حدث في السابع عشر من شوال

محمد زاهد أبو غدة

في يوم الجمعة السابع عشر من شوال سنة 257 دخل إلى البصرة المتمرد علي بن محمد الورزنيني، الملقب بصاحب الزنج، وقت صلاة الجمعة فاستباحها وقتل أهلها إلى يوم السبت، ثم عاد يوم الاثنين وفرق جنده فيها، ونادى في أهل البصرة بالأمان، ولما ظهر الناس قتلهم، فلم يسلم إلا نزر قليل، وأحرق المسجد الجامع ومن كان فيه، فعم الحريق الناس والدواب والمتاع وغير ذلك، ويقدر من قتل فيها بعشرين ألف شخص.

وكان هذا التمرد من أكبر الفتن في العصر العباسي، وجاء تتويجاً لفتن داخلية وتمرد تلو تمرد، ففي سنة 256 قُتِلَ الخليفةُ المهتدي ولم تمض على خلافته سنة، وفي سنة 257 تمرد محمد بن واصل في فارس وغلب عليها.

أما صاحب الزنج فقد زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وخرج أول أمره في نفر قليل، فأخذه الوالي، فحبسه ثم أطلقه، فخرج في قَراب البصرة وجَمَعَ الزنج الذين كانوا يكتسحون السِّباخ واستغواهم، وأطمعهم أنه يملكهم ما في أيدي أسيادهم، فاجتمع له خلق كثير وجمع غفير، وعبر دجلة ونزل قرية تسمى الدينارية، ثم خرج سنة 249 إلى البحرين- القطيف اليوم - ، وادعى أنه من ولد علي بن أبي طالب، ودعا الناس إلى طاعته فتبعه جماعة، وأباه جماعة، فوقع بينهم قتال على ذلك، فانتقل عنهم إلى الأحساء، ثم كان ينتقل في البادية من حي إلى حي، ولم يزل أمره يقوى، وكان يقول: أوتيت آيات من آيات القرآن إمامتي منها، لُقِّنتُ سوراً من القرآن لا أحفظها، فجرى بها لساني في ساعة واحدة، منها: سبحان، والكهف، وص. وزعم أن سحابة أظلته ونودي منها: اقصد البصرة.

وأعلن صاحب الزنج تمرده الصريح في سنة 255، والتف حوله سودان أهل البصرة ورعاعها، فامتلكها واستولى على الأُبُلَّة وتتابعت لقتاله الجيوش، فكان يظهر عليها ويشتتها، ونزل البطائح، وامتلك الأهواز، وأغار على واسط، وجعل مقامه في قصر اتخذه بمدينته التي سماها المختارة.

واتجه صاحب الزنج إلى حصار البصرة ومنع الأرزاق عنها لفترة طويلة، وفشلت الجيوش التي أرسلها الخليفة من بغداد في هزيمته وفك حصاره، فقد كانت ضعيفة المعنويات هزيلة الإدارة، وكان قبل ذلك قد وقعت فتن داخلية بين أهل البصرة الذين انقسموا حزبين: بلالية وسعدية، واستعان صاحب الزنج بالأعراب وأغراهم بالنهب فانضمت إليه فئات منهم، ولما هاجم البلد خرج إليه بعض أهلها وفُرسانٌ من جند الخليفة، فلم يُغنِ قليلُ من خرج من أهل البصرة إلى جموع الزنج شيئا، وانهزم أهل البصرة راجعين وفى أخراهم القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشمي وهو على بغل متقلد سيفا يصيح بالناس: ويحكم أتسلمون بلدكم وحرمكم؟! هذا عدوكم قد دخل البلد؟! فلم يلووا عليه ولم يسمعوا منه فمضى، وانكشفت سكة المِربَد فصار بين المنهزمين والزنج فيها فضاء يسافر فيه البصر، ودخل الزنج البصرة بعد الزوال ثم ما لبثوا أن انصرفوا، فظن الناس من رعاع أهل البصرة وجهالهم أن القوم قد مضوا لصلاة الجمعة، وكان الذى صرفهم أنهم خشوا أن يخرج عليهم كمين من السعدية والبلالية، فانصرفوا بعد أن أحرقوا ونهبوا واقتدروا على البلد وعلموا أنه لا مانع لهم منه.

