حدث في الثاني من ذي القعدة

زاهد أبو غدة

في الثاني من ذي القعدة من سنة 311 توفي في نيسابور، عن 88 عاماً، الإمام المحدث أبو بكر ابن خزيمة، محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري الشافعي، الحافظ الحجة الفقيه، شيخ الإسلام، الملقب بإمام الأئمة.

ولد ابن خزيمة في سنة 223، وعُنيَ في حداثته بالحديث والفقه، وأراد وهو في السابعة عشرة من عمره أن يرحل في طلب الحديث، روى حفيده محمد بن الفضل بن محمد قال: سمعت جدي يقول: استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة بن سعيد، فقال: اقرأ القرآن أولاً حتى آذَنَ لك. فاستظهرتُ القرآن، فقال لي: امكُث حتى تصلي بالختمة، ففعلت، فلما عيَّدنا أذِنَ لي، فخرجت إلى مرو، وسمعت بمرو الرَوْذ من محمد بن هشام صاحب هشيم، فنُعي إلينا قتيبة. وقتيبة بن سعيد هو أبو رجاء البغلاني المتوفى سنة 240 عن 90 عاماً وهو من كبار رجال البخاري ومسلم. وأخذ ابن خزيمة القراءة عَرْضاً عن عمران بن موسى القزاز البصري، وروى القراءة عنه عرضاً أبو بكر النقاش.

وتفقه ابن خزيمة قبل خروجه إلى مصر على أحمد بن نصر المقرئ، المتوفى سنة 245، وكان ثقة، صاحب سُنَّة، مُحباً لأهل الخير، وأثنى عليه ابن خزيمة وقال سمعته يقول: قرأت أنا على خالي القرآن سبعين مرة، أو زيادة على سبعين مرة.

سمع ابن خزيمة الحديث من جمٍّ غفير من المحدثين، وسمع من ابن راهويه، إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي التميمي المروزي، المتوفى سنة 238، ومحمد بن حميد الرازي المتوفى سنة 248، ولكنه رغم ذلك لم يحدِّث عنهما، وذلك تحرجاً منه لكونه كتب عنهما في صغره وقبل فهمه وتبصره.

ومن الطريف أن هذا الأمر تكرر مع أحد من سمعوا من ابن خزيمة، وهو المحدث أبو محمد بن أبي حامد الشيباني النيسابوري، عبد الله بن أحمد بن جعفر، المولود سنة 302 والمتوفى سنة 372، فقد سمع من محمد بن إسحاق بن خزيمة وهو صغير فتورع عن الرواية عنه لصغره، وكانت لأبي محمد ثروة ظاهرة فأنفق أكثرها على العلم وأهل العلم وفي الحج والجهاد وغير ذلك من أعمال البر.

ولكن ابن راهويه ترك في نفس ابن خزيمة أثراً كبيراً لسعة علمه ومتانة حفظه، فقال عنه: والله لو أن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي كان في التابعين لأقروا له بحفظه وعلمه وفقهه.

وممن تأثر به ابن خزيمة في حداثته الفقيه المحدث أبو محمد ابن شيرويه، عبد الله بن محمد النيسابوري المتوفى سنة 305، وكان فقيها محدثا مشهورا، طلب الحديث والعلم أولا عشرين سنة، ثم اشتغل بالفتوة سنين، ثم أقبل يصنف الكتب عشرين سنة، ثم حدث عشرين سنة. وكان أسنَّ من ابن خزيمة بحوالي عشر سنين، قال ابن خزيمة: كنت أرى عبد الله بن شيرويه يناظر وأنا صبي، فكنت أقول: تُرى أتعلَّمُ مثل ما يعلم ابن شيرويه قط؟

وكان ابن خزيمة مضرب المثل في سعة العلم والاتقان، وسبب ذلك نهمته في العلم وتطلعه إلى التفوق فيه، قال أبو بكر محمد بن جعفر، سمعت ابن خزيمة وسئل: من أين أوتيت العلم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماء زمزم لما شُرِبَ له. وإني لما شربت سألت الله علما نافعا.

