سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني (12)

سطور من حياة الداعية الرباني

عمر التلمساني (12)

بدر محمد بدر

[email protected]

وإذا كان القول المشهور: ابحث عن المستفيد تعرف الفاعل الحقيقي, فإن النتيجة كانت اعتقال الآلاف من قيادات ورموز وأفراد الإخوان المسلمين, والزج بهم في السجون والمعتقلات, حيث تمت محاكمتهم أمام محاكم استثنائية (محكمة الثورة ـ محكمة الشعب ـ المحاكم العسكرية..) وصدرت ضدهم أحكام بالإعدام على عدد من قيادات الجماعة وعلى رأسهم المرشد العام المستشار حسن الهضيبي وقيادات مكتب الإرشاد, وتم تخفيف الحكم بعد ذلك على الأستاذ الهضيبي إلى الأشغال الشاقة المؤبدة, بينما نفذ الإعدام بحق ستة وهم الشهداء: المستشار عبد القادر عودة والشيخ محمد فرغلي والأستاذ إبراهيم الطيب والأستاذ يوسف طلعت والأستاذ هنداوي دوير والأستاذ محمود عبد اللطيف.. كما صدرت أحكام أخرى على العشرات بالأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة, إضافة إلى اعتقال المئات من الباقين.

وصدر الحكم على الأستاذ عمر التلمساني بالأشغال الشاقة لمدة 15 عاماً, قضاها كلها (54 ـ 1969م) وعندما حان موعد الإفراج عنه بعد انتهاء المدة, تمت إحالته إلى الاعتقال السياسي, ليبقى فيه عامين آخرين حتى تم الافراج عنه في منتصف عام 1971م (30 / 6 / 1971), عقب وفاة جمال عبد الناصر في 28 / 9 / 1970, وتولي الرئيس محمد أنور السادات مقاليد السلطة, حيث حرص على تصفية أوضاع المعتقلين من الإخوان المسلمين.

عاش الأستاذ عمر في السجن وعذابات القيد ومرارة الشعور بالظلم, وهو العاشق للحرية, المتيم بنسائمها, الباحث والمدافع عن الحق والعدل, لكنه استعذب القيد مادام ذلك في سبيل الله, وتحمل الألم مادام ذلك قدره في الدعوة إلى الله, ومادام الله راض عنه, وكان موقناً بأن الظلم له نهاية, وأن الظالم سينال عقابه لا محالة سواء في الدنيا أو الآخرة, ويوما ما سيفرح بالحرية ويتغنى بأريجها ويهتف بإسمها.

تنقل الأستاذ عمر بين معظم سجون مصر, بدءاً من سجن مصر, ومروراً بسجون: بني سويف والواحات والمحاريق وأسيوط وقنا, ووصولاً إلى سجن ليمان طرة, وعقب انتهاء الحكم وصدور قرار باعتقاله, نقلوه إلى سجن مزرعة طرة فبقى فيه عامين إلى أن أفرج عنه الرئيس الراحل أنور السادات.

كان الأستاذ عمر يستفيد من وقت فراغه في السجون, التي أمضى فيها 17 عاماً, بقراءة ومراجعة ما يحفظه من القرآن الكريم, والبحث عن كل مفيد من الكتب, فقد عاش حياته عاشقاً للإطلاع وباحثاً عن المعرفة, ليس فقط باللغة العربية, ولكنه أيضاً كان يقرأ بالإنجليزية والفرنسية, وفور خروجه من السجن شرع في تأليف كتابه المعروف "شهيد المحراب.. عمر بن الخطاب", وساعدته هذه الملكة على أن يكون خطيباً مفوهاً, ومتحدثاً لبقاً في المؤتمرات والندوات الجماهيرية, وكانت كتاباته ومقالاته كذلك تعبر عن غزارة معرفية ولغوية واضحة.

وعقب خروجه من المعتقل, بذل الأستاذ عمر كل جهده من أجل الإفراج عن بقية إخوانه المعتقلين, ولم يجد حرجاً في البحث عن قنوات اتصال مع المسئولين في السلطة الجديدة, عقب تولي الرئيس أنور السادات الحكم, ثم إطاحته بمراكز القوى التي ورثت السلطة والنفوذ في العهد الناصري, في مايو 1971 وبدا كأن عهداً جديداً في سبيله للتشكل والتكوين, وهذا ما شجع الأستاذ التلمساني أكثر على المضي قدما في سبيل الإفراج عن إخوانه, خصوصا بعد أن حمل المسئولية عام 1973.

وأخبرني الأستاذ جابر رزق الصحفي المعروف ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ الذي حكم عليه بالسجن في تنظيم 1965, أن بعض الإخوان المعتقلين والمسجونين في تلك الفترة شعروا بالحرج من جهود الأستاذ عمر للإفراج عنهم, خوفاً من أن يكون ذلك تنازلاً لا يجوز من أصحاب الدعوات, وهم الذين اختاروا المحن والسجون في ظلالها على حياة الدعة والراحة بعيداً عنها, وربما خوفاً من أن يكون لهذه الجهود "يد" من السلطة عليهم بعد خروجهم, فتمنعهم من العمل مع الدعوة والحركة, وربما أيضاً خوفاً مما قد يرى فيه البعض مظهراً من مظاهر الضعف والانهيار, وربما أسباب غير ذلك أيضا, حتى إن بعض هؤلاء أبلغوا الأستاذ عمر أنهم لم يفوضوه ليتحدث باسمهم طلباً للإفراج عنهم, فكان جوابه ـ رحمه الله ـ أنه يفعل ذلك من أجل أبنائهم وبناتهم وزوجاتهم, وأنه سيواصل جهوده من أجل الإفراج عنهم, حتى ولو رفض البعض ذلك..

ترطيب الأجواء

كان الأستاذ عمر التلمساني في ذلك الوقت مؤمنا بصحة مايفعله, محتسباً هذه الجهود التي يبذلها عند الله سبحانه وتعالى, ومؤملاً أن تخف وطأة السلطة على الجماعة مستقبلاً, وأن تهدأ نفوس الإخوان من قسوة ومرارة الظلم, الذي وقع عليهم وعلى دعوتهم, حتى يعودوا إلى الحياة الطبيعية في المجتمع, وتطوى هذه الصفحة السوداء من تاريخ الوطن, وكان له بفضل الله وتوفيقه ما أراد, فقد تواصلت عمليات الإفراج عن المعتقلين من الإخوان المسلمين, ثم بدأ الإفراج عن الذين صدرت بحقهم أحكام من القضاء الاستثنائي, وتم إغلاق ملف سجناء ومعتقلي الجماعة تماماً في عام 1975, ولكن ـ بالطبع ـ إلى حين!.