سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا" (17)

سطور من حياة الإمام المجدد

"حسن البنا" (17)

بدر محمد بدر

[email protected]

المهم أن الشيخ علي الجداوي قبل المهمة, بمكافأة ضئيلة, على رضى منه وطيب نفس, لكن التطلع إلى المنصب, والتوق إلى الرئاسة, غلب على سلوك أحد مدرسي "معهد حراء الإسلامي", الذي كان يرى نفسه أحق بهذا المنصب, وأن فيه من "المؤهلات" التي ترشحه لهذا الموقع.. يقول عنه الأستاذ البنا في مذكراته إنه "شيخ أريب, أديب, عالم, فقيه, لبق, ذلق اللسان, واضح البيان" وباقي القصة أدعو القراء الكرام إلى متابعتها في "مذكرات الدعوة والداعية" للاستفادة من دروسها, وكيف عالجها الأستاذ المرشد بحصافته وحكمته وسعة أفقه, وكيف يمكن تجنب مثيلاتها بعد ذلك.

حسن البنا والقاهرة

لم تنقطع صلة "حسن البنا" بالقاهرة, طوال فترة إقامته بالإسماعيلية, فهو كثير الزيارة لها, وفيها يقضي إجازته الصيفية السنوية, ولا عجب.. ففيها أسرته, وزملاء الدراسة في دار العلوم, وفيها العلم والعلماء والدعاة وفيها الأزهر الشريف و"جمعية الشبان المسلمين" وفيها مجلة "الفتح" ومجلة "المنار", وفيها رجال الصحافة والسياسة والفكر والحركة الوطنية بشكل عام.. وكان يشارك في ندواتها وأنشطتها كلما سافر إليها, ومنها احتفال "جمعية الشبان المسلمين" بالهجرة النبوية الشريفة في غرة المحرم 1348هـ ـ يونيو 1929م, وألقى كلمة في الاحتفال تحت عنوان "ذكرى يوم الهجرة, والدعوة الإسلامية وأثرها" ونشرتها رسالة "المنتقى من محاضرات جمعية الشبان المسلمين", كما كتب في تلك الفترة العديد من المقالات, منها مقال تحت عنوان "حياتنا التهذيبية" نشر في العدد من مجلة "الشبان المسلمين" الصادر في (جمادي الآخرة 1348 هـ ـ نوفمبر 1929م), وكتب مقالاً في العدد الثالث (رجب 1348هـ ـ ديسمبر 1929م) بعنوان "ملاحظات حول منهج التعليم", ومن عناوين مقالاته الأخرى في مجلة الشبان المسلمين: "أنجع الوسائل في تربية النشء, تربية إسلامية خالصة" (جمادي الآخرة 1349هـ ـ نوفمبر 1930م) و "أثر التربية في حياة الأفراد والأمم" (رجب 1349 هـ ـ ديسمبر 1930م).

وفي مرحلة الإسماعيلية أيضاً كتب الأستاذ البنا العديد من المقالات في مجلة "الفتح" منها: السبيل إلى الإصلاح في الشرق" العدد 145 (15 من ذي القعدة 1347هـ ـ 25 من أبريل 1929م), ومنها: "هل نسير في مدارسنا وراء الغرب؟!" العدد 165, ومنها: "واجب العالم الإسلامي أمام ما نزل به: ما هي الوسائل العملية الممكنة؟" العدد 255 (2 من صفر 1350هـ ـ 18 من يونيو 1931م) ونلاحظ من مجمل هذه المقالات والمحاضرات أن اهتمامات الأستاذ "حسن البنا" قد تركزت على أسس الإصلاح وتربية المجتمع من خلال المنظور الإسلامي, وأن نظرته كانت تمتد لتشمل هموم الأمة الإسلامية بأسرها لتشخيص الداء ووصف الدواء..

