سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني (7)

سطور من حياة الداعية الرباني

عمر التلمساني (7)

بدر محمد بدر

[email protected]

ولم تؤثر إجابتي الساخرة على أعصابه, بل ظل كما هو موجهاً أسئلته, قال: هناك شيء أهم من الكتاكيت في حاجة إلى التربية من أمثالك, فقلت ومازلت غير جاد في الإجابة: وما ذلك الشئ الذي هو في حاجة إلى تربيتي؟ قال: المسلمون الذين بعدوا عن دينهم, فتدهور سلطانهم حتى في بلادهم, وأصبحوا لا شيء وسط الأمم, قلت: وما شأني بذلك؟ هناك الحكومات والأزهر الشريف بعلمائه يتولون هذه المهمة, قال: إن الشعوب الإسلامية لا يكاد أحد يحس بوجودها, هل يرضيك أن تدُعى هيئة كبار العلماء ليلة القدر من كل رمضان للإفطار إلى مائدة المندوب السامي البريطاني, وإلى جانب كل شيخ سيدة إنجليزية في أبهى زينتها؟ قلت: طبعاً لا يرضيني ولكن ماذا أفعل؟ قال: إنك لست اليوم بمفردك, فهناك في القاهرة هيئة إسلامية شاملة اسمها جماعة الإخوان المسلمين, ويرأسها مدرس ابتدائي اسمه "حسن البنا", وسوف نحدد لك موعداً لتقابله وتتعرف إلى ما يدعو إليه ويريد تحقيقه..

وشبت العاطفة الدينية الكامنة في دخيلة نفسي, فملت إلى الرضا, ووافقت على مقابلة الرجل.. وعلمت منهما قبل أن ينصرفا أنهما يؤديان مهمة في كل يوم جمعة بعد صلاة الفجر, يجوبان القرى والعزب التابعة لمركز شبين القناطر, يبحثان عن رجل يصلي ويصوم ويؤدي فرائضه, فيتعرفان إليه ويعرضان الدعوة, فإن قبل اعتبراه نواه لشعبة (من شعب الجماعة) في موقعه, وكان في كل مركز من مراكز القطر من يقوم بمثل مهمتهما من الإخوان المسلمين.

وبعد أيام حضرا إلىّ في مكتبي, وأخبراني بأنهما حددا لي موعداً مع فضيلة المرشد العام, وكان يسكن في حارة عبد الله بك في شارع اليكنية في حي الخيامية بالقاهرة الفاطمية.

تأملات في المشهد

ونتوقف هنا لنتأمل قليلاً في هذا المشهد الدعوي المدهش, الداعية فيه هو إنسان بسيط, أحدهما حاصل على الابتدائية ولا يحمل مؤهلاً جامعياً, والثاني لا يحمل مؤهلاً بالمرة, لكنه يحمل بين جوانحه إيماناً عميقاً برسالته ومسئوليته, وإقداماً لا تردد فيه ولا تراجع, وقدرة على الحوار العاطفي المؤثر, الذي يخاطب الغيرة على الدين والعرض, ثم كيف يحملّ المدعو المسئولية عما وصل إليه حال الأمة, دون تسفيه لما يقوم به من تربية الكتاكيت!, ثم يصل بالمدعو سريعاً إلى الجانب "العملي", بتعريفة بـ "الهيئة الإسلامية الشاملة" ورئيسها "مدرس الإبتدائي", ثم يبلغانه أنهما يقومان بهذا العمل كل يوم جمعة بعد صلاة الفجر, يبحثان عن "رجل يصلي ويصوم ويؤدي الفرائض" وبالتالي هو الأقرب إلى الاستجابة للدعوة, فإن قبل دعوتهما, اعتبراه "نواة" لشعبة في موقعه, وأن هناك آخرين يقومون بنفس المهمة في كل أنحاء القطر, كل ذلك ليدرك المدعو دوره ومسئوليته!.

أما المدعو فهو إنسان يحمل شهادة عليا, وفي نفس الوقت نشأ في بيئة متدينة, حافظت على العمق الديني بداخله, وهو يحافظ على الصلاة وأداء الفرائض, لكنه يجهل مسئوليته العامة تجاه الوطن والأمة, ويحتاج إلى من يأخذ بيده برفق.. وهو ما كان حتى أصبح بعد ذلك واحداً من الرموز الكبرى في دعوة الإخوان المسلمين, بل المرشد الثالث لها (73 ـ 1986), وربما ظل هذان الأخوان بعد لقائه يجدون في البحث عن المؤيدين والأنصار.

ونلحظ أيضاً أن هذا الحوار حدث في أوائل عام 1933م, أي بعد أسابيع قليلة فقط من وصول حسن البنا إلى القاهرة, ومغادرته الإسماعيلية التي انطلق بدعوته منها (أكتوبر 1932م), فكيف استطاعت هذه الدعوة أن تصل إلى أمثال هؤلاء الناس بهذه السرعة؟!, وكيف نجح حسن البنا في أن يؤثر فيهم كل هذا التأثير, وأن يغرس فيهم كل هذا الإيمان بالفكرة والعمل من أجلها؟!.. لا شك في أن هناك أسبابا كثيرة, من بينها: الصدق والإخلاص والتوفيق الرباني, ساهمت في سرعة انتشار هذه الدعوة المباركة.

ونواصل قصة اللقاء بين عمر التلمساني وحسن البنا كما يرويها الأول, فيقول ".. وفي الموعد المحدد طرقت باب الرجل, ودخلت إلى حوش المنزل, وصفقت فرد عليّ صوت رجل يقول: من؟ قلت: عمر التلمساني المحامي من شبين القناطر, فنزل الرجل وفتح باب غرفة على يمين الداخل من الباب الخارجي ودخلتها من ورائه, وكانت مظلمة لم أتبين ما فيها.. كانت الغرفة متواضعة, بها مكتب صغير وبعض الكراسي من القش يعلوها شئ من التراب, وجلس إلى المكتب وقدم لي كرسياً لأجلس, وعز علىّ أن أجلس على مثل ذلك الكرسي بالبدلة الأنيقة, فأخرجت منديلاً من جيبي وفرشته على الكرسي, لكي أستطيع الجلوس هادئاً في غير تضجر ولا قلق.. وكان ينظر إلى ما أفعل, وعلى فمه ابتسامة واهنة ظننتها تتعجب مما أفعل ومما أدعى إليه, وشتان بين رجل يحافظ على أناقته, ورجل على وشك أن يدعى إلى العمل والجهاد في سبيل الله, وحق له أن يتعجب إذ أن مظهري كان يدل على الرفاهية التامة, وعدم تحمل مشاق العمل في سبيل الله, الأمر الذي يحتاج إلى الكثير من خشونة العيش مع عدم الانغماس في رفاهية الحياة".