فغابوا السبت والأحد ثم دخلوا البصرة صباح يوم الاثنين فلم يجدوا عنها مدافعا، وأعطوا الناس الأمان فخرج الناس وهم من الجوع وشدة الحصار والجهد على أمر عظيم، ثم قيل للزنج دونكم الناس فاقتلوهم ولا تبقوا منهم أحدا، فارتفعت أصوات القتلى بالتشهد حتى سُمِعتْ على بُعْدٍ من الموضع الذي كانوا به، وأحرقوا المسجد الجامع، ثم امتد الحريق في البصرة  فأخذت النار كل شيء مرت به من إنسان وبهيمة وأثاث ومتاع.

ولما دخل الزنج البصرة دخلوا دار جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، فجاءوا إلى ابنته آمنة وهي عجوز كبيرة قد بلغت تسعين سنة، فلما رأتهم قالت: اذهبوا بي إليه، فإنه ابن خال جدتي أم الحسين بنت جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي، قالوا: بل أمرنا بقتلك. فقتلوها.

وقال ابن الرومي يرثي البصرة:

ذاد عن مقلتي لذيذَ المنام ... شغلُها عنه بالدموع السجامِ

إنّ هذا من الأمور لأمرٌ ... كاد ألا يقوم في الأوهام

ورأينا مستيقظين أموراً ... حَسْبُنا أن تكون رؤيا منام

أقدم الخائن اللعين عليها ... وعلى الله أيما إقدام

وتَسمَّى بغير حقٍ إماما ... لا هدى الله سعيه من إمام

لهفَ نفسي عليكِ أيتها البصـ ... ـرة لهفاً كمثل لهب الضرام

لهف نفسي لجمعك المتفاني ... لهف نفسي لعزك المستضام

صبَّحوهم فكابد القوم منهم ... طول يوم كأنه ألف عام

ألف ألف في ساعة قتلوهم ... ثم ساقوا السِباء كالأغنام

من رآهنَّ في المساق سبايا ... داميات الوجوه للأقدام

من رآهنّ في المقاسم وسط الز ... نج يُقَسَّمنَ بينهم بالسهام

من رآهنّ يُتَخَذنَ إماءً ... بعد ملك الإماء والخدّام

ما تذكرتُ ما أتى الزنج إلا ... أضرم القلب أيما إضرام

عرِّجا صاحبيَّ بالبصرة الزهـ ... ـراء تعريج مُدْنف ذي سقام

فاسألاها ولا جواب لديها ... لسؤال ومن لها بالكلام

أين ضوضاء ذلك الخلق فيها ... أين أسواقها ذوات الرخام

أين فُلكٌ فيها وفُلكٌ إليها ... مُنشآتٌ في البحر كالأعلام

أين تلك القصور والدور فيها ... أين ذاك البنيان ذو الإحكام

بدلت تلكم القصور تلالا ... من رماد ومن تراب ركام

وطِئتْ بالهوان والذل قسرا ... بعد طول التبجيل والإعظام

بل ألِـمَّا بساحة المسجد الجا ... مع إن كنتما ذوي إلمام

فاسألاه ولا جواب لديه ... أين عباده الطوال القيام

أين عُمَّاره الأُلى عمروه ... دهرهم في تلاوة وصيام

كم خذلنا من ناسك ذي اجتهاد ... وفقيه في دينه علام

أي عذر لنا وأي جواب ... حين ندعى على رؤوس الأنام

يا عبادي أما غضبتم لوجهي ... ذي الجلال العظيم والإكرام

أخذلتم إخوانكم وقعدتم ... عنهمُ - ويحكم! - قعود اللئام

وا حيائي من النبي إذا ما ... لامني فيهم أشد الملام

انفروا أيها الكرام خفافا ... وثقالا إلى العبيد الطغام

