه، حي البحصة الذي نشأ فيه كان ملاصقاً لقلب دمشق النابض: ساحة المرجة.. تلك الساحة التي اختزلت تاريخ دمشق حتى ستينيات القرن العشرين، ها هنا كانت تتألف التجمعات، وتنتهي المظاهرات، وتنصب المشانق للوطنيين والثوار في عهد الانتداب الفرنسي، وتسمع صفارات الإنذار أثناء الحرب العالمية الثانية، وعلى وقع هذه الجغرافيا الضيقة – المتسعة، كان وعي داوود شيخاني يتشكل بحرية مثل كل الدمشقيين الذين عاشوا تلك المرحلة المليئة بالحراك الحي، وكان إحساسه بالتاريخ يمر بمحطات وتحولات طالما اختزلها في ذاكرته وروى عنها في مجالسه الخاصة التي كانت تأتلف في مكتبه بحي الروضة، حيث الأصدقاء القدامى.

عايش داوود شيخاني أجواء الحياة العسكرية التي تداخلت مع الحياة السياسية في سورية، منذ نفذ حسني الزعيم عام 1949م أول انقلاب عسكري ضد الرئيس المنتخب شكري القوتلي، ولعل الخلفية العسكرية لوالده الذي كان يحمل الكثير من الآراء السياسية الحادة، وكانت له نظرة مختلفة لتيار القومية العربية الذي كان يكن العداء لحكم الأتراك، دفعت داوود شيخاني للالتحاق بالكلية العسكرية، مختلفاً مع وجهة نظر والده السياسية كواحد من الشباب الذين تأثروا بالمد القومي وآمنوا به بصدق.

وفي القاهرة درس العلوم العسكرية، ثم تخرج عام 1961م في زمن الجمهورية العربية المتحدة... لكن رؤيته النقدية العميقة، دفعته لإعادة النظر بشعارات دولة الوحدة، التي كانت تترجم على أرض الواقع بالنقيض تماماً، كما أن دراسته في الكلية العسكرية في القاهرة، دفعته لتلمس الفوارق الاجتماعية والنفسية والاقتصادية بين الشعبين السوري والمصري، التي لم تنجح تجربة الوحدة في احتوائها، بل عمقت من حدتها عبر الكثير من الممارسات الاستفزازية الخاطئة، ولهذا كان لداوود شيخاني رأي مختلف عندما عايش تجربة الانفصال بين مصر وسورية، وقد عانى ما عاناه الضباط السوريون في مصر أيامها ثم عاد مع أصدقائه إلى بلده ليتم نقلهم جميعا إلى وظائف مدنية، فنقل إلى وزارة الصناعة، وكان له دور بارز في التأسيس لتقاليد عمل صحية، وخصوصاً بعد أن حصل على منحة درس خلالها في إيطاليا، وحصل على درجة الماجستير في الإدارة والتنظيم (I.L.O) من منظمة العمل الدولية بين عامي 1967 و1970م.

وفي الفترة ذاتها أجرى دورة تدريبية في استوديوهات لندن، استعاد داوود شيخاني من خلالها ولعه القديم بالفن والأدب، وخصوصاً أنه كان يكتب القصة القصيرة وهو في مطلع شبابه، فاطلع على المسرح واستفاد مما كان يشاهده على شاشة التلفزيون البريطاني، وتعمق في فهم عوالم الدراما الشكسبيرية، وقد سحرته من دون شك الصنعة الدرامية التي كانت مؤسسة على تقاليد راسخة، ومنطق درامي محكم.

لكن داوود شيخاني الذي شهد تداعيات هزيمة حزيران عام 1967م وهو في لندن، آلمه الطريقة التي كان يتحدث فيها الإعلام الغربي المشحون بالدعاية العنصرية الصهيونية عن العرب، وأدرك حينها قوة الفن والإعلام عموماً في الرد على تلك الحملات، وقد كان إيمانه بالتاريخ والتراث كبيراً، ولهذا انكب يقرأ في التاريخ العربي، ويختزن حصيلة معرفية من خزائنه، بما يشكل الأرضية لعمله الدرامي لاحقاً.