وكانت صلته بالله قوية يستمد منه العون والهداية، قال ابن خزيمة: كنت إذا أردت أن أصنف الشئ أدخل في الصلاة مستخيراً حتى يُفتَحَ لي، ثم أبتدئ التصنيف. وكان قد تفرغ يكليته للعلم والحديث لا يشغله عن ذلك شيء من شؤون الدنيا، حتى إنه كان لا يهتم بما يأخذ منه أهل بيته لمصروفهم، قال الإمام الحاكم: سألت محمد بن الفضل بن محمد عن جده، فذكر أنه كان لا يدَّخر شيئاً جهده، بل ينفقه على أهل العلم، وكان لا يعرف سنجة الوزن، ولا يميز بين العشرة والعشرين، ربما أخذنا منه العشرة، فيتوهم أنها خمسة.

وكان يري اتباع السنة حتى في مخالفة عادات أهل ذلك الزمان فيما لا تَعبُّد فيه مثل دخول حمام السوق وقص الشعر فيها، وقيل له: لو حلقت شعرك في الحمام؟ فقال: لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حماما قط، ولا حلق شعره، إنما تأخذ شعري جارية لي بالمقراض.

وكان حريصاً على سماع الحديث وبخاصة ما انفرد به راويه ولم يتمكن هو من روايته، كان من معاصريه الإمام الحافظ ابن بجير، عمر بن محمد بن بجير الهمداني السمرقندي، محدث ما وراء النهر، المولود سنة 223 والمتوفى سنة 311، وتفرد هذا الأمام بحديث غريب صالح الإسناد، فقال: أخبرنا العباس بن الوليد الخلال، حدثنا مروان بن محمد، حدثنا معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد مرفوعا قال: إن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم هي خير من حُمر النِعَم، ألا وهي الركعتان قبل صلاة الفجر. قال البيهقي في السنن بعد أن أورد الحديث: وبلغني عن محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه قال: لو أمكنني أن أرحل إلى ابن بجير لرحلت إليه في هذا الحديث.

ولهذا التفرغ التام والنية الصادقة والعمل الدؤوب، تمكن من أن يكون واحد عصره في الحفظ والإتقان، قال أبو حاتم بن حبان التميمي قال: ما رأيت على وجه الارض من يحفظ صناعة السنن، ويحفظ ألفاظها الصحاح، وزياداتها، حتى كأن السنن كلها بين عينيه إلا محمد بن إسحاق بن خزيمة فقط. وقال أبو الحسن الدارَقطني: كان ابن خزيمة إماما ثبتا، معدوم النظير.

قال ربيب ابن خزيمة أبو أحمد حسينُك: سمعت إمام الائمة أبا بكر يحكي عن علي بن خشرم، عن ابن راهويه: أنه قال: أحفظ سبعين ألف حديث. فقلت لابن خزيمة: كم يحفظ الشيخ؟ فضربني على رأسي وقال: ما أكثر فضولك! ثم قال: يا بني! ما كتبت سوداء في بياض إلا وأنا أعرفه.

ورحل ابن خزيمة إلى الحجاز والشام والعراق ومصر، ومن أساتذته أبو يعقوب إسماعيل بن قتيبة السلمي الزاهد، المتوفى سنة 284 وقد جاوز الثمانين، وسمع السلمي بالعراق أحمد بن حنبل، وقرأ المصنفات كلها على أبي بكر بن أبي شيبة، وهي أجلُّ رواية لأبي بكر بن أبي شيبة، وكان الإنسان إذا رآه يذكر السلف لسمته وزهده وورعه، وكان يحدث والكتاب بيده وهو يبكي.

