الشيخ عبد الرحمن الباني العالم المربِّي

د. علي بن محمد الشبيلي

الزاهد في الشهرة (1)

د. علي بن محمد الشبيلي

كان شيخنا عبدالرحمن الباني موسوعةً في العلم، وهو عالمٌ بحق، بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمة، وأنا لم أعرفه إلا من بضع سنين، وقد رأيتُ عنده علمًا جمًّا، فهو بحرٌ لا ساحلَ له، وكلما سألتُه عن شيء وجدت عنده علمًا وتاريخًا وفوائدَ لا ينقطع منها العجب. يحدِّثني عن الكتب وتاريخها ومتى طُبعت وكيف طُبعت، وكان حديثه هذا يستهويني، ولا أكاد أجدُه عند عالم آخر.

والشيخ الباني حقيقةً أفسد عليَّ بقيةَ المشايخ، فالذي يعرفُ الشيخَ لا تطيب نفسُه في الأخذ عن شيخ  آخرَ؛ لأنه يُغنيك ويملؤك بكلِّ ما تودُّ معرفته في العلم والتربية.. ولا تزالُ كثيرٌ من عباراته محفوظةً في الذهن.

إن هؤلاء الكبارَ عندما يرحلون يتركون في الإسلام ثُلمةً لا تُسَدُّ،  ومنذ موت الشيخ لا نكاد نركب السيارة أنا وولدي ونمرُّ بجوار بيته ونملك أنفسَنا من شدَّة الحزن والتأثُّر بفقده!

وكان الشيخ على كِبَر سنِّه يمشي دومًا على قدميه إلى المسجد، ولا أنسى مجلسَه بعد صلاة الجمعة العامر بالفوائد...

ولم يزُرني الشيخ في بيتي أو أزُره إلا جاءني بوردة من حديقة منزله، وقد روى لي إمامُ المسجد الذي يصلِّي فيه قربَ داره عجيبةً من عجائب الشيخ، وهي أنه بعد صلاة الفجر من كلِّ خميس لا بدَّ أن يُهديَ إليه وردةً، نسأل الله له الرحمة والمغفرة.

وكان الشيخ كثيرًا ما يُحضر معه كتبًا ليطلعَني عليها، ومرة حدثني عن كتب التراجم وأهميَّتها وتناول منها كتابَ ((الأعلام)) لخير الدين الزِّرِكْلي، وقلت له: هذا الكتاب لم أقتنه. وبعد زمن أُفاجَأ بالشيخ - رحمه الله - وقد جاءني بكيس كبير وضع فيه كتابَ الأعلام مع الذيل عليه الذي صنعه أحمد العلاونة في ثلاثة مجلدات.

وكان يُناقشني كثيرًا في ترتيب المكتبة، وأنها يجب أن تُرتَّبَ الترتيبَ الصحيح، فقلت له: إن مكتبتي ليست بالكبيرة، فقال: لذلك لا يصلُح معها ترتيب (ديوي)، واقترحَ عليَّ كتابًا أعتمده في ترتيب المكتبة، أحضره لي من مكتبته هديةً جزاه الله عني خيرًا، وهو كتاب ((التصنيف الببليوغرافي لعلوم الدين الإسلامي)) لعبدالوهَّاب أبو النور، وقد كتب الشيخُ على صفحة غلافه الداخلي بخطِّ يده: اسمه، وتاريخ اقتنائه للكتاب (الرياض 25 ذو القعدة 1396هـ)، ومعلومات عن الكتاب.

ويمتاز الشيخ بالشُّموليَّة في العلم والاطِّلاع، ففي مجلس الجمعة مثلاً يقول: سنتحدَّث اليوم عن سورة الحشر، ثم يتكلَّم فلا يذكر شيئًا من تفسير السُّورة؛ إذ ما إن يشرع في الكلام حتى يسيحَ في عالم الفوائد، ولا تخرُج من المجلس إلا وأنت مُشبَع في التفسير والفقه والحديث واللغة والتربية.

