العلامة الباني فريد عصره ووحيد دهره

مواقف وذكريات

رامي بن أحمد ذو الغنى

((هل تسمحُ لي أن أفرضَ نفسي عليك، لأنفعَكَ فيما أُسندَ إليك، مع ثقتي بالعلم الذي لدَيك؟)). كانت هذه الكلماتُ الرائقة أعجبَ ما انسرَبَ في نفسي، واستقرَّ في سُوَيداء قلبي من كلمات شيخنا الجليل عبدالرحمن الباني رحمه الله، وما أعذبَها من عبارة، يتلطَّفُ بها الشيخُ العلامة، ويُسرُّها إليَّ، بعدما أدناني في مجلسه، وأقعَدَني بجانبه على أريكته، يُحدِّثُني بحنان الجدِّ الشَّفيق، ويوجِّهُني بلهجة المحبِّ الناصح، ويُبصِّرُني بعِظَم المسؤولية بمنطِق العالم الخبير! وحالُه كما قال مَعْنُ بن أوس:

فما زِلتُ في لِينٍ لهُ وتعطُّفٍ   =   عليهِ كما تَحْنُو على الوَلَدِ الأمُّ

فأقبلت نفسي، وانشرحَ صدري، وبلغتُ من الحماسة ذُروتَها، وعجَزتُ حقَّ العجز عن شُكره، فأنا الذي أحبُو في مَدارج العلم حَبوًا، وهو من هو في الفضل والعلم، يُعطيني من وقته الذي يضَنُّ به، ويَحدِبُ عليَّ، ويُحسِنُ إليَّ، ويشجِّعُني، ويُبادِرُني، ويهتمُّ بشأني كما لو كان من شُؤونه الخاصَّة، ويتفضَّلُ عليَّ ليكونَ المشرفَ والموجِّهَ لي فيما شرَّفَني الله به من خدمة لغة كتابه، وتعليمها للناطقين بغيرها من مُسلمَة الأعاجم.

وكم كانت فَرحةُ الشيخ عظيمةً عندما أُخبِرَ بمشاركتي في هذا العمل، وازداد فرحًا واغتباطًا لمَّا علم أن المقرَّرَ لا يقتصِرُ على تعليم العربية، ولكن يتجاوَزُه إلى تدريس العُلوم الشَّرعية في مشروع مُبارَك غايتُه إعدادُ الدُّعاة إلى الله؛ لينشُروا الإسلامَ في مَشارق الأرض ومَغاربها، وقد حبَسَني عملي هذا في مركز الدَّعوة والإرشاد يوم الجمعة عن حضُور مجلس شيخنا الأسبوعيِّ، فكان أثابَهُ الله يُرسِلُ إليَّ كتبًا نفيسةً من مكتبته الخاصَّة مع أخي الأستاذ أيمن - حفظه الله - تتعلَّقُ بطرائق تعليم اللغة العربية والتربية الإسلامية، مرفقةً برسالة وتوصية شفهيَّة يحثُّني فيها على النُّهوض بهذا المشروع لما يُرجى من خيره العَميم للأمَّة الإسلاميَّة.

هكذا كان رحمه الله؛ نفَّاعةً لمَنْ حوله، مِعوانًا لكلِّ من يلوذُ به، مُبادرًا إلى نشر الخير؛ بسَخاء نفس، وطِيبِ قلب، وصدق وُدٍّ، وسموِّ خُلُق، ولطفٍ منقطع النظير. لم أرَ مثله، ولم يرَ هو مثلَ نفسه، قد ناهزَ المئةَ من العمُر ولديه من سَعَة الصَّدر، وعلوِّ الهمَّة، وشدَّة الصبر، وقوَّة الذاكرة، ما يعجِزُ عنه الشبابُ من أبناء الثلاثين أو الأربعين.