ومن أساتذته الإمام أبي محمد عبد الله بن محمد بن عيسى المروزي، المولود سنة 220 والمتوفى سنة 293، والمعروف بعَبدَان، الإمام الزاهد الحافظ الورع، كان إمام مرو في عصره، من أصحاب الحديث، وقرأ علم الشافعي على المزني والربيع، وأقام بمصر سنين كثيرة، وأول من حمل مختصر المزني إلى مرو. خرج عبدان إلى الحج سنة 287 فلما بلغ نيسابور توقف ابن خزيمة عن الفتيا وصار يبعث إليه رقاع الفتاوي ويقول: لا أفتي ببلدة أستاذي بها!

وهذا الاحترام والتقدير كان منهج ابن خزيمة لايحيد عنه، ويؤكد ذلك ما جرى لابن خزيمة في جنازة أبي عبد الله البوشنجي، فقد كان أبو عبد الله العبدي البوشنجي محمد بن إبراهيم بن سعيد المتوفى سنة 291، أحد الأئمة الفقهاء الحفاظ العلماء، وشيخ أهل الحديث في عصره، ومحل تبجيل واحترام كل من حوله، قال أبو زكريا العنبري: شهدت جنازة الحسين بن محمد القباني سنة 289، فقُدِّمَ أبو عبد الله للصلاة عليه، فصلى عليه، فلما أراد أن ينصرف قُدِّمَت دابته، وأخذ أبو عمر الخفَّاف بلجامه، وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمةبركابه، وأبو بكر الجارودي، وإبراهيم بن أبي طالب يسويان عليه ثيابه. فمضى ولم يكلم واحداً منهم. ولما توفي هذا الإمام الجليل قُدِّمَ ابنُ خزيمة ليؤم صلاة الجنازة عليه إيذاناً بأنه أعلم من بقي بعده، وسئل ابن خزيمة عن مسألة وهو في الجنازة، فقال: لا أفتي حتى يواريه لحده. وذلك احتراماً لمكانة أستاذه وشيخ علماء بلده.

ودرس ابن خزيمة الفقه في مصر على الفقيه الإمام أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المُزني المصري الشافعي، المتوفى سنة 264، وهو الذي قال عنه الشافعي: ناصرُ مذهبي. وهو إمام الشافعيين وأعرفهم بطريق الشافعي وفتاواه وما ينقله عنه، وصنف في المذهب كتباً كثيرة أهمها مختصر المزني، وهو أصل الكتب المصنفة في مذهب الشافعي، وعلى مثاله رتبوا وبكلامه فسروا وشرحوا.

وكان الإمام المزني إذا فاتته الجماعة صلى خمساً وعشرين صلاة، فقال له محمد بن إسحاق بن خزيمة: أيها الشيخ، لَجلوسك مع أصحابك أفضل من صلاتك هذه، يعني التطوع، فقال له المزني: لم؟ فقال: لأن صلاتك هذه لا تعدوك، وتعليمك إياهم يعدوك إليهم، فتعم بركاته وتتم عاقبته، فقال: صدقت، ولكني أجمع بين الأمرين: ألقي عليهم المسألة ويعملون فكرتهم فيها، وآخذ في تطوعي، فإلى أن يفرغوا أفرغ، فقال ابن خزيمة: ها هنا زيادة وهي أنك إذا ألقيت المسألة عليهم ثم أقبلت بوجهك إليهم كنت معيناً لهم على استخراج المسألة، قال: كذلك هو.

وكان ابن خزيمة في مجلس المزني فجاءه فقيهٌ حنفي من العراق، فسأل المزني عن القتل شبه العَمْد، وقال: إنَّ الله وصف في كتابه القتل صنفين عمداً وخطأ، فلم قلتم إنه ثلاثة؟ فذكر المزني الخبر الذي رواه الشافعي: ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد، فقال له السائل: في رواته علي بن زيد بن جذعان، أتحتج به وهو ضعيف؟ فسكت المزني، فقال ابن خزيمة: قد روى الخبر غيرُ علي بن زيد، فقال من رواه؟ قال ابن خزيمة: أيوبٌ السختياني وخالد الحذاء، فقال: فمن عقبة بن أوس الذي يرويه عن عبد الله بن عمر؟ فقال: شيخٌ بصري روى عنه ابن سيرين مع جلالته، فقال العراقي للمُزني: أنت تناظر أو هذا؟ قال: إذا جاء الحديث فهو يناظر لأنه أعلم به مني، ثم أتكلم أنا.