ومن الأشياء الجميلة التي رأيتُها في الشيخ: ورعُه في لسانه، وقد نُقل عن بعض السلف قوله: ((لم يكونوا يرَونَ العابدَ الذي يصلِّي ويصوم، ولكنَّ العابدَ الذي يكفُّ لسانه عن أعراض المسلمين)). وكان للشيخ من هذه الخَلَّة نصيبٌ وافر كبير، فمجالسُه كلُّها تنتفع بها من أوَّلها إلى آخرها، دون أن يتحدَّثَ عن أحد بسوء، وإذا احتاج أن يتكلَّمَ في مؤلِّف أو كاتب انتقادًا، تكلَّم فيه بكلِّ أدب وذوق وإنصاف.

وكان زاهدًا في الدنيا، زاهدًا في الشهرة، وفي مكتبتي كتابٌ عنوانه ((علماء زهدوا في الشهرة)) وكلما تصفَّحتُه قلت في نفسي: يجب أن يُذكرَ في صدر هذا الكتاب الشيخُ عبدالرحمن الباني. وقد طلبَتْ منه قناةُ المجد وغيرها مرارًا أن يخرجَ فيها ولو لنصف ساعة؛ ليقدِّمَ للمشاهدين شيئًا مما آتاه الله من علم وفوائد، ولكنه كان يأبى ويعتذر؛ لأنه لا يرى نفسَه أهلاً لذلك.

لقد أتعبَ الشيخ من يأتي بعده، وإذا كان الكبارُ من عارفيه يتحدَّثون عنه بكثير من الحبِّ والتقدير، فما بالك بالصغار، ولا سيَّما الأطفالُ في مسجدي؟ كان إذا صلَّى معي جاء وجيبُه مملوء بالحَلْوَيات يوزِّعها عليهم بعد الصلاة([2]).

وكان إذا رأى متسوِّلاً في المسجد لا بدَّ أن يعطيَه شيئًا من المال - فهو ذو قلب مُلئ رحمة - ولا يُعطيه ويتركه، ولكنه يأخذُ به جانبًا وينصحه بأن يعملَ ويكفيَ نفسه من كدِّ يده، ويذكر له أن العمل خيرٌ له من تكفُّف الناس.

الشيخ بلا ريب كان قدوة، ولم أرَ ولدي تأثَّر بموت إنسان كما تأثَّر بموت الشيخ الباني، وهو ما يزال طالبًا في المرحلة الثانوية؛ لأن الشيخ أسره بلطفه وتواضعه ودماثة أخلاقه، وكان يلقاهُ في السوق المجاور لنا فينصَحُ له برقَّة وحَدَب، ويُفيده فوائد، ولذلك كلَّما مرَرنا بجوار بيت الشيخ لا يملك إلا أن يبكيَ حزنًا على فقده.. وبوفاته انقطع عنا الوردُ الذي كان يُتحفنا بعبيره دومًا... نسأل الله أن يتغمَّدَه برحمته ويغفرَ لنا وله.

 

                

([1]) أصل هذه الكلمة حلقة تلفازية بقناة المجد، أقامها الأخ الإعلاميُّ الأستاذ مروان خالد أبو بكر، في برنامج (تغطية خاصة) عن شيخنا الراحل العلامة المربي عبدالرحمن الباني، مستضيفًا فيها فضيلة الشيخ د. محمد بن لطفي الصبَّاغ، ود. علي بن محمد الشبيلي. وهذا النصُّ نقله الأستاذ أيمن بن أحمد ذوالغنى كما كان في الحلقة، مع تصرُّف يسير اقتضاه نقل الحوار الشفويِّ إلى نص مقروء.  

([2]) وهذا كان دأبه في مسجده بعد الصلوات، فكثيرًا ما صليتُ معه في أوقات مختلفة، فكان يتحرَّى الأطفالَ ويطوف في أركان المسجد وجنباته يوزِّع عليهم الحلوى؛ تشجيعًا لهم وترغيبًا في المحافظة على الصلاة في بيوت الله، رحمه الله رحمةً واسعة (أيمن).