الأستاذ الجليل الشيخ عبد الرحمن الباني وفيدمان

الأستاذ الجليل الشيخ

عبد الرحمن الباني وفيدمان (1)

د. عبد الله حجازي

بالأمس البعيد، من أربعين عامًا ونيِّف، تعرَّفت الأستاذَ الجليل والمربيَ الكبير الشيخ عبد الرحمن الباني رحمه الله، وكنت كلَّما لقيته ازددتُّ به إعجابًا.

وإن أنسَ لا أنسَ يوم أن رجعتُ من ألمانيا سنة 1390هـ (1970م) وبين يديَّ مجلَّدان ضخمان باللغة الألمانية، في تاريخ العلوم الكونيَّة العربية للأستاذ الفيزيائيِّ الألماني الدكتور آيلْ هاردْ فِيدِمان([2]) (E. Wiedemann)، وقد تضمَّنا جزءًا يسيرًا من مقالاته (79 مقالة) التي زادت على مئتي مقالة، قضى في نقلها عن العربيَّة إلى الألمانيَّة اثنين وخمسين عامًا (من سنة 1876م حتى سنة وفاته 1928م).

كان ينقل إلى اللغة الألمانيَّة في كلِّ مقالة نصوصًا من مخطوطات عربيَّة قديمة، تتناول موضوعات في العلوم الكونيَّة، وينشرها في مجلات محكَّمة، مع التعليق عليها وبيان بعض إنجازات العرب والمسلمين، وبخاصَّة تلك التي ادَّعى بعضُ علماء القرون الوسطى أنها من إبداعهم.

ومن حُسن حظِّ فِيدِمان، بل من حُسن حظِّنا به، أن توفَّرت هذه المخطوطاتُ في مكتبات بعض المدن الألمانيَّة ومكتبات بلدان أخرى.

ولطالما صاغ كلامَ العلماء المسلمين في معادلات رياضيَّة وقوانين فيزيائيَّة، حين اقتضى الأمر؛ وذلك ليستوعبَ القارئ الألمانيُّ ما أراده العالمُ المسلم.

ومن حُسن الطالع أن أصدرت دار النشر (Georg Olms) سنة 1970م المجلَّدين الضخمَين اللذَين أشرتُ إليهما آنفًا. ثم نشر معهد تاريخ العلوم العربيَّة والإسلاميَّة في إطار جامعة فرانكفورت، سنة 1404هـ (1984م) المقالات الباقية في ثلاثة مجلَّدات؛ وذلك تحت إشراف الأستاذ الدكتور فؤاد سزكين مدير المعهد.

لقد كتب الكثيرون عن تاريخ التراث العربيِّ، وكان في الغالب تراجمَ لبعض الأعلام مع مقدِّمات تُشيد بإنجازات العرب والمسلمين. وثمَّة فئةٌ من المحقِّقين اشتغلوا بتحقيق كتابٍ أو مخطوط في موضوع ما. أمَّا أن يقضيَ عالمٌ فيزيائيٌّ اثنين وخمسين عامًا من عُمره في تحرِّي الإنجازات العلميَّة الكونيَّة عند المسلمين، فيما توفَّر له من مخطوطات في مكتبات ألمانيا وأحيانًا فرنسا وهولندا وغيرها من البلدان، وينقلها إلى اللغة الألمانية؛ فما أعتقد أنَّ أحدًا فعل جُزءًا من ذلك! وباعتقادي أنه لم يخدُم التراثَ العلميَّ الكونيَّ عند المسلمين أحدٌ - حتى الآن - كما خدمه فِيدِمان.

ولمَّا كان لهذه المقالات أهميَّة كبيرة في إظهار ما أنجزه العلماء المسلمون في شتَّى فروع العلوم الكونيَّة، وبيان ((أنَّ الكثير من الآراء والنظريات والاكتشافات العلميَّة المنسوبة إلى علماء أوربا، إنما هي من إبداع وابتكار العلماء العرب))([3]) = جعلت نُصبَ عينيَّ مشروعَ ترجمة مقالات فِيدِمان هذه وتحقيقها والتدقيق فيها.

وإني أتضرَّع إلى الله سبحانه وتعالى، وأسأله جلَّ وعلا أن يُكرمَني بطول العمر، ويديمَ عليَّ نعمتَي الإيمان والعافية حتى أنجزَ ما أطمح إليه؛ ذلك لأني آلَيتُ على نفسي - بعون من الله وفضله - أن أقضيَ ما بقيَ لي من عمُر في خدمة هذا التراث الجليل، مُستعينًا بالله أولاً وقبل كل شيء، ثم بدعم جامعة الملك سعود، التي أكرمني الله بالعمل فيها أستاذًا مدرِّسًا زُهاء أربعٍ وثلاثين سنةً، نقلت خلالها من اللغة الألمانيَّة إلى اللغة العربيَّة خمسةَ مجلَّدات من "تاريخ التراث العربيِّ" لمؤلِّفه الأستاذ الدكتور فؤاد سزكين، الحائز على جائزة الملك فيصل العالميَّة. ومن ثَم ليس غريبًا ولا عجَبًا أن يكونَ لجامعة الملك سعود حبٌّ عظيم ومنزلة كبيرةٌ في قلبي.

لقد قضيتُ أحلى سِني العمُرِ وأمتعَها في قاعات المحاضرات، التي كانت البستانَ لهذه النفس العاشقة للتربية والتوجيه والتدريس. إي والله، كنت أحلِّقُ بالسَّعادة والابتهاج، كلَّما كانت عيناي ترَيان عيونَ جموع الشَّباب شاخصةً نحوي تريد المزيد. وإني أسأل الله العليَّ القدير أن تغدوَ هذه الجامعة، في القريب العاجل، من أكبر منارات العلم والمعرفة، وأن تصبحَ في مَصافِّ الجامعات المرموقة في العالم.

عودًا على بدء، ما إن سمعَ أستاذي الفاضل الشيخ عبد الرحمن الباني - رحمه الله رحمةً واسعة وجمعني به في جنَّات النعيم - بهذه المقالات النفيسة، حتى أشارَ عليَّ أن أقومَ بنقل ما نشره فِيدِمان باللغة الألمانيَّة إلى اللغة العربيَّة. وقد استجبتُ له فشرعتُ في ذلك سنة 1392هـ (1972م)، ثم انقطعت عنه بعد أن نِيطَ بي نقلُ سِفر الدكتور فؤاد سِزكين (خمسة مجلَّدات في تاريخ العلوم الكونيَّة) لصالح جامعة الملك سعود. ومع كلِّ هذا بقيَ أستاذي الجليل يذكِّرني بفِيدِمان حتى قبيل وفاته بيومين.

ولا أنسى أبدًا، كيف كان أستاذي المربي العظيمُ الشيخ الباني يمدُّني - منذ الوهلة الأولى، أعني قبل نحو أربعين سنة من الآن - بالكتُب من مكتبته العامرة بنفائس المصادر والمراجع.

وفي هذا الشأن أودُّ أن أشيرَ إلى أن للشيخ الجليل ذكرياتٍ كثيرةً في ذاكرتي ومدوَّناتي أجتزئ منها في هذا المقام حادثتين.

الأولى منهما: وجدتُّ أنَّ فِيدِمان ترجم جزءًا لا بأسَ به من موسوعة السَّخاوي محمد بن إبراهيم الأنصاري الأكفاني السنجاري (ت 749هـ): "إرشاد القاصِد إلى أسمى المقاصِد"([4])، التي لم أجدها في ذاك الوقت في مكتبة جامعة الملك سعود. ولم يمضِ أسبوعان حتى جاءني أستاذي الباني بنسخةٍ استجلبها لأجلي من مكتبته في دمشق، فأفدتُّ منها كثيرًا، جزاه الله عني خيرَ الجزاء.

والحادثة الثانية: في مقالة لفِيدِمان ذكر فيها الساعات، ومنها الساعةُ المائيَّة (البنكام) التي وصفها الشاعرُ أبو الفتح كُشاجِم محمود بن الحسين (ت 360هـ) ووردت في دائرة معارف النُّوَيري "نهاية الأرَب"، وقد شقَّ عليَّ الوقوفُ عليها لأنقلها شعرًا كما وردت. وذكرتُ ذلك لأستاذي الباني، جعله الله في علِّيين، وبعد مدَّة قصيرة جاءني بالأبيات وهي:

رُوحٌ من الماء في جِسمٍ من الصُّفْرِ مؤلَّفٌ بلطيفِ الحسِّ والفِكَرِ

لهُ على الظَّهر أجفانٌ مُحَجَّرةٌ ومُقلةٌ دمعُها جارٍ على قَدَرِ

تَنشا له حرَكاتٌ في أسافلِه كأنَّها حرَكاتُ الماء في الشجَرِ

وفي أعاليهِ حُسَّابٌ مُفَصَّلةٌ للناظرينَ بلا ذِهنٍ ولا نظَرِ([5])

وقبل وفاته بأربعة أيام زُرته في المستشفى فسألني: ماذا فعلتَ في نقل مقالات فِيدِمان إلى العربيَّة؟ فأجبتُه: ماضٍ في العمل، والفضل لله ثم لك يا سيِّدي، فثمَّة أبياتٌ جئتني بها ما كنتُ لأعبِّرَ عنها بلغتي ولو كنت (غوته)!

وأعاد السؤالَ بعد يومين، ولكن بصوتٍ خافت، ترجمه لي نسيبُه الوفيُّ المخلص الأستاذ أبو حذيفة محمَّد الساعور: ماذا عن فِيدِمان؟ فأجبتُه: على ما تحبُّ يا سيِّدي. وما انتهى اليوم حتى فارقَ الحياة، ووَدِدتُّ، إي والله، وَدِدتُّ لو تُوفِّيت في ذاك اليوم علَّ روحي تلتقي بروحه لأهنأَ بصُحبته في عالم الغيب كما هنأت في عالم الشَّهادة.

من اليمين: أيمن ذوالغنى، والشيخ أحمد الحمَّامي، والشيخ عبد الرحمن الباني، ود. عبد الله حجازي،

ود. محمد حسان الطيَّان، وفي الأمام أحمد بن أيمن ذوالغـنى

               

([1]) من كتاب "العلامة المربي عبد الرحمن الباني؛ شذرات من سيرته وشهود عارفيه" صنعة تلميذه أيمـن بن أحمد ذوالغـنى.

([2]) ولد لأب فيزيائي وأم ابنة الكيميائي الشهير Mitscherlich؛ وذلك يوم 1/ 8/ 1852م، وتوفي يوم 7/ 1/ 1928م. حصَّل أسسَ اللغة العربيَّة على يد المستشرق فلايشر (Fleischer). وقد نشر أولَ مقالة له سنة 1876م بعنوان: (مقالات في تاريخ العلوم الطبيعيَّة عند العرب). وبدءًا من سنة 1901م وجَّه فيدمان نشاطه الشخصيَّ شبه الكامل إلى البحث، وإلى فحص العلوم الطبيعيَّة الإسلاميَّة- العربية في القرون الوسطى. لقد كانت بعضُ مقالاته ضخمة حقًّا، بل كان يمحِّص المصادر العربيَّة تمحيصًا منهجيًّا.

هذا وقد نُشرت المقالتان ذواتا الرَّقْم (78) و(79) بعد وفاته. ولطالما استعان فيدمان لدى بحثه في المصادر العربية بالعلماء المتخصِّصين باللغة العربيَّة وآدابها، ومن أهمِّ هؤلاء جورج يعقوب، ويوسف هل، وسوتر، وروسكا وغيرهم.

([3]) مصطفى يعقوب عبد النبي: "تحقيق التراث العلميِّ العربيِّ"، الهيئة العامَّة للمِساحة الجيولوجيَّة، القاهرة، عالم الكتب، ع2، مج14 (رمضان- شوَّال 1413هـ/ 1993م).

 

([4]) نشر الكتاب في مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة، عام 1398هـ/ 1978م.

([5]) والأبيات في ديوان كشاجم، دراسة وشرح وتحقيق د. النبوي عبد الواحد شعلان، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، 1417هـ/ 1997م، ص167-168.