ولما جمع الإمام ابن خزيمة بين الحديث والفقه، قال الامام أبو العباس بن سريج وذُكِرَ له ابن خزيمة فقال: يستخرج النُكت - يعني الفوائد- من حديث رسول الله بالمنقاش. وقال الحافظ أبو علي النيسابوري، الحسين بن علي المتوفى سنة 349 عن 77 عاماً: لم أر أحدا مثل ابن خزيمة! وكان ابن خزيمة يحفظ الفقهيات من حديثه كما يحفظ القارئ السورة.

ودرس كذلك في مصر على الإمام يونس بن عبد الأعلى المصري الفقيه المقرىء المحدِّث المتوفى سنة 264، تلميذ الشافعي في الفقه والحديث، وكان الشافعي يقول: ما رأيت بمصر أعقل منه!

وأخذ ابن خزيمة كذلك عن الربيع بن سليمان المرادي، المتوفى سنة 270 عن 96 عاماً، وهو صاحب الإمام الشافعي وراوي كتبه، وأول من أملى الحديث بجامع ابن طولون. وقال الربيع: استفدنا من ابن خزيمة أكثر مما استفاد منا!

ودرس ابن خزيمة على الإمام محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، تلميذ مالك والشافعي، وقال: كان محمد أعلم من رأيت بمذهب مالك وأحفظهم له، سمعته يقول: كنت أتعجب ممن يقول في المسائل لا أدري! قال أبو بكر ابن خزيمة: فأما الإسناد فلم يكن يحفظه، وما رأيت في فقهاء الاسلام أعرف بأقاويل الصحابة والتابعين من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم.

وروى ابن خزيمة قصة الخلاف الذي شجر بين محمد ابن عبد الحكم وبين يوسف بن يحيى البويطي، فقال: كان محمد من أصحاب الشافعي وممن يتعلم منه، فوقعت وحشة بينه وبين يوسف بن يحيى البويطي في مرض الشافعي الذي توفي فيه، فحدثني أبو جعفر السكري - صديق للربيع - قال: لما مرض الشافعي مرضه الذي توفي فيه جاء محمد بن الحكم ينازع البويطي مجلسَ الشافعي فقال البويطي: أنا أحق به منك وقال ابن عبد الحكم: أنا أحق بمجلسه منك، فجاء الحميدي - وكان في تلك الأيام بمصر - فقال: قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف بن يحيى، وليس أحدٌ من أصحابي أعلم منه. فقال له ابن عبد الحكم: كذبت، فقال له الحميدي: كذبتَ أنت، وكذب أبوك، وكذبت أمك! وغضب ابن عبد الحكم فترك مجلس الشافعي، وتقدم فجلس في الطاق الثالث، وترك طاقاً بين مجلس الشافعي ومجلسه، وجلس البويطي في مجلس الشافعي في الطاق الذي كان يجلس، قال أبو بكر بن خزيمة: وقال لي ابن عبد الحكم: كان الحميدي معي في الدار نحواً من سنة، وأعطاني كتاب ابن عيينة، ثم أبوا إلا أن يوقعوا بيننا ما وقع.

وجرت لابن خزيمة في مصر قصة مشهورة، وهي أنه كان معه فيها يطلبان العلم كذلك الإمامان الجليلان محمد بن جرير ومحمد بن نصر المروزي، فأرملوا ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وأضر بهم الجوع؛ فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الخيرة؛ قال: فاندفع في الصلاة فإذا هم بالشموع ورسولٌ من قِبَل والي مصر يدق الباب، ففتحوا الباب، فنزل عن دابته، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل: هو هذا، فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة، فقالوا: هو هذا يصلي، فلما فرغ دفع إليه صرة فيها خمسون ديناراً، ثم قال: إن الأمير كان قائلاً بالأمس فرأى في المنام خيالاً قال: إن المحامد طووا كشحهم جياعاً، فانفذ إليكم هذه الصرر وأقسم عليكم إذا نفدت فابعثوا إلي أحدكم.

