سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني (19)

سطور من حياة الداعية الرباني

عمر التلمساني (19)

بدر محمد بدر

[email protected]

كان المرشد العام الثالث غزير الكتابة والحوارات الصحفية والتلفزيونية, وبدأت الصحف تطلب المزيد, ونجحت صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية في عام 1984 في اقناعه بكتابة "ذكريات لا مذكرات" استمرت لأكثر من سبعة أشهر, من خلال واحد وثلاثين حلقة أسبوعية, كشف فيها الأستاذ التلمساني عن الكثير من تاريخ ومواقف وفكر الإخوان المسلمين, بصورة لم تتح من قبل بهذا الذيوع والانتشار, وصدرت بعد ذلك في كتاب مطبوع.

وفي يناير 1984 تقدم الأستاذ عمر للسلطات المختصة بطلب التصريح له بإقامة احتفال في شهر فبراير بذكرى مرور 35 عاماً على استشهاد الإمام حسن البنا, ورغب في أن يكون المكان في استاد القاهرة, لكن أجهزة الأمن رفضت, ورشحت نادي المعلمين بالقاهرة ـ باعتبار أن حسن البنا كان مدرساً ـ ولكنها سرعان ما عادت وسحبت الموافقة على إقامة الحفل, خصوصاً وأن إرهاصات أول انتخابات برلمانية في عهد الرئيس حسني مبارك كانت على الأبواب, والجميع مشغولون بالتخطيط لها وترقب نتائجها, وما يمكن أن تسفر عنه مشاركة الإخوان فيها من واقع جديد.

لقد نجح الأستاذ عمر في قيادة الإخوان المسلمين للانفتاح على المجتمع المصري, والمشاركة الفاعلة والإيجابية في الحياة السياسية والنقابية, والمساهمة العملية في الضغط من أجل الإصلاح السياسي, وتحسين أجواء الحريات العامة, وساهم كذلك في التمهيد لهذه الخطوة نجاح الجماعة في استكمال الهيكل التنظيمي لها بشكل كبير في مختلف المحافظات, وبالتالي أصبحت الحاجة ملحة للخروج من دائرة العمل التربوي السري المطارد, إلى دائرة أوسع من الحركة والعمل الميداني لتربية وتوجيه وتثقيف الكوادر والأفراد, وإكسابهم خبرات وتجارب أكثر أهمية في العمل الدعوي.

أضف إلى ذلك وجود نظام سياسي جديد, تبدو فيه مساحة لا بأس بها من الحرية السياسية, وأقل عداوة (حتى ذلك الحين) للإخوان المسلمين, وخاض الأستاذ التلمساني مناقشات وحوارات هادئة حيناً, وساخنة ومتوترة في أحيان أخرى, لإقناع الإخوان بأهمية المشاركة السياسية, والنزول بقوة إلى الشارع, والتعامل الايجابي مع الظروف المحيطة, خصوصاً وأن الإخوان في تلك الفترة تعرضوا لضغوط أمنية متزايدة ومستمرة كانت تبحث عن مخرج, وهو مادفع المرشد العام للمضي قدماً في العمل السياسي, كوسيلة أيضاً لتخفيف الضغط الأمني.

مخاوف وردود عليها

كان الإخوان المعارضون للانخراط في العمل السياسي يتخوفون من طغيانه على العمل التربوي في صفوف الجماعة, وبالتالي سيؤثر سلبيا على كفاءة الأجيال الناشئة, التي تحتاج إلى كل خبرة في مجال التربية والتوجيه, وكان البعض يرى أن العمل السياسي سوف يؤدي إلى الكشف عن أعداد كبيرة من رموز وشباب الإخوان, وهي فرصة ذهبية لأجهزة الأمن, التي تمارس كل صنوف البطش والضغط والتعذيب, من أجل كشف الهيكل التنظيمي للإخوان في الأحياء والمدن والقرى, والدخول في العمل السياسي سوف يقدم هدية مجانية للأمن, وسوف يؤدي ذلك بالطبع لمزيد من الاعتقالات والضغوط بشتى أنواعها, وهذه نقطة نحن في غنى الآن, وكان البعض يرى أيضاً أن الجيل الجديد في الجماعة يحتاج إلى وقت أوسع لمزيد من الصقل والتربية, حتى يكون قادراً على مواجهة أعباء النزول إلى الشارع السياسي, والتعامل المؤثر بأخلاق وسلوك الإسلام مع الواقع السياسي, وأضاف آخرون أن الانخراط في العمل السياسي سوف يؤدي إلى الدخول في خلافات واتهامات ومشاحنات نحن في غنى عنها, وهذا قد يؤثر على نقاء الدعوة وطهارتها وشفافيتها وحب الناس لها.

لكن رؤية الأستاذ عمر التلمساني كانت ترى أن العمل السياسي, بالإضافة إلى أنه جزء من صميم فهم الجماعة للإسلام بشموله وكماله وصلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان, سوف يفتح الأبواب أمام الإخوان المسلمين للعمل والتوجيه والتأثير داخل المجتمع, وتقديم الصورة الصحيحة عن الدعوة, التي أثار الإعلام الكثير من الغبار حولها, خصوصاً وأن التربية الإخوانية الميدانية, أقوى وأفضل بكثير من التربية النظرية الخاصة.

أما هؤلاء المربون والقادة الذين سيتم الكشف عن أسمائهم أمام أجهزة الأمن, وسيعرفهم رجل الشارع فلا بأس في ذلك, فسوف يحل محلهم إخوانهم في الصفوف التالية, وفي هذا تدريب على المسئولية وتجديد للدماء وتربية أفضل, ولا حرج من الكشف عن أسماء البعض, لأن الظهور العلني للدعوة سوف يقلل من استهدافها أمنياً, وخروج الجماعة للعمل في وضح النهار سينفي عنها الاتهام بالعمل السري أو أنها تنظيم تحت الأرض, ولن يتحدث البعض عن الإخوان بعد ذلك بوصفهم كيان سابق محظور قانونا, بل باعتبارهم جماعة حاضرة وفاعلة ومؤثرة في الواقع المصري.

كان الأستاذ عمر ثاقب النظرة عميق الرؤية, وتمكن من انتزاع موافقة الإخوان في اجتماع مجلس الشورى في عام 1983 على اتخاذ القرار بالمشاركة الايجابية في العمل السياسي, وتفويض المرشد العام في تفعيل هذا القرار, بحسب ما يرى أنه يصب في مصلحة الجماعة, وهذا القرار وصفه الدكتور سعد الدين ابراهيم عالم الاجتماع المعروف, في إحدى مقالاته بجريدة الجمهورية بأنه "أخطر وأهم قرار اتخذه الإخوان المسلمون منذ استشهاد حسن البنا في نهاية الأربعينيات", لأنه نقلهم من عالم السرية الغامض إلى عالم العلنية الواضح والصريح بغير رجعة, وبدلاً من التعامل معهم أمنيا فقط, أصبحوا ملفاً سياسياً واضحا, يحتاج إلى اعتراف ومشاركة واندماج.