أبرَموا أمرَهم وأنتم نيام ... سَوءة سَوءة لنوم النيام

صدِّقوا ظن إخوة أملوكم ... ورجوكم لنَبوة الأيام

أدرِكوا ثأرهم فذاك لديهم ... مثل رد الأرواح في الأجسام

لم تقروا العيون منهم بنصر ... فأقروا عيونهم بانتقام

لا تطيلوا المقام عن جنة الخلـ ... ـد فأنتم في غير دار مقام

فاشتروا الباقيات بالعَرَض الأد ... نى وبيعوا انقطاعه بالدوام

وقام ولي العهد الأمير الموفق، وكان مدبراً شجاعاً، بحشد جيش عظيم وحاربه مرات ينال كل واحد من الآخر، ثم انشغل بتمرد في خراسان قام به يعقوب بن الليث الصفار، فتمكن صاحب الزنج من الاستيلاء على واسط سنة 264 وقتل من بها وأحرقها، واستولى على نواحيها.

ثم إن الموفق بالله ندب ولده أبا العباس أحمد المعتضد لحرب هذا الخبيث، فتجرد له سنة 266 في عشرة آلاف فارس فهزم عساكر الزنج، ثم انضم إليه والده الموفق في سنة 267 في عسكر جرار إلى المدينة التي بناها المتمرد وأسماها المختارة، فأمر ببناء مدينة سماها الموفقية بإزاء مدينة المختارة وأقام بها الأسواق وكثر التجار وبنى الجامع وصلى الناس فيه، واتخذ بها دور ضرب، ورغَّب الناس في سكناها، وبث الموفق السرايا تغير على جيش الزنج، وكان يرمي برؤوس القتلى إلى مدينة المختارة في المنجنيقات، فاستولت الرهبة على جيش الزنج، وطال الحصار وشحت الأقوات على أهل المختارة، وقحطوا وأكلوا السرطانات والضفادع والحشرات ولحوم القتلى والكلاب والقطط، ثم هرب صاحب الزنج بأولاده إلى مضايق في نهر الخصيب لا تصل السفن إليها ولا الخيل، فجمع الموفق العساكر وزحف إليه، وثبت جيش الزنج ثم هزموا، وقتل صاحب الزنج في صفر من سنة 270،  بعد فتنة دامت  14سنة، سفك فيها الدماء واستحل المحارم.

وقُتِل في استباحته للبصرة عدد من العلماء من أبرزهم العباس بن الفرج الرِياشي، الإمام الراوية اللغوي النحوي، دخل عليه الزنج في مسجد بني مازن وهو يصلي الضحى، فضربوه بأسيافهم، وقالوا: هات المال، فجعل يقول: أي مال، أي مال؟!! حتى مات. وقد ناهز الثمانين.

فلما خرج الزنج عن البصرة بعد سنتين دخل الناس المسجد فوجدوا جثته ملقاة مستقبلة القبلة كأنما وجه إليها، وكأنه خرقة تحركها الريح، قد تمزقت، ‏وإذا جميع خَلْقِهِ صحيحٌ سَويٌّ لم ينشق له بطن، ولم يتغير له حال، إلا أن جلده قد لصق ‏بعظامه ويبس، رحمه الله.‏

ومن شعر الرياشي:

أنكرتُ من بصري ما كنت أعرفه ... واسترجع الدهرُ ما قد كان يعطينا

أبعد سبعين قد ولت وسابعة ... أبغي الذي كنت أبغيه ابن عشرينا

وكان من أهل البصرة المحدث الزاهد الرحالة ابن أبي عاصم، أبي بكر أحمد بن عمرو ابن أبي عاصم، المولود سنة 206 والمتوفى سنة 287، فذهبت كتبه بالبصرة في فتنة الزنج فأعاد من حفظه خمسين ألف حديث!