وصار ابن خزيمة من أركان المذهب الشافعي في زمانه ومكانه، وكان يعتز بذلك ويفضل الشافعي على غيره من الأئمة، قال أبو بكر القفال، محمد بن علي ابن إسماعيل المتوفى سنة 356، وكان إمام عصره بما وراء النهر للشافعيين: دخلت على أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة أول ما قدمت نيسابور وأنا شاب حدث السن، فتكلمت بين يديه في مسألة فقال لي: من أين أنت؟ فقلت من أهل الشاش. قال لي: يا بني علي من درست الفقه؟ قلت: إلى أبي الليث، فقال: على من درس؟ فقلت: على ابن سريج، فقال: وهل أخذ ابن سريج العلم إلا من كتبٍ مستعارةٍ؟ فقال بعض من حضر: أبو الليث هذا مهجور بالشاش فإن البلد للحنابلة، فقال أبو بكر: وهل كان ابن حنبل إلا غلاماً من غلمان الشافعي! وسئل ابن خزيمة: هل تعرف سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتابه؟ قال: لا. ومع ذلك قال رحمه الله: ما قلدت أحداً منذ بلغت ستة عشر سنة.

ولعل هذه الحماسة للشافعي كانت في مرحلة مبكرة من حياته، فقد كان له مع مخالفيه من الأحناف مواقف يتجلى فيها الإنصاف والعدل، فقد تولى أبو محمد بن سلمويه الفقيه النيسابوري، عبد الله بن سلمة بن يزيد المتوفى سنة 298، قضاء نيسابور بإشارة ابن خزيمة، قال حفيده أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة: سمعت جدي يقول: كتب إليَّ الأميرُ أبو إبراهيم إسماعيل بن أحمد الساماني باختيار قاضي نيسابور فوقعت الخيرة على عبد الله بن سلمويه، وهو لي مخالف في المذهب، لأمانته وفقهه وتمكنه من نفسه، فقُلِّد القضاء وبقي محمود الأثر إلى أن توفى رحمه الله تعالى.

ومن القصص ذات الدلالات في الموضوع، قصة جرت مع ابن الأمير أحمد بن إسماعيل الذي تولى سنة 295 بعد وفاة والده، فقد حكي عن أبو ابن خزيمة قال: كتب إلى أحمد بن إسماعيل بن أحمد باختيار قاضي نيسابور، ووقع اختياري بعد الاجتهاد على أربعة أحدهم محمد بن زياد البُزدِيغَرَي، وكان فقيهاً على مذهب الكوفيين - أي الأحناف - زاهدا في الدنيا، فحضرني محمد بن زياد كئيباً قلقا من ذلك، وعاتبني فيه فقال: ما الذي ظهر لك مني؟ ما الذي جنيت حتى عاملتني بمثل هذا؟ فقلت: يا أبا عبد الله ما أردت إلا الخير! فلم يزل يبكي حتى رحمته وضربت على اسمه. وتوفي محمد بن زياد في سنة295.

وقد تبنى الإمام ابن خزيمة - بالمفهوم الشرعي - أحد أولاد جيرانه، وحدب عليه وأحاطه برعايته، والمتبنى هو أبو أحمد الحسين بن علي التميمي المعروف بحُسينك، ويقال له كذلك: حسينك بن منينة نسبة إلى جدته العليا، ويقال له كذلك: حسينك بن متكان وهي أم أبيه، وهو من أسرة عريقة في النسب والثراء من عرب نيسابور.

