العالم الرباني عبدالرحمن الباني

محمد عيد العبَّاسي

جمع بين الزهد في الشهرة والجهر بالحق

محمد عيد العبَّاسي

الحمد لله الذي خلق الخلق، وكرَّم منهم بني آدم، وفضَّلهم على كثير من سواهم بالعلم والفهم، وزوَّدهم بالمنهج القويم الذي أرسل به الأنبياءَ والرسل، ونظَّم شؤونَ حياتهم على مدى الأزمنة والدهور، ومُختَلِف الأصقاع والبقاع، وضمن لهم إن ساروا على هُداه وتمسَّكوا بعُراه، العزةَ والكرامة، والمجد والسُّؤدَد والسلامة، والطُّمأنينة والراحة والسعادة في الدنيا والآخرة.

وتمثَّل هذا المنهجُ فيما جاءت به الأنبياءُ والرسل من التعليمات والتوجيهات، والعقائد والتشريعات، والصُّحُف والكتب والبيِّنات، رحمةً من الله بعباده؛ حتى يعيشوا في هذه الحياة الدنيا على نورٍ من ربِّهم، وهدايةٍ في جميع شؤونهم، فينجَوا من التخبُّط والضَّياع، والحَيرَة والشقاء، والقلق والعذاب، وليقيمَ عليهم بعد ذلك الحجَّةَ في الحساب والجزاء، يوم الحشر والمعاد، إذا أساؤوا الاختيار، بعدما ملَّكَهُم المشيئةَ واتخاذَ القرار.

وقد تمثَّلَ هذا المنهج الربَّانيُّ في أكمل صورة وأبهى حُلَّة، فيما خصَّ به خيرَ رسله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، من الوحيَين الكريمين والثقلَين العظيمَين: كتاب الله وسنَّة رسوله.

ولأن الله تعالى قدَّر أن ليس بعد محمد نبيٌّ ولا رسول، ولا بعد دينه وشرعه دينٌ وشرع، فقد تعهَّد سبحانه بحفظ الوحيَين من الضَّياع والتحريف والتبديل، والنقص والزِّيادة، كما وقع للشرائع والرسالات السابقة، فقال تبارك وتعالى: {إنَّا نحنُ نزَّلنا الذِّكرَ وإنَّا لهُ لَحافِظُون} [الحجر: 9].

وزيادة في فضل الله ورحمته بعباده تكفَّل سبحانه باستمرار وجود دُعاةٍ ربَّانيين، وعلماءَ صادقين مخلصين، ظاهرين غير مُستترين، يصدعون بالحق، ويدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهَون عن المنكر، ويحفظون الدين كما أنزله الله تعالى صافيًا نقيًّا، ويحرُسونه ويدفعون عنه تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين، ويكونون في سلوكهم وحياتهم أُسوةً حسنة وقدوةً طيبة؛ كي يقطعوا كلَّ شُبهة أو حُجَّة لمن انحرف عن السبيل، واختار غيرَ دين الله من الأديان والدَّعاوى والأقاويل، يقول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي قائمةً بأمر الله، لا يضُرُّهم من خَذَلَهُم ولا من خالفَهُم حتى يأتيَ أمرُ الله وهُم ظاهرونَ على النَّاس)) رواه أحمد والشيخان من حديث معاوية رضي الله عنه، وثبت نحوُه عن عمر والمغيرة وثَوبان وأبي هريرة وجابر وعِمران بن حُصَين وعُقبة بن عامر رضي الله عنهم، كما في ((صحيح الجامع الصغير)) (7287-7296).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يحملُ هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدولُه يَنفُونَ عنه تَحريفَ الغالِين، وانتِحالَ المُبطِلين، وتأويلَ الجاهِلين)) أورده التبريزيُّ في ((المشكاة)) ونقل تقويته عن الحافظ العلائي، ووافقه الألباني.

وإن الله يبعث مجدِّدين في رأس كلِّ قرن؛ يُحيونَ ما اندثر من الدين، ويُعيدون الأمَّةَ إلى الجادَّة، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يَبعَثُ لهذه الأُمَّةِ على رأسِ كلِّ مئةِ سنةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لها دينَها)) رواه أبو داود والحاكم وغيرهما عن أبي هريرة، وصحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1874)، وأحال إلى الصحيحة رقم (599)، فيكون هؤلاء المجدِّدون أئمَّةَ هذه الطائفة المنصورة التي تقوم على أمر الدين حتى يأتيَ أمرُ الله.