لن أنسى ابتسامتَهُ وترحيبَهُ عندما لقيتُه أولَ مرَّة، شعرتُ كأنه يعرفُني من دهر، وكأنِّي من أخصِّ خَواصِّه وقد اجتمعنا بعد طول فِراق، كم أنِستُ في ذاك المجلس، وكم أسِفتُ لأني لم أُحضِر القِرطاسَ والقلم، فبعد دقائقَ معدودة من بداية الدَّرس أيقنتُ أني في حضرة رجلٍ فذٍّ، وعالم مُخضرَم، تتفجَّرُ الحكمةُ على لسانه، ويخرُجُ القول من جَنانه، ثم ما لبثَ أن أبحرَ في استطراداته، وتدفَّقَ بفوائده وفرائده، فما رأيتُ مثلَ ذاك اليوم عجبًا!

موسوعةٌ ناطقة تمنحُكَ من فنون العلم ما تُضرَب لمثله أكبادُ الإبل، بتحقيق وتدقيق، وشرح وتفصيل، وعزو كلِّ قولٍ إلى قائله، مع إرشادٍ إلى المصادر، وتعريف بمؤلِّفيها، وذكر طبعات الكتُب، والمفاضلة بينها، وعرض شيءٍ ممَّا لديه منها على الحاضرين.

خرجتُ من المجلس حامدًا لربِّي شاكرًا لأنعُمه؛ أن أكرمَني بلقائه، وما رجعتُ إليه إلا مُتأبِّطًا القِرطاسَ والقلم، وصِرتُ أعُدُّ الأيامَ واللياليَ؛ انتظارَ يومِ الجمعة، فإن مَنَّ الله علينا بموعدٍ إضافيٍّ في غيره، فتلك الغَنيمةُ الباردة!

كان أمَّةً في استمساكه بدينه، وتعظيمه شعائرَ ربِّه، والذَّبِّ عن منهج رسوله، والدَّأَب في الدَّعوة إليه، مُلتزمًا سبيلَ التصفية والتربية في مَسيرته العلمية والعملية والتعليمية، مُتربِّصًا بكلِّ من يَكيدُ للإسلام وأهله، زاهدًا في الشُّهرة، نائيًا عن الظُّهور، مُعرضًا عن الدُّنيا وزُخرُفها، جاهدًا في إعداد بنيةٍ فكرية تكونُ أساسًا لنهوض الأجيال المسلمة، وحِصنًا حَصينًا تحميهم من الغَزو الثقافيِّ الذي يُفسد العقولَ والقلوب، ويسلخُ المرءَ عن تُراثه وتاريخ أمَّته.

وكثيرًا ما دعا إلى ضرورة تميُّز المسلم، وتربيته على اعتزازه بدينه، مُقتبسًا من المفكِّر مالك بن نبي - رحمه الله - مفهومَ القابليَّة للاستعمار في تشخيص داء الأمَّة، ساعيًا إلى إنارة طريق الخَلاص، ومؤكِّدًا أنَّ البداية تكونُ بإصلاح الفَرد، قائلاً: ((لا بدَّ من إعداد المسلم إعدادًا يؤهِّلُه لمواجهة الصِّراع)). ومُشيدًا بالحركات الإصلاحيَّة: كحركة الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب، والشيخ عبد الحميد بن باديس، رحمهما الله، وإعجابُه بالأخير كان شديدًا، لا يذكُرُه إلا مُثنيًا عليه، داعيًا له، ومما قال فيه: ((ابنُ باديس حفظَ على الجزائر دينَها، وعُروبتَها، وهيَّأ الشعبَ للجهاد، فأسَّسَ جمعيَّة العلماء المسلمين. ومن فضائله أنَّ هذه الحركةَ لم تُطلِق رصاصةً واحدة حتى استكمَلَت عُدَّتها، وبعد وفاته أكمَلَ من أعدَّهم الثورةَ الجزائرية)). وكم كان يُثني على رجالات الأمَّة الذين صَدَقُوا ما عاهَدُوا الله عليه، وثبَتُوا على الحقِّ الذي أمرَ به، وفي مُقدِّمتهم أديبُ الفقهاء وفقيه الأدباء رحمه الله، حيث قال عنه: ((علي الطنطاوي منذُ نشأته ومُذْ عُرف كان له خطٌّ واحد، لم يُغيِّر أو يُبدِّل: الإسلام، الإسلام، الإسلام)).

ومما تميَّز به الشيخُ ولاؤه المُطلَق للحقِّ، لا يُماري ولا يُداري، ولا يُجامل ولا يُلاين، مع عَدلٍ وإنصاف في التعامُل مع المخالف ممَّن حادَ عن جادَّة الصواب، فهو ينشُر مَحاسِنَه، ويُشير إلى صوابه قبلَ ذكر مَساوئه وأخطائه، ويجتهدُ في التماس الأعذار، فإن لم يجد للعُذر سبيلاً، اكتَفى بتوضيح الخطأ بردٍّ علميٍّ مُفصَّل، أو تحذير مختصَر مُجمَل، بألطف عبارة وأوجزها، مُراعيًا في ذلك المقامَ والحال.

ومن ذلك ما قاله عن الأستاذ الدكتور محمد سليم العوَّا، فبعد أن ترجمَ لأبيه بإيجاز قال: ((وابنُه محمد من كبار رجال القانون على مُستوى العالم، ومن كبار الدُّعاة إلى الله، لكنْ له وعليه، والشيخُ محمد بن لطفي الصبَّاغ صديقُه، ويبيِّنُ له بحكمةٍ بعضَ الأخطاء التي يقع فيها)). وما قاله في الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: ((من أعلام العصر الحديث، لكنْ له وعليه، والشيخ الصبَّاغ بما لهُ من علم وتمكُّن يبيِّنُ ويجهَرُ بحكمة ورفق ببعض أخطائه)).

أما وفاؤه لأشياخه فقد بلغَ فيه مبلغًا عظيمًا، وإنني لا أذكُره تحدَّث عن أحد ممَّن أخذ عنه، أو تتلمذَ على يديه، إلا بالجميل، مع الدعاء والترحُّم عليه، وذكر شيءٍ من أخباره، أو طرفٍ من إنجازاته وفضائله، وأكثرُ من سمعتُه يُثني عليهم من شيوخه: الأستاذ محمد سليم الجُندي، والداعية حسن البنَّا، والمحدِّث ناصر الدين الألباني رحمهم الله أجمعين.

كان يُشبِّه البنَّا بمزارعٍ يملك أرضًا واسعة، لم يترُك مِقدارَ أُنمُلةٍ منها إلا تعهَّدَها بالحَرْث، يقول: ((حسن البنَّا حرَثَ أرضَ مصرَ من أوَّلها إلى آخرها، ومن أقصاها إلى أقصاها في الدَّعوة إلى الإسلام)).

وأمَّا حديثُه عن شيخه الألباني فطويلٌ جدًّا، فهو عند الشيخ الباني من أهمِّ الشخصيَّات التي أثَّرت في حياته، وغيَّرت مَسارَه تغييرًا جَذريًّا. قال رحمه الله: ((لقد قضَيتُ المرحلةَ المتوسِّطَة والثانوية، ودرَستُ في دار المعلِّمين، وكليَّة أصول الدين، والمعهد العالي في التربية والفلسفة، وأنا في كلِّ ذلك صوفيٌّ نقشبندي، حتى لقيتُ الشيخ الألبانيَّ بعد عودتي من مصر، وكان له طريقةٌ فذَّة، وسَعَةُ صدر كبيرة، وأسلوبٌ حكيم، فانتقلتُ بالتدرُّج (الإلكتروني) من الصوفيَّة النقشبندية إلى السَّلفية، وهو عالمٌ نقَّادة، له كتبٌ كثيرة جدًّا، وفي رأيي أنَّ أهمَّها الذي أخرجه سنة 1950م، وهو كتابُ ((صفة صلاة النبيِّ من التكبير إلى التسليم كأنَّك تراها))، وأهمُّ ما في هذا الكتاب مقدِّمتُه، وبعد أن عَملتُ في التربية والتعليم سبعينَ سنةً؛ اكتشفتُ أن منهجَ الشيخ ناصر مهمٌّ جدًّا في هذا المجال. وأُخالفُ بعضَ الفُضَلاء؛ ومنهم الشيخ علي الطنطاوي؛ الذين قالوا: إن الشيخ يُستفادُ منه في الناحية الحديثيَّة دون الفقه والأصول؛ لأنه غيرُ متخصِّص فيهما. وأقول: الألبانيُّ عالمٌ في حديث رسول الله ، وهو أيضًا فقيهٌ وأصولي، وقد قرأنا عليه في الأصول، واستفدنا منه عَقَديًّا، وحديثيًّا، وفقهيًّا، وكذلك قرأنا عليه كتابَ ((طبقات فحول الشعراء))، بتحقيق الشيخ محمود شاكر، وهو كتابٌ في النقد، وقد كان رحمه الله أمَّةً وحدَه في الاستغناء عن الناس؛ يكتفي من مهنته، ويبذُل العلمَ لله)).