وعاش حسينك في حجر ابن خزيمة من حين ولد إلى أن توفي الإمام، وهو ابن 23 سنة، وكان الإمام إذا تخلف عن مجالس السلاطين بعث بالحسين نائبا عنه، وكان يقدمه على جميع أولاده ويقرأ له وحده ما لا يقرؤه لغيره، وتخلَّق حسينك بأخلاق الإمام ابن خزيمة في التقوى والعبادة، قال الحاكم في تاريخ نيسابور: كان حسينك التميمي يحكي الإمام أبا بكر بن خزيمة في وضوئه وصلاته، فإني ما رأيت من الأغنياء أحسن طهارة وصلاة منه، ولقد صحبته قريبا من ثلاثين سنة في الحضر والسفر وفي البحر والبر، وما رأيته ترك صلاة الليل، وكان يقرأ كل ليلة سبعا من القرآن ولا يفوته ذلك، وكانت صدقاته دائمة في السر والعلانية، فيعيش بمعروفه جماعة من أهل العلم والستر، ولما وقع الاستنفار لطرسوس دخلت عليه وهو يبكي ويقول: قد دخل الطاغي ثغر المسلمين طرسوس وليس في الخزانة ذهب ولا فضة، ثم باع ضيعتين نفيستين من أجلِّ ضياعه بخمسين ألف درهم وأخرج عشرة من الغزاة المطوعة الأجلاد بدلا عن نفسه، وما أعلم أنه خلا رباط فراوة قط عن بديل له بها فارس شهم للنيابة عن نفسه. وتوفي سنة 375، رحمه الله تعالى.

وكان ابن خزيمة يقدر لغيره من العلماء والمحدثين أقدارهم، ويشيع ذكرهم واحترامهم بين طلبة العلم، قال ربيبُه حسينك: لما رجعت من بغداد إلى نيسابور سألني محمد بن إسحاق بن خزيمة فقال لي: ممن سمعت ببغداد؟ فذكرت له جماعة ممن سمعت منهم، فقال: هل سمعت من محمد بن جرير شيئاً؟ فقلت له: لا إنه ببغداد لا يُدخل عليه لأجل الحنابلة. وكانت تمنع منه، فقال: لو سمعتَ منه لكان خيراً لك من جميع من سمعت منه سواه.

وقال أبو بكر النيسابوري الجلاب، محمد بن أحمد بن بالويه، المتوفى سنة 340، وكان من أعيان المحدثين والرؤساء ببلده: قال لي أبو بكر بن خزيمة: بلغني أنك كتبت عن محمد بن جرير تفسيره؟ قلت: نعم، كتبته عنه كله إملاءً من سنة 283 إلى سنة 95. فاستعاره ابن خزيمة مني، ثم رده بعد سنين، ثم قال: لقد نظرت فيه من أوله إلى آخره، وما أعلم على أديم الارض أعلم من محمد بن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة.

ومن محدثي عصره المحدث الحافظ أبو حامد النيسابوري، أحمد بن محمد بن الحسن المعروف بابن الشرقي، المولود سنة 240 والمتوفى سنة 325،  وكان ثقة ثبتاً متقناً حافظاً، قال الحافظ أبو علي النيسابوري، الحسين بن علي التميمي: سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة ونظر إلى أبي حامد بن الشرقي فقال: حياةُ أبي حامد تحجز بين الناس والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان ابن خزيمة يُشرِكُ في مجلسه ودرسه من جاءه من العلماء والمحدثين، كان من معاصري ابن خزيمة أبو حامد الأعمشي، أحمد بن حمدون بن أحمد بن رستم الأعمشي النيسابوري، ويعرف كذلك بابن أبي صالح وبأبي تراب، وإنما قيل له الأعمشي لانه كان يحفظ حديث سليمان بن مهران إمام أهل الكوفة، والمعروف بالأعمش. دخل الأعمشي يوماً مجلس محمد بن إسحاق بن خزيمة إذ دخل أبو تراب الأعمشي فقال له ابن خزيمة: يا أبا حامد، كم روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد؟ فانحدر أبو حامد يذكر الترجمة حتى فرغ منها وأبو بكر محمد بن إسحاق يتعجب من مذاكرته. وتوفي أبو حامد الأعمشي في سنة 321.