وأحسَبُ أن الأستاذ الجليل والداعية الكبير عبدالرحمن الباني الذي فقدناه منذ أسابيعَ قليلة واحدًا من كبار هذه الطائفة التي تعهَّد الله بإبقائها حاملةً شُعلةَ الهداية للناس، رافعةً لواء الحقِّ والخير في هذا الزمان. ويؤهِّلُه لذلك أنه اتصفَ بصفات كثيرة، وقام بأعمال جليلة ميَّزته عن غيره من الدُّعاة والعلماء والمفكِّرين، ومن أهمِّها أنه:

أولاً- كان واسعَ العلم والثقافة في العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وخاصَّة علوم التربية، وكان يُتابع الحركةَ العلمية بجِدٍّ ونشاط، فقلَّما كان يصدُر كتابٌ في تلك العلوم في الشرق أو الغرب إلا كان لديه خبرٌ عنه؛ موضوعه ومؤلفه وناشره وأهميته.

وإذا تحدَّث في موضوع أوسعه شرحًا وبيانًا، ومع أنه كان قليلَ التأليف والكتابة كان إذا ألَّفَ أتى بالفكرة البديعة والرأي المستنير، والتحليل الدقيق العميق، وخيرُ مثال على ذلك: مقدِّمتُه الرائعة لكتاب ((العبودية)) لشيخ الإسلام تقيِّ الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقد لخَّصَ فيها كلامَ ابن تيمية في الكثير من كتبه وخاصَّة كتاب العبودية، وقدَّم للقارئ خُلاصةً سائغة طيِّبة سهلة قريبةً من الفهم، ومعروفٌ أن شيخ الإسلام كثيرُ الاستطراد، ينتقل من فكرة إلى فكرة، ومن موضوع إلى موضوع، فيحتاج قارئه لجمع رأيه في قضيَّة ما إلى المتابعة الدقيقة الواعية، وترك الاستطرادات وأخذ الزُّبدة، وهذا الذي فعله العلامة الأستاذ الباني.

ثانيًا- امتازَ بالوسطيَّة والاعتدال والإنصاف في وجهته العامَّة، وفكره الإسلامي، فهو بعيدٌ عن الغلوِّ والتطرُّف بجميع أنواعه وأشكاله، فكان مُنصفًا في حُكمه على الأشخاص والاتجاهات، يذكرُ الحسنات والسيِّئات، لا يَغْمِطُ حقًّا لصديق ولا عدو، ولا يتحاملُ على أحد، ولا يبخَسُه فضله، ولا يدَعُ عاطفتَهُ تميل به كما تشاء، بل يضبطُ ذلك بميزان الشرع، يَصدُر عنه ويَزنُ به.

ولا شكَّ أن للدعوة السلفية التي آمنَ بها منذ استوى عودُه ونَضِجَ فكرُه أثرًا كبيرًا في ذلك، فهي الدعوةُ التي تقوم على منهجٍ ربَّاني علمي قويم ثابت أصيل، مُستندٍ على الكتاب والسنَّة وفهم سلف الأمَّة، وهو منهجُ الإسلام نفسه، الذي هو وسطٌ بين الأديان، وأتباعُه هم الوسطُ بين الأمم والمذاهب {وكذلكَ جَعلناكُم أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 283].

وقد استفاد هذا المنهجَ من حضوره مجالسَ العلامة المحدِّث محمد ناصر الدين الألباني في دمشق، ومن مُطالعاته لكتب شيوخ الدعوة السلفيَّة ورجال الإصلاح والبعث الإسلاميِّ الحديث، فوَعاها تمامًا، ووجدت لديه استجابةً كاملة، وصار داعيةً لها قويًّا. وكان الشيخ الألبانيُّ يعرف له حقَّه وفضله، فيستشيرُه في أمور الدعوة ونشاطها، وكان إذا انتهى الدرسُ كثيرًا ما سمَّى عددًا من خُلَّص أصحابه للاستشارة، وكان أولهم مترجَمُنا عبدالرحمن الباني، وطلب من الآخرين الانصرافَ راشدين.