علاقة داوود شيخاني بالفن والإعلام، بدأت من الإذاعة التي دخلها مراقباً ودرامياً وكاتباً في مطلع سبعينيات القرن العشرين، وقد كتب العديد من الأعمال الدرامية لإذاعة دمشق.

بدأ داوود شيخاني بالكتابة للتلفزيون في زمن الأبيض والأسود، وكانت موضوعاته الأولى مستقاة من حياة الطبقة الشعبية الدمشقية، فمثل كل دمشقي عريق، يشكل نمط حياة الطبقة الشعبية في أحياء دمشق القديمة.

وهكذا تنقل شيخاني في كتاباته ما بين البيئة الشعبية التي تقترب من نبض الناس وحكاياهم، وقصص التاريخ التي تلهمهم الثقة والاعتزاز بالماضي من أجل رؤية أفضل للمستقبل.

لم يستطع داوود شيخاني أن يبقى أسير آلية إنتاج التلفزيون السوري المحدودة، التي تنتج ثلاثة أو أربعة مسلسلات تلفزيونية كل عام بميزانيات محدودة، ففكر الانطلاق خارج الحدود. ولم تكن القوانين السورية المقيدة، تسمح بإنشاء شركات إنتاج تلفزيوني خاص، لذا سافر داوود شيخاني إلى اليونان، وأسس شركته الخاصة هناك عام 1977م، وكان باكورة إنتاجها مسلسل (رحلة المشتاق)، الذي كان أول مسلسل تلفزيوني يلعب بطولته الفنان ياسر العظمة.

موهبة داوود شيخاني ككاتب، وعقله الإداري المنظم كمنتج، فتحا له الآفاق لتحقيق إنتاج سوري ضخم بتمويل خارجي، وهكذا استطاع في ثمانينات القرن العشرين، أن يحقق مسلسلين تاريخيين ضخمين مولتهما ليبيا، الأول كان: (حرب السنوات الأربع) عام 1981م والثاني: (بصمات على جدار الزمن) عام 1983م.

وقد استمر داوود شيخاني في اختيار الموضوعات الإشكالية والسياسية الحارة، حين قدم مع المخرج المخضرم غسان جبري عام 1984م مسلسلا تناول قضية التمييز العنصري بعنوان: (طبول الحرية)، الذي حظي باحترام خاص نظراً لفرادة موضوعه وقوة معالجته، ونال الجائزة الذهبية لاتحاد أفريقيا حيث تمت دبلجته في لندن ليعرض في المحطات الأجنبية، وبذلك كان أول مسلسل عربي يدبلج ليعرض في المحطات الأجنبية.

كان داوود شيخاني نمطاً فريداً من المنتجين، يجمع إلى جانب تاريخه العسكري المنضبط، ومبادراته الفنية الريادية، اهتمامات ثقافية معمقة بالتراث والتاريخ ككاتب، فقد كان لا يدخل مكتبه مرة إلا ليقرأ كتاب، أو يبحث عن كتاب يود قراءته، أو كتاب يود الحصول عليه.

ساهم داوود شيخاني في تأسيس لجنة صناعة السينما والتلفزيون في سورية في تسعينيات القرن العشرين، والتي كان منوطاً بها تنظيم عمل شركات الإنتاج التلفزيوني الخاصة وحماية حقوقها، وقد عمل على صياغة أسسها القانونية بحكم تجربته الطويلة، كما رأس هذه اللجنة لمدة أربع سنوات بين عامي (1992- 1998م)، وكان عضواً فاعلا في اتحاد المنتجين العرب، وفي التكريم الذي حظي به العام 2009م من لجنة صناعة السينما والتلفزيون في سورية، بدا داوود شيخاني بتاريخه ومبادراته ودأبه واحترامه لفنه، أكبر من الحدث ومن مكرميه، لكن ابتسامته الودودة لم تغب عن وجهه المتعب، وتوقه الأصيل لتقديم الجديد والعميق لم يفتر حتى في سنوات المرض الأخيرة، وهكذا بدا غيابه الهادئ، فصل الختام في مشروع كاتب ومنتج كان لديه ما يقوله باستمرار.