سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني (18)

سطور من حياة الداعية الرباني

عمر التلمساني (18)

بدر محمد بدر

[email protected]

وانقلب السحر

وطلبت وزارة الداخلية أن يشارك الأستاذ التلمساني في هذه المحاضرات, في إطار برنامج من عدة لقاءات, ورفض الإخوان القريبين من المرشد العام هذه الدعوة, باعتبار أن أجهزة الأمن تهدف من وراء ذلك إلى شق الصف بين الإخوان وبين الشباب المسلم المعتقل, وإظهار مرشد الجماعة في ثوب "المتعاون" مع النظام ضد هؤلاء الشباب, أي "عميل" لأجهزة الأمن, على خلاف الحقيقة, وفي هذا خسارة كبيرة للدعوة, لكن الأستاذ عمر كان له رأياً آخر, فقبل الدعوة وذهب إلى المعتقل لإلقاء المحاضرة, ووجد الشباب يديرون ظهورهم له اعتراضاً ورفضاً, لكنه بدأ الحديث واستمر فيه, وشيئاً فشيئاً تغير الحال واستدار الشباب لسماعه والإنصات له, وما كاد ينهي كلامه حتى سارعوا إليه يقبلون يديه ورأسه, ويأسفون لما حدث منهم, فقد ظنوه من علماء السلطان, ومن الذين يبررون سلوك أجهزة الأمن..

تحدث الأستاذ عمر في ذلك اللقاء حديث الأب والداعية والمربي والحاني, فخرجت كلماته من القلب لتصادف قلوباً نقية وأرواحاً صافية.. قال لهم: جئت إليكم وأنا أشد الناس ألماً من الاعتقال, وأكثر الناس حباً لكم وحرصاً عليكم, وما أتمنى أبداً أن أكون في الخارج وأنتم هنا في المعتقل, ولكني رأيتها فرصة أن ألتقي بكم لأقدم لكم خبرتي لمدة أكثر من نصف قرن في العمل الإسلامي, فأنتم الأمل المشرق لهذا الدين, والأمة تنتظر منكم الكثير من أجل الإسلام.. إنني لم أطرق باب السلطان طوال حياتي, ولم أعط الدنية في ديني أبداً, واحتسب مالقيته طوال ثمانية عشر عاماً وأكثر في السجون والمعتقلات عند الله وحده, وما أحب أن ألقى الله على غير ماعهدني".

كان حديث الأستاذ عمر مؤثراً جداً, فقلب الموازين وأحبط المخطط الأمني, وعانق الشباب شيخهم وأنزلوه مكانته اللائقة به, وسارعت وزارة الداخلية بإلغاء بقية البرنامج الذي أعدته للقاء الأستاذ عمر بأمثال هؤلاء الشباب..

وهنا يلح علّى السؤال: هل كان العنف سيظهر بهذه القوة في التسعينيات من القرن الماضي, لو تمكن الأستاذ التلمساني من لقاء وحوار شباب المعتقلين الإسلاميين, واستكمال ما بدأه مع بعضهم؟!.. وهل جنت أجهزة الأمن والوطن خيراً بحصار الإخوان المسلمين ومنعهم من الحركة, حتى زاد التطرف والعنف والفكر المنحرف؟!.

إن بعض المسئولين في أجهزة السلطة وفي الأجهزة الأمنية, لايرون أبعد من تحت أقدامهم, لكن النتيجة ـ مع الأسف ـ يتحملها الجميع ويتلظى بها الوطن كله.. أمنه ورخائه ومستقبل أبنائه.

وفي إحدى الصفحات المشرقة للقضاء المصري الشامخ ـ وهي كثيرة ـ أصدرت محكمة القضاء الإداري في فبراير 1982 حكما يقضي بإنعدام حالة الضرورة, التي استند إليها رئيس الجمهورية السابق في اعتقالاته ووقف وإغلاق عدد من الصحف والمجلات ومن بينها مجلة الدعوة ومقرها, وماطلت وزارة الداخلية ـ كالعادة ـ  لمدة عام كامل في تنفيذ الحكم, حتى أعيد افتتاح مقر الإخوان ومجلة الدعوة من جديد في يناير 1983م, وكنت أذهب ـ برفقة الأستاذ جابر رزق ـ رحمه الله -  السكرتير الصحفي للمرشد العام, إلى بيت الأستاذ عمر ليقدم له قراءة في أهم الأخبار والأحداث, ويتلقى منه التوجيهات, حتى تم إعادة افتتاح المقر وداوم المرشد على الحضور يوميا, للقيام بمهامه وأعبائه.

كان الأستاذ عمر في تلك الفترة يبدأ يومه في المكتب في الثامنة صباحاً بقراءة الصحف ثم لقاء الإخوان أو الصحفيين أو كتابة المقالات أو التشاور مع الأستاذين: جابر رزق وإبراهيم شرف في بعض الأمور والمسائل الخاصة بالدعوة والجماعة, حتى الواحدة ظهرا تقريبا فيغادر إلى بيته.

وطوال واحد وعشرين شهراً امتنعت وزارة الداخلية عن تنفيذ حكم القضاء بعودة مجلة "الدعوة" للصدور من جديد, حتى مرض الشيخ الجليل صالح عشماوي وتوفى في 11/ 12/1983, فانتهى الترخيص بحكم القانون الخاص بالصحافة, الذي يقضي بانتهاء ترخيص الصحف والمجلات, التي تصدر بأسماء أفراد بوفاتهم, ولا يجوز أن ينتقل الترخيص إلى غيرهم بأي صورة من الصور, وانطبقت هذه المادة من القانون على مجلتي: الدعوة  والاعتصام.

منذ ربع قرن!

وبعد سقوط ترخيص "الدعوة" قرر الإخوان البحث عن وسيلة لإعادة إصدارها مرة أخرى, وسارعوا بتقديم أوراق تأسيس "الشركة الإسلامية للصحافة والنشر والتوزيع (شركة مساهمة مصرية)" لإصدار المجلة من جديد, ورغم أن أوراق الشركة في مصلحة الشركات منذ يناير 1984 وحتى كتابة هذه السطور (2009) أي منذ أكثر من ربع قرن, إلا أن العراقيل والعقبات كانت هي الأبرز لمنع تأسيس الشركة حتى الآن, ولهذا حديث آخر.

وبالرغم من تعسف السلطة ضد الإخوان ومنعهم من امتلاك وسيلة إعلامية تعبر عنهم, وهو حق طبيعي, إلا أن الله أبدل الإخوان تأثيراً إعلامياً أكبر, حيث بدأت وسائل الإعلام تتواصل مع المرشد العام, سواء بالحوارات أو المقالات أو التقارير الإخبارية والتحليلية, عن الجماعة ووجودها السياسي والاجتماعي والخدمي, وشكل ذلك فرصة أوسع ليتعرف المجتمع على الإخوان, وساهم أسلوب الأستاذ التلمساني الرقيق والمهذب في اكتساب المزيد من الأنصار والمؤيدين, وهو ماحصده الإخوان بشكل جيد في تلك الفترة.