وقد عرض على الشيخ الألبانيِّ أن يكونَ بيتُه في حيِّ المهاجرين على سفح جبل قاسيون مقرًّا للدعوة، فكانت تُعقَد فيه الدروس، حتى استأجرَ الإخوة مقرًّا متوسطًا في مدينة دمشق نُقلت إليه الدروس.

ثالثًا- جمعَ بين تبنِّي المنهج السلفيِّ والمشاركة البارزة في النشاط الدعوي: كان الشيخ الباني نشيطًا في الدعوة بين الطلاب حينما كان مدرِّسًا في دار المعلِّمين، ولما اختير مفتِّشًا لمادَّة التربية الإسلامية في سورية كلِّها، قام بواجبه خيرَ قيام، فاستعان بعدد من المدرسين الأكْفاء المتمكِّنين في العلم الشرعيِّ من أصحاب الاتِّجاه المعتدل البعيد عن الغُلوِّ، وألَّفَ معهم منهجَ التربية الإسلامية، وكتبَها المقرَّرة لكلِّ المراحل والصفوف الدراسيَّة، وكانت هذه الكتبُ على مستوًى راقٍ وشامل وعميق ومؤثِّر، من شأنه إنشاءُ جيل مسلم واعٍ يفهم الإسلامَ فهمًا صحيحًا مبنيًّا على الأدلَّة النقلية والعقلية، ويحرِّك صاحبه لنشره والالتزام به، إذا تولَّى تدريسَهُ مدرِّسون أكْفاء جادُّون يحملون همَّ الإسلام والمسلمين.

وقد كان مثالاً في العمل الوظيفيِّ فلا يُضيع دقيقةً إلا في خدمة عمله، وكان إذا انتهى الدوامُ الرسميُّ يأخذ الأوراقَ والأعمال فيكملها في البيت في أوقات راحته، وكان يُتابع أمورَ المدرِّسين فيزورُهم، ويسافر إلى المدن السورية المختلفة لذلك، ويسألُ عنهم ويطَّلع على نشاطهم ويهتمُّ بسلوكهم، فإذا رأى أن بعضهم ليس أهلاً ليكونَ قدوةً لطلابه في سلوكه ومستواه العلميِّ وكفاءته حاول إصلاحَهُ وشرحَ له طريق العمل، فإذا أحسَّ بعدم استجابته وإصراره على ما هو عليه صرفَهُ إلى عمل آخرَ وأوصى إدارةَ التعليم بالاستغناء عنه.

وكان رحمه الله مرجعًا علميًّا موثوقًا للعلماء والدُّعاة وطلاب العلم، يستشيرونه في مسائل العلم والدعوة، فيدُلُّهم على المراجع الحديثة والقديمة لبحوثهم ودراساتهم، ويُعيرُهم من مكتبته الخاصَّة ما هم بحاجة إليه من المراجع النادرة.

وكان سببًا في تأليف ونشر بعض الكتب والرسائل النافعة؛ باقتراح تأليفها ككتاب ((آداب الزِّفاف في السنَّة المطهَّرة)) للعلامة الألباني رحمه الله، وسنَّ الأستاذ الباني سنَّةً حسنة حين وزَّعه على المدعوِّين إلى حفل زفافه.