وكان ابن خزيمة على مكانته لا يتردد في الاستعانة بغيره من العلماء ممن هو أعلم منه في أحد العلوم، وكان من علماء عصره أبو طاهر محمد بن الحسن بن محمد المحمد آبادي، المتوفى سنة 336، وكان مقدما في معرفة الأدب ومعاني القرآن، وكان أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة إذا شك في شئ من اللغة لا يرجع فيها إلا إليه.

وروى محمد بن إسحاق بن خزيمة حديثاً عن أبي سعيد الخدري في خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونص الحديث: قُبِضَ النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة، وفيهم أبو بكر وعمر، قال: فقام خطيب الأنصار فقال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وخليفته من المهاجرين، ونحن كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أنصار خليفته، كما كنا أنصاره، قال: فقام عمر بن الخطاب، فقال: صدق قائلكم، أما لو قلتم غير هذا لم نتابعكم، فأخذ بيد أبي بكر، وقال: هذا صاحبكم فبايعوه، وبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصار.

قال: فصعد أبو بكرٍ المنبر، فنظر في وجوه القوم، فلم ير الزبير، قال: فدعا الزبير، فجاء، فقال: قلت: ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحواريه، أردت أن تشق عصا المسلمين، قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام، فبايعه، ثم نظر في وجوه القوم، فلم ير علياً، فدعا بعلي بن أبي طالب، فجاء، فقال: قلت: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين، قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعه.

قال ابن خزيمة: جاءني مسلم بن الحجاج، فسألني عن هذا الحديث، فكتبت له في رقعة، وقرأت عليه، فقال: هذا حديث يسوى بَدَنة، فقلت: يسوى بدنة؟! بل هذا يسوى بَدَرة. أي ألف درهم!

وقال أبو علي النيسابوري: استأذنت أبا بكر محمد بن اسحاق بن خزيمة في الخروج الى العراق سنة 303، فقال: توحِشُنا مفارقتُك يا أبا علي، وقد رحلتَ وأدركتَ الأسانيد العالية، وتقدمتَ في حفظ الحديث، ولنا فيك فائدة وأُنس فلو أقمت؟ فما زِلتُ به حتى أذن لي إلى الريَّ وبها علي بن الحسن بن سلم الأصبهاني وكان من أحفظ مشايخنا وأثبتهم وأكثرهم فائدةً، فأفادني عن إبراهيم بن يوسف الهسنجاني وغيره من مشايخ الريِّ ما لم أكن أهتديت أنا إليه، ودخلت بغداد وجعفر الفريابي حيّ وقد أمسك عن التحديث، ودخلت عليه غير مرة وبكيت بين يديه، وكنا ننظر اليه حسرةً، ومات وأنا ببغداد سنة 304 وصليت على جنازته.

وشملت رعاية ابن خزيمة القريب والبعيد من طلب، فقد جاءه إلى نيسابور المحدث  أبو بكر البرذعي، عبد العزيز بن الحسن العابد الرَّحالة، ولما ورد على ابن خُزَيمة أتمنه على حديثه لزهده وورعه، وصار المفيد بنيسابور في حياته وبعد وفاته، ثم خرج سنة 318 من نيسابور إلى رباط فرَاوة فأقام به مدة ثم سكن نَسا إلى أن توفى بها سنة 323.

ولم تقتصر الرواية عن ابن خزيمة على الحديث الشريف، بل أخذ عنه قراءات القرآن الكريم أبو بكر أحمد بن الحسين بن مِهران الزاهد المقرئ المِهراني، من أهل نيسابور، صاحب كتاب الغاية في القراءات، وغيرها من التصانيف، وكان إماما زاهدا ورعا عارفا بالقراءات وعللها، ولد سنة 295، وتوفي رحمه الله سنة 381.

