سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني (3)

سطور من حياة الداعية الرباني

عمر التلمساني (3)

بدر محمد بدر

[email protected]

كانت هذه أول مرة ألتقي بالأستاذ الكبير عمر التلمساني, وكان يومئذٍ في الرابعة والسبعين من العمر, وأنا لم أكمل بعد عامي العشرين, ورغم أنه كان يعرف أن حواري معه لن ينشر في أي مكان, وأنه للتدريب فقط, إلا أنه تعامل معي بكل جدية ورفق, وشعرت بالخجل أكثر لأنني أرهقته بتأخري عليه, وكان درساً لي في احترام المواعيد أيا كانت الأعذار.. سألته وقتها عن واقع الإخوان المسلمين, وعن نظام الحكم السابق والحالي (أيام السادات), وعن التعذيب في السجون أيام عبد الناصر, وعن فكر وجماعات التكفير والهجرة, ثم عن نصيحته للشباب المسلم..

كان الداعية الكبير يجيب في بساطة وانطلاق وتمكن حتى انتهى الحوار, فأغلقت جهاز التسجيل وهممت بالانصراف, شاكرا له كرمه وحسن أخلاقه, لكنه استوقفني بضع دقائق قبل أن أستأذن.. وكانت هذه الدقائق غالية جدا في حياتي.. لم يتعامل معي على أنني أؤدي عملاً تدريبياً وينتهي الأمر, لكنه نصحني برفق, ونبهني إلى أهمية الاعتدال والوسطية في حياة الشاب المسلم بغير إفراط أو تفريط, مذكرا إياي بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق, فإن المنبتّ (المتعجل) لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى", والإسلام ليس مظاهر وشعارات، بل هو جوهر وعقيدة وسلوك وعبادات, وأن تنفيذ التوجيهات النبوية يحتاج إلى حكمة الداعية ورفق الطبيب وذكاء المربي وصدق الناصح الأمين, وأن علينا العمل وليس علينا تحقيق النتائج..

شكرته على هذه النصائح الغالية, وأعجبني هذا الفهم الراقي الذي كنت في أشد الحاجة إليه, في فترة حماستي واندفاعي, وانصرفت من أمامه وفي داخلي ارتياح كبير وسعادة غامرة، واطمئنان قلبي ونفسي لا أنساه أبداً.. لقد حملت نصائح الأستاذ عمر لي معنى الأبوة ـ التي افتقدتها وأنا في السابعة من عمري ـ والرفق الحاني والتجربة الدعوية العميقة, وهي ما كنت أحتاج إليه في هذه المرحلة من حياتي.

وكلما تعرفت على معالم الإسلام, واندمجت في العمل الإسلامي الطلابي أكثر, كنت أدرك عظمة رجال الإخوان المسلمين ونسائهم, الذين ضحوا من أجل رفعة الإسلام، وعودته من جديد لتشكيل معالم المجتمع المصري والعربي، وتأكيد ملامحه الإيمانية والأخلاقية, وكان هذا الشعور يملأ نفوس الكثيرين غيري من طلاب الجامعات المصرية في تلك الفترة, بل إنه كان عاملاً من عوامل الجدية والحماسة والبذل والتضحية والعطاء.

وفي الأجازة الصيفية التي تلت السنة الثانية في الكلية, حرصت على الاتصال بمجلة الدعوة، للتدريب لديها في شهور الصيف إن كان ذلك متاحا, وكانت قد انتقلت إلى مقر آخر في رقم واحد شارع سوق التوفيقية، القريب من ميدان الإسعاف بوسط القاهرة, وزرت المجلة واستقبلني الأستاذ عبد الرحمن عبد الوهاب سكرتير التحرير, وكلفني بتغطية مؤتمر طلابي كان قد عقده طلاب جامعة القاهرة بمسجد صلاح الدين بالمنيل, ونفذت المطلوب وقدمت التقرير الصحفي للأستاذ عبد الرحمن, لكن ظروفاً خاصة استدعت عودتي إلى بلدتي بالمنوفية, وبقيت مع عائلتي طوال الأجازة الصيفية، حتى بداية العام الدراسي الجديد.

ثم عدت للتواصل مع "مجلة الدعوة" وأصبحت محرراً تحت التمرين, وسرعان ما تم تكليفي بالإشراف على باب "أخبار الشباب والجامعات", وهو عبارة عن أربع صفحات قرب نهاية صفحات المجلة, تتناول أخبار طلاب وأساتذة الجامعات في مصر، وأخبار شباب الحركات الإسلامية في العالم, وبدأت أحضر اجتماعات مجلس التحرير, التي كانت تعقد مساء كل أحد أسبوعياً, ويرأسها الداعية الكبير الأستاذ عمر التلمساني، وكان من بين أعضاء مجلس التحرير: الأستاذ صالح عشماوي (صاحب الامتياز ورئيس التحرير) والأستاذ مصطفى مشهور والشيخ محمد عبد الله الخطيب والأستاذ صفوت منصور والدكتور يحيى اسماعيل والدكتور أبو اليزيد العجمي والأستاذ عبد المنعم سليم جبارة والأستاذ جابر رزق والأستاذ محمد عبد القدوس والأستاذ محسن راضي والأستاذ صلاح عبد المقصود وكاتب هذه السطور, وغيرهم.

كان الأستاذ عمر يبدأ الاجتماع بخاطرة دعوية، عبارة عن معنى مهم في آية قرآنية أو حديث نبوي شريف, أو موقف لأحد العلماء أو الدعاة, أو حادثة مؤثرة في التاريخ الإسلامي لاستنباط العبر والدروس, ثم يبدأ النظر في جدول الاجتماع, بالإحاطة بما تم في الاجتماع السابق, ثم الموضوعات المقترحة على الاجتماع الحالي, سواء كانت مناقشة العدد الجديد بعد صدوره, مناقشة فكرية ودعوية ومهنية وأيضاً لغوية, أو مناقشة بعض المقترحات للعدد الجديد وكيفية تنفيذها وموعد تسليمها لإدارة التحرير.. الخ, ثم ينفض الاجتماع بعد نحو ساعتين أو ثلاثة.

وعقب تخرجي عام 1980 وقبل إعلان النتيجة وحصولي على درجة البكالوريس في الإعلام ـ تخصص صحافة بتقدير عام جيد ـ أصدر الأستاذ عمر قراراً بتعييني محرراً صحفياً في مجلة الدعوة, براتب شهري ثابت مثل راتب الجامعي وقتها (35 جنيها و25% بدل طبيعة عمل), بناء على اقتراح من الأستاذ جابر رزق مدير التحرير, وقبلتني نقابة الصحفيين عضواً بها تحت التمرين في (28 / 9 / 1980), وكنت الوحيد من دفعتي الذي عُين في المجلة, والأول انضماماً لنقابة الصحفيين, ثم عين الأستاذ عمر بعد ذلك الزميلين: محسن راضي وصلاح عبد المقصود (وكيل نقابة الصحفيين حالياً).