رابعًا- شاركَ مشاركةً فاعلة في نضال الحركة الإسلاميَّة في سوريا: ولم يكتف فقيدُنا بالإفادة في الجانب العلميِّ والتربوي، بل ضمَّ إلى ذلك مشاركات عمليَّة في نضال الحركة الإسلامية في سورية، وبرزَ ذلك بقوَّة ووضوح في النشاط الإسلاميِّ الذي بدأ في عهد ما سُمِّي بالانفصال، ثم نَضِجَ واشتدَّ في العهد الذي تلاه والذي آل إلى استيلاء حزب البعث على السُّلطة، وفرضه حُكمًا عسكريًّا استبداديًّا قمعيًّا على البلاد، وتوجيهها وجهةً علمانية تُجافي الدِّين وتبعده تمامًا عن الحياة، وتُحارب أصحابه وتُقصيهم عن مراكز التوجيه والتأثير، فاتَّفقَ الأستاذ الباني مع أبرز الدُّعاة النشيطين في دمشق، وعلى رأسهم العالم المربِّي القُدوة الدكتور محمد أمين المصري رحمه الله، والمفكِّر الإسلامي الجريء جودت سعيد([1])، والأستاذ المربِّي محمد القاسمي وغيرهم، اتفقوا على إقامة عمل إسلاميٍّ قويٍّ يجمع أصحابَ الاتجاه الإسلامي ليتصدَّوا للتوجُّه المعادي الجديد، واتخذ هؤلاء الدعاةُ جامعَ المرابط في حيِّ المهاجرين بمدينة دمشق مركزًا لنشاطهم، وقد كان الدكتور أمين المصري خطيبَ الجمعة فيه، فكانوا يعقدون اللقاءات عقبَ صلوات الجمعة وبعد صلوات العشاء في مواعيدَ دورية، وكانت تضمُّ خيرةَ الشباب المتحمِّس للإسلام في المدينة، وفيهم عددٌ كبير من الشباب الجامعيِّ من المدن الأخرى الذين كانوا يدرُسون في الجامعة السورية الوحيدة في دمشق، ويحضُرها جمهورٌ غفير من سكَّان المدينة. وقد شكَّل ذلك تحدِّيًا قويًّا للسلطة؛ إذ كان القائمون على هذا النشاط يُصرِّحون برأيهم في السُّلطة الحاكمة وتصرُّفاتها وتوجهاتها بكلِّ جُرأة ووضوح، وكان نشاطهم ينمو ويزيد بسرعة وقوة، فأخذت السُّلطة إجراءات متتالية ضدَّهم؛ من التحقيق والسَّجن والتعذيب والفصل من العمل والتضييق واختراق صفوفهم حتى أُنهكوا ورأَوا أن المصلحةَ في وقف نشاطهم إلى وقتٍ آخر، وفضَّل بعضُهم السفر إلى المملكة العربية السعودية حيثُ يمكنهم إفادة الدعوة هناك، وكان من هؤلاء الدكتور المصري والأستاذ الباني، فنفع الله بهما نفعًا عظيمًا.

أما الدكتور أمين المصري فأُسند إليه تدريسُ الحديث في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوَّرة، ثم الإشرافُ على قسم الدراسات العُليا في الحديث، وألَّف عددًا من الكتب الإسلامية الجيدة، وتخرَّج على يديه عددٌ كبير من الطلاب الذين اكتسبوا منه المنهجَ العلميَّ الصحيح في التفكير والبحث، فضلاً عن الخُلُق القويم والاستقامة في السُّلوك، واستمرَّ في العطاء المبارك حتى اختاره الله إلى جواره، فوافته المنيَّة وهو في بعثة من الجامعة لبعض الدُّوَل الغربية للاطلاع على المخطوطات الإسلامية الكثيرة في مكتباتها وتصويرها، وذلك في سنة 1398هـ (1978م)، وقدَّر الله أن يلقى هناك عديلَهُ([2]) المحدِّث محمد ناصر الدين الألباني الذي كان في بعثة دعوية إلى النمسا، فاجتمعا في منزل شقيق زوجتيهما الدكتور أيمن القادري هناك، وتولَّى الشيخ الألبانيُّ تغسيلَه وتكفينَه والصلاةَ عليه، ثم نُقل بالطائرة إلى مكة المكرمة حيث صُلِّيَ عليه في الحرم ودُفن بمقابر مكة رحمه الله تعالى.

وأما الأستاذ الباني فقد درَّس مادَّةَ التربية في جامعة الرياض التي صار اسمُها فيما بعد جامعة الملك سعود، ثم لما رأى المسؤولون في وزارة المعارف جِدَّه وسَعَةَ علمه، وطولَ خبرته، واستقامتَه اختاروه مع ثُلَّة من العلماء السعوديين وغيرهم([3]) في لجنة مهمَّتها وضعُ مناهج التعليم في المملكة العربية السعودية لكلِّ المراحل التعليمية، فأدَّوا ذلك على أحسن وجه، ولعلَّها أفضلُ المناهج في العالم العربيِّ والإسلاميِّ جميعًا، وكان ذلك بين سنة 1388 و1392هـ، وهي التي ما يزال يُعمَل بها إلى الآن. والحقُّ أنها لو طُبِّقَت تمامًا على أيدي مدرِّسين أكْفاء لأنتجت بعون الله جيلاً صالحًا قريبًا من أجيال السلف الأولى، يجمعُ بين الفهم الصحيح للدِّين والعمل به، ويجمع بين الأصالة والمعاصَرة، وبين العلم والدِّين.