وللشيخ الباني همَّةٌ عاليةٌ في اقتناء الكتب، وتتبُّع جديدها، وله في ذلك أخبارٌ ونوادر، ومنها ما حدَّثنا به فضيلةُ الشيخ د. محمد بن لطفي الصبَّاغ حفظه الله: أنه سأل الشيخَ الباني عن مُستشرقٍ فرنسيٍّ بعد أن وقفَ على ترجمته في ((موسوعة المستشرقين)) في طبعتها الثالثة، وكان الباني يملكُ الطبعةَ الأولى، وليس فيها ترجمةُ ذاك المستشرق، فلمَّا علم بصُدور طبعة ثالثة، وأن فيها زيادةً، توجَّه من فوره إلى المكتبات؛ يبحثُ عنها ليقتنيَها، ويضمَّها إلى مكتبته العامرة.

ويقول شيخنا الصبَّاغ بارك الله في عمره: ((إنَّ مكتبةَ الشيخ الباني يرحمه الله من أغنى المكتبات الخاصَّة في العالم، وفيها دراساتٌ في موضوعات تخصُّصيَّة، ونسختُه من كتاب ((الأعلام)) للزِّرِكْلي نفيسةٌ؛ لما وضعَ عليها من حواشٍ وتعليقات، وقد كان يُنفقُ كلَّ ماله في مكتبته)).

وآخرُ ما أذكرُه عن شيخنا الحبيب، ما كان يختِمُ به مجالسَهُ من توزيع لورود الفُلِّ الفوَّاحة على زائريه، يقطَعُها بيديه الكريمتين من حديقة داره، ويُحضرُها مصفوفةً مرتَّبةً على طبَق أنيق، ويأبى إلا أن يُعطيَ كلَّ واحد من الحضور زهرَتَهُ بيده. فللَّه دَرُّه؛ ما أرقَّ طبعَه! وما ألطفَ سجيَّتَه! وما أرفعَ خُلقَه! أفلا يلزمُنا أن نحزنَ لفقده، ونستوحشَ لبُعْده، ونستشعرَ الغُربةَ من بَعْده؟

سأبكي ما حَييتُ، ولستُ أنسى   =   صَنائِعَكَ الأَواخِرَ والأَوالي

لقد عاش شيخُنا الباني عُمرًا مَديدًا؛ يبني ويُعلي صرحَ أمَّته بإخلاص المؤمن، وحكمة العالم الحَصيف. قضَيتُ في رحابه سنةً كاملة؛ هي آخرُ سِنيْ حياته؛ كانت كأنَّها سنواتٌ متطاولة، ولقيتُه فيها لقاءات مَعدودَة؛ ذكراها في النَّفس وَلودَة، وغرَفتُ من مَعينه عَذبًا زُلالاً كثيرًا وَفيرًا، أحببتُه في الله حُبَّ المسلم للمسلم، وحُبَّ التلميذ لشيخه، والحفيد لجَدِّه، وتمنَّيتُ لو طالَ عُمرُه؛ لأنهَلَ وأعُلَّ من علمه، وأتشرَّفَ بمُلازمته وخدمته، لكنَّ الله حَكَم ولا مُعقِّبَ لحُكمه، ولا رادَّ لقضائه، وليس لنا إلا التَّسليم، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.