وأكرم الله ابن خزيمة بحفيد صار كذلك من المحدثين هو محمد بن الفضل، الذي سمع جده، ومحمد بن إسحاق السراج، وأحمد بن محمد الماسرجسي، وأقرانهم. وكما اعتنى جده بمن جاءه من المحدثين فقد قيض الله للحفيد من يهتم به، قال أبو عبد الله الحاكم: عقدتُ له مجلس التحديث سنة 368، ودخلتُ بيت كتب جده، وأخرجت له 250 جزءاً من سماعاته الصحيحة، وانتقيت له عشرة أجزاء، وقلت: دع الأصول عندي صيانةً لها، فأخذها وفرقها على الناس، وذهبت، ومد يده إلى كتب غيره، ثم إنه مرض، وتغير بزوال عقله في سنة 384، وتوفي سنة 387.

وفق الله ابن خزيمة للبحث والتأليف ومصنفاته تزيد على 140 كتاباً، أهمها مختصر المختصر المسمى صحيح ابن خزيمة، وقد حققه الدكتور مصطفى الأعظمي، وله كذلك كتاب المسائل في أكثر من ألف ورقة، وكتاب التوكل، وله كتاب في فقه حديث بريرة في ثلاثة أجزاء، وإتمامماً للفائدة نورد هنا حديث بريرة رضي الله عنها الذي رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود وغيرهم: عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت بريرة تستعين بها في كتابتها، ولم تكن قضت من كتابتها شيئا، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك، فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي، فعلت.

فذكرت ذلك بريرة لأهلها، فأبوا، وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك، فلتفعل، ويكون لنا ولاؤك.

فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابتاعي وأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مئة مرة. شرط الله أحق وأوثق.

ومتع الله ابن خزيمة بالصحة والهمة العالية، فقد ذهب من نيسابور إلى جُرجان في طريق تمر بالصحراء وتصعد قلل الجبال، في سنة 300 وكانت سنه 77 عاماً، وحدث في جرجان ودِهِستان.

وبقيت تلك المنطقة عامرة بالمحدثين حتى بعد وفاة ابن خزيمة، وجاء من بعده الإمام أبو نُعَيم عبد الملك بن محمد بن عدي الجرجاني الأستراباذي، وكان أحد أئمة المسلمين والحفاظ بشرائع الدين مع صدق وتورُع وضبط وتيقظ سافر الكثير وكتب بالعراق والحجاز ومصر وورد بغداد قديماً وحدث بها فروى عنه من أهلها يحيى بن محمد بن صاعد وغيره، وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: كان أبو نعيم الجرجاني أوحد ما رأيت بخراسان بعد أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة مثله وأفضل منه وكان يحفظ الموقوفات والمراسيل كما نحفظ نحن المسانيد. ومولده سنة 242 وتوفي باستراباذ في ذي الحجة سنة 323.

بل صار ابن خزيمة عَلَماً ينتسب إليه الناس، قال السمعاني رحمه الله في الأنساب: الخُزَيمي: هذه النسبة إلى أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر النيسابوري الخزيمي، إمام الأئمة، اتفق أهل عصره على تقدمه في العلم، وجماعة إليه يُنسبون يقال لكل واحد منهم الخزيمي.

أما لقب إمام الأئمة فهو مما ينبغي التوقف عنده: قال الأستاذ سلمان العودة: ومن الألقاب التي ينبغي الامتناع عن إطلاقها لقب (إمام الأئمة)، وهذا اللقب يطلق على عالم فحل فذ مشهور، هو الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح، صحيح ابن خزيمة والمصنفات المشهورة المعروفة، لكن الواقع أن إطلاق لقب إمام الأئمة عليه فيه نظر، فإن إمام الأئمة هو محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن يطلق هذا اللقب على غيره.