وكان من أبرز ميزات هذه المناهج أنها قرَّرت وضعَ مادة باسم (الثقافة الإسلامية) في جميع سنوات الدراسة الجامعيَّة لكلِّ التخصُّصات؛ كي يبقى الطالبُ على صلة وثيقة بدينه وثقافة أمَّته ولا ينفصلُ عنها، وكان مما تميَّزت به ربطُها بين حقائق العلوم الطبيعية الحديثة وحقائق الإيمان، مع مُباينةِ طريقة الدِّراسة المادِّية الغربية التي تفصل بين الدِّين والعلم، وتفسِّر الظواهرَ الطبيعية بالصُّدفة والطبيعة والتطوُّر، دون إشارة إلى خالقها المبدِع العظيم، هذا إضافة إلى إعطاء العلوم الشرعية الإسلامية مِساحةً كافية في توزيع الحِصَص الدراسية، مع تركيزها على المنهج الوسطيِّ المعتدِل البعيد عن الغلوِّ بجميع أنواعه في فهم الدِّين والحياة.

خامسًا- كان على حظٍّ كبير من حُسن الخُلُق والتقوى: فكان من الورع والإخلاص في المحلِّ الأسمى - فيما نحسَبُ ولا نُزكِّي على الله أحدًا - ومن التواضُع والرِّفق بالمنزلة العُليا، ومن الإنصاف والعدل والأناة بالموضع الذي لا يُدانى، فكان يعمل بكلِّ جِدٍّ مبتعدًا عن الأضواء والشُّهرة، ولهذا كلِّه ترى عامَّةَ العلماء والمفكِّرين والدُّعاة على اختلاف مشاربهم يُجمعون على حبِّه والثقة به، والاعتراف بفضله، واحترامه وإجلاله، وما نالَ ذلك بالمجاملة والمداهنة، وإنما بالصِّدق مع الله والاستقامة على أمره، فحَقَّ فيه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أحَبَّ الله عَبدًا نادى جبريلَ: إنِّي قد أحبَبتُ فُلانًا فأحِبَّه، فيُحِبُّه جبريلُ، فيُنادي جبريلُ في أهل السماء: إنَّ الله يُحبُّ فُلانًا فأحِبُّوه، فيُحبُّه أهلُ السماء، ثم يُوضَع له القَبولُ، ثم تنزلُ له المحبَّة في الأرض، فذلك قولُه تعالى: {إن الذينَ آمَنُوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ سيَجعَلُ لهمُ الرَّحمنُ وُدًّا} [مريم: 96]، وإذا أبغضَ الله عبدًا نادى جبريلَ: إنِّي أبغَضتُ فُلانًا، فيُنادي في السماء، ثم تنزلُ له البَغْضاءُ في الأرض)) رواه الترمذي. وروى القسمَ الأول مالكٌ وأحمد والشيخان من حديث أبي هريرة، وأورده الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (283) و(284).

لقد كان الشيخ عبدالرحمن الباني سليمَ الصدر لا يحمل حقدًا أو غلاً على أحد، وإذا خاصم فللَّه تعالى لا لنفسه أو للدنيا، وكان محبًّا للمسلمين على قَدر علاقتهم بربِّهم ودينهم، فكان ودودًا ألوفًا وفيًّا، وكان يعامل الناسَ برفق بالغ، وأسلوب لطيف آسِر، فأحبَّه الناس، وأحبُّوا منهجَه وفكرَه، وقد حدَّثنا فقيدُنا السابق الشيخ الداعية الكبير عبدالقادر الأرناؤوط - رحمه الله تعالى - أن أهمَّ ما دفعه إلى تبنِّي العقيدة السلفية هو الأستاذ الباني رحمه الله، حيث كان يزور الشيخَ الألبانيَّ الذي كان يسكنُ في الحيِّ الذي يخطُب في مسجده الجامع الشيخُ عبدالقادر، فكان إذا صلَّى فيه ورأى في خُطبته بعضَ الملحوظات، أتاه وكلَّمه فيها بكلِّ مودَّة ولطف وحكمة واحترام، وأبان له رأيه مُرفقًا بالدَّليل الشرعي، وقد يدلُّه على بعض المصادر العلمية، فحبَّب إليه بذلك تلك الدعوة، فصار فيما بعد إمامًا فيها وداعيًا لها.