وفي القاهرة أسس الأستاذ عبد الرحمن الساعاتي ـ شقيق حسن البنا ـ هو وزميله الأستاذ محمد أسعد الحكيم, جمعية دينية تحت اسم "جمعية الحضارة الإسلامية" وقد باشرت نشاطها العام بإلقاء الدروس الدينية والدعوة إلى الله, وانضم إليها عدد من الشيوخ الأجلاء, والشباب الغيور على دينه, منهم الشيخ محمد أحمد شريت والأستاذ حامد شريت والأستاذ محمود البراوي والشيخ محمد فرغلي, والشيخ جميل العقاد السوري الحلبي وغيرهم, ورأت "جمعية الحضارة" نشاط "جمعية الإخوان" بالإسماعيلية, فتدارس أصحابها الأمر, وبعد مناقشات واتصالات ومداولات اقتنع القائمون عليها بأن "التوحد خير من الفرقة, وبأن انضمام الجهود أولى وأفضل" فاتصلوا بالإسماعيلية, وتم ضم "جمعية الحضارة الإسلامية" إلى "جمعية الإخوان المسلمين" وأصبحت شعبة من شعبها, واستأجرت مقراً أوسع, بشارع سوق السلاح, وتكفل إخوان الإسماعيلية, بالمساعدة المالية ـ إلى حين ـ وعندما انتقل الأستاذ المرشد إلى القاهرة, كانت هذه الشعبة هي أول مقر للمركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة، ابتداءً من شهر جمادي الآخرة 1351هـ ـ أكتوبر 1932م.

عاش "حسن البنا" في مدينة الإسماعيلية ظروفاً صعبة, ليس فقط باعتباره راعياً لهذه الدعوة الوليدة, متحملاً مسئوليتها, أو بسبب رعونة بعض الخصوم, الذين ناصبوها العداء, وشوهوا صورتها, وأثاروا الغبار حول أهدافها وغايتها, ولكن أيضاً بسبب بعض الذين انخرطوا في صفوفها, وحملوا رايتها, ويتحدثون باسمها, لكنها لم تصل إلى قلوبهم بعد, ولم ينصهروا في بوتقتها, أو تصبغهم مفاهيمها العظيمة, وكان هذا الأمر الأخير يشق على الأستاذ المرشد كثيراً, فإذا كان قدره أن ينافح عن هذه الدعوة, مجلياً مفاهيمها, موضحاً أهدافها, مبينا وسائلها أمام الناس, وفي مواجهة الخصوم والأعداء, فكيف به يواجه بعض الذين يحملون الراية, لكنهم يضعفون الجسد, وينخرون في البناء من الداخل؟!.. أضف إلى ذلك أنه يعيش في هذه المدينة وحيداً, بعيداً عن أسرته, التي تقويه نفسياً ومعنوياً وترعاه مادياً, وهو لا يزال في سن الشباب الذي يحتاج إلى المساندة.

زواج المرشد العام:

وشاءت إرادة الله, أن يخفف عنه ما هو فيه, فأتاح له فرصة الزواج من أسرة من كرام الأسر في الإسماعيلية, حيث خطب ابنة الحاج حسين الصولي, وهو أحد أعيان البلدة, وكانت هذه الأسرة متدينة بطبيعتها, زارتها والدة "حسن البنا" ذات مرة, فسمعت في إحدى الليالي, صوتاً جميلاً يتلو القرآن, فسألت عن مصدر هذا الصوت, فقيل لها إنها ابنتنا "فلانة" تصلى العشاء, فلما عادت الأم إلى منزلها, أخبرت نجلها بما كان في زيارتها, وألمحت إلى أن مثل هذه الفتاة الصالحة جديرة بأن تكون زوجة له, وكان ما أشارت به, فذهب "حسن البنا" إلى والدها, وكان من المناصرين له ولدعوته, فخطب ابنته, وتم الأمر ـ كما يقول ـ "في سهولة ويسر وبساطة غريبة : خطوبة في غرة رمضان تقريباً (1350هـ ـ يناير 1932م), فعقد في المسجد في ليلة السابع والعشرين منه، فزفاف في العاشر من ذي القعدة (1350 هـ ـ 17 من مارس 1932م) وهو في عامه السادس والعشرين.

وعقب زواجه شعر بأن رسالته في الإسماعيلية قد انتهت, فالدعوة قد تأسست ولها منشآتها, وأبناء المدينة يحتضنونها ويلتفون حولها, وقد اختار من يخلفه فيها, أما هو فقد تزوج وأكمل نصف دينه, وخامره شعور عجيب, بأنه سينقل إلى مكان آخر, خارج الإسماعيلية, وشاء الله له ذلك, عندما حدث الشيخ عبد الوهاب النجار,عن رغبته في الانتقال إلى القاهرة, وتحققت رغبته بالفعل في أكتوبر 1932 ـ جمادي الآخرة 1351هـ, وانتهت بذلك "مرحلة الإسماعيلية" لتبدأ مرحلة أخرى في القاهرة, بكل حيويتها وصخبها وتفاعلاتها وقضاياها ورموزها ومشكلاتها.. ولهذا حديث آخر, أسال الله عز وجل أن يعنني على الوفاء به, إنه صاحب الفضل والمنة.