سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني (24)

سطور من حياة الداعية الرباني

عمر التلمساني (24)

بدر محمد بدر

[email protected]

وذات مرة استدعاني أثناء إشرافي على باب "أخبار الشباب والجامعات" في مجلة الدعوة, وأنا لا زلت طالبا في الجامعة, وكنت حديث العهد بالعمل في المجلة, وربما رآني عدد قليل من المرات, ووجدته غاضباً وأمامه ملف "باب الشباب والجامعات" وبادرني بالقول: "إما أن تلتزم بسياسة التحرير, أو أترك لك المجلة وأذهب إلى بيتي!".. فاعتذرت آسفا, وأعطاني الملف لأراجعه من جديد, فوجدت أحد الزملاء الصحفيين كتب موضوعاً يحمل بشدة على مباحث أمن الدولة أثناء متابعته لإحدى القضايا في محافظة المنيا, مما يتنافى مع الموضوعية التي كانت سمة العمل في "الدعوة", ولأن هذا الزميل يقاربني في العمر, خشيت أن أعدل وأصحح له موضوعه, وتركت ذلك للمشرف العام الأستاذ عمر, الذي تدخل بقلمه وحذف كل ما رآه تجاوزاً لايليق, ولم أشرح للأستاذ عمر ما حدث, فقد كنت اتفق ـ ولازلت ـ مع رؤيته باحترام الموضوعية والنقد البناء وعدم التجريح.. ولاتزال كلماته ترن في أذني كأني سمعتها قبل قليل, ولم أذكر يوما, بعد هذا التاريخ, أن اعترض على موضوع قدمته أو تابعته.. كان ـ رحمه الله ـ عظيماً, حتى في غضبه!.

وفي أحد الأيام قال لي الأستاذ إبراهيم شرف سكرتير المرشد العام إن الأستاذ عمر يحب الورد, فهل يمكنك أن تتولى أمر إحضاره ؟ فرحبت بشدة, وأصبحت أشتري باقة كبيرة من الورد البلدي والياسمين وعصفور الجنة والقرنفل وغيره, أشتري الباقة صباح السبت فتبقى على مكتبه حتى أشتري غيرها صباح الثلاثاء, وعندما كنت أدخل ومعي الورد, كنت أسمع منه كلمة "الله" استحسانا وفرحا وإعجابا بالورد, وفي تلك اللحظة تغمرني سعادة كبيرة أن كنت سببا في ابتهاجه وراحته.. وذات يوم زاره أحد الإخوان, فوجد الورد فوق مكتبه, وعندما غادر المكتب أسر لبعض الحاضرين من الإخوان أنه غاضب من وجود الورد والزهور في مكتب المرشد العام, بينما الدعوة تمر بظروف صعبة وهناك عدد من الإخوان لا يزالون في السجون والمعتقلات, وحال الجماعة كما يعلم الجميع!, لكن الأستاذ عمر علق ضاحكا: "الورد يحب من يحبه", وكنت قرأت أن من صفات القائد الناجح أن يعيش جوا طبيعيا, يساعده على رؤية الأمور بشكل طبيعيو وبالتالي لا يصدر عنه شيء وهو متوتر أو تحت ضغط عصبي, وكان هذا درسا في القيادة!.

كان الأستاذ عمر ـ رحمه الله ـ كبيرا في تصرفاته واحترامه للآخرين.. ذات مرة جاء إلى مقر الإخوان في شارع سوق التوفيقية أوائل عام 1986 الأستاذ الفاضل والمربي الكبير الحاج عباس السيسي, وسأل عن الأستاذ المرشد, فقيل له إنه مريض في البيت ولم يحضر إلى المكتب اليوم, فقال: أريد زيارته لأمر مهم, فانتدبني الإخوان للذهاب إلى بيت الأستاذ عمر في شارع القبيسي بحي الضاهر بمنطقة غمرة, وطرقنا الباب ودخلنا؛ أنا إلى غرفة الصالون والحاج عباس إلى غرفة النوم, حيث يرقد الأستاذ المرشد, فسأله من جاء معك ؟ فقال: الأخ بدر, فناداني لأجلس معهما, فاعتذرت لكنه أمرني أن أجلس.. كان الحاج عباس السيسي عائدا من سفر خارج مصر, بعد أن شارك في اجتماعات التنظيم الدولي للإخوان المسلمين, ويريد عرض وقائع الاجتماع وما تم التوصل إليه من قرارات وتوصيات على فضيلة المرشد العام, وشعرت بالحرج, لكنني اجتهدت ألا أستمع إلى ما يقال, والحمد لله نجحت, لأن الموضوع لا يعنيني ولا يشغلني, وزادت مكانة الأستاذ عمر في نفسي احتراما وتقديرا وإجلالا.. لقد كان عظيما وراقيا في كل أحواله.

وفي أحد الأيام زاره أخ من الإخوان المعروفين, من الذين وقعوا في فتنة تأييد نظام عبد الناصر في الخمسينيات (كان نظام الحكم في تلك الفترة يضغط على المحبوسين والمعتقلين من الإخوان, من أجل إرسال برقية تأييد ومبايعة لجمال عبد الناصر, واهما إياهم بالإفراج عنهم وحصولهم على حريتهم بهذه الورقة البسيطة, ولظروف كثيرة استجاب البعض لكتابة هذه البرقيات, لكن نظام الحكم استغلها أسوأ استغلال للضغط على هؤلاء وأولئك, وكانت فتنة أحدثت شرخا كبيرا في نفوس الإخوان), وطابت نفس الكثير من هؤلاء, وأرادوا العودة من جديد إلى صفوف الدعوة والعمل من خلالها, فاستغرب بعض القريبين من الأستاذ عمر كيف يسمح لهؤلاء بالعودة إلى العمل مع الجماعة مرة أخرى, بعد هذا الشرخ الذي تسببوا فيه, وهذا الجرح الذي لم يندمل بعد؟!.. لكن الأستاذ عمر رد بكل وضوح وشموخ وبصيرة: "لن أرفض أبداً يداً مدت إلى للعمل للإسلام, وماذا أقول لربي إذا فعلت ذلك ؟!", وهكذا فتح الباب واسعاً أمام الجميع لخدمة دينهم, فأحبه الجميع.

كان الأستاذ عمر ـ رحمه الله ـ جميلاً يحب الجمال في كل شئ.. جمال الجوهر والمظهر.. جمال الأسلوب والخلق.. جمال المكان والطبيعة.. ذات يوم دخلت عليه بمظهر جميل, فقال: الله الله يا بدر.. ذكرتني بشبابي!.. مع أني ما رأيته إلا جميل الجوهر والمظهر دائماً.. وعندما حملت إليه ابنتي قبل أن تكمل شهرها الثالث, وكان في فراش المرض في مستشفى كليوباترا بمصر الجديدة, وقدمتها إليه ليدعوا لها, سألني ما اسمها ؟ قلت: "حنان" فقال: الله .. اللهم أرزقها الحنان والوداد والحب, وقد استجاب الله دعاءه, وهي الآن زوجة وأم.. بارك الله في حياتها وفي أسرتها.