سادسًا- جمعَ بين الزُّهد في الشُّهرة والجَهر بالحقِّ: فكان يُؤْثرُ البعدَ عن الأضواء، وفي الوقت نفسه حين يلزَمُ الأمرُ يتكلَّم بقوَّة وجُرأة وبيان فصيح جليٍّ، فيجتذبُ الأسماعَ ويَخلِبُ الألباب، فلا يتلعثم ولا يضعُف، ويهدِرُ كالسَّيل يرتجل الكلامَ ارتجالاً، وكأنه يغرفُ من بحر.

وقد حضرتُ له مجالسَ في بيته بعدما نيَّف على التسعين، وهو يتحدَّث عن ذكرياته عن أحداث البلاد العربية والإسلامية والشخصيَّات الكبيرة التي عاصرها، فنعجَبُ من ذاكرته القويَّة؛ إذ يروي بعضَ الحوادث، ويُغريه الحديث فيستطرد استطرادًا بعد استطراد في جوانبَ جُزئيَّة مفيدة، ثم يعود بعد كلِّ استطراد إلى حديثه الأول، دون أن يُخطئَ أو يسهوَ، والجميع يُتابعه في حديثه الشائق النافع الذي يتفرَّد بروايته كأنه موسوعةٌ علميَّة ناطقة متحرِّكة للأحداث والأشخاص، فللَّه درُّه من متحدِّث ومؤرِّخ وعالم وخطيب!

وأخيرًا: إن الحديث عن الشيخ الأستاذ عبدالرحمن الباني طويلٌ ذو شُجون، وفراقُه صعبٌ ومؤلم، ولا شكَّ أن الأجيال ستذكُرُه على أنه أحدُ الجنود المجهولين الذين نصروا الإسلامَ والعلمَ والأمَّةَ باللسان والبيان والعمل الجاد، فرحمه الله رحمةً واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء، وعوَّض الأمَّةَ عنه خيرَ العوض، وجمعنا به في روضات الجنان مع الذين أنعمَ الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحسُنَ أولئك رفيقًا، وصلى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا وقُدوتنا محمد وآله، والحمد لله ربِّ العالمين.

وكتبه: محمد عيد العباسي

في 25 شعبان 1432هـ       

 

أيمن بن أحمد ذوالغنى يقدِّم للشيخ محمد عيد العبَّاسي درعَ شبكة الألوكة التكريمي؛

لمشاركته في لجنة تحكيم مسابقة (النفس المطمئنة)، بحضور العلامة المربي الشيخ عبدالرحمن الباني رحمه الله

([1]) اكتسب الأستاذ جودت سعيد شهرةً واسعة جيدة فيما يُسمَّى بعقد الستينيَّات من القرن الميلادي السابق؛ لفكره المتحرِّر من التقليد والجمود والتعصُّب، ولشجاعته في التصدِّي لفكر حزب البعث الحاكم في سورية وأعماله، وكان متأثِّرًا بأفكار بعض المفكِّرين والفلاسفة الغربيين والشرقيين، وخاصة المفكِّر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي رحمه الله، وكان يُلحَظ على الأستاذ جودت بعض المبالغة في جانب العقل، وأخذ هذا ينمو ويزداد حتى صار انحرافًا خطيرًا في فكره، ففقد كثيرًا من سُمعته. وتجد بيانَ ذلك في كتاب ((النزعة المادية في العالم الإسلامي)) للأستاذ الفاضل عادل التل.

([2]) العديل: المُعادِل، وفي العُرف: من كانت زوجتُه أختَ زوجة الآخر.  

([3]) كان منهم الأستاذُ الفاضل سعيد الطنطاوي شقيقُ أديب العلماء الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى.