مهاجر من اليمن

قصة مهاجر (3)

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

أخرج الإمام البيهقي في سننه عن أبي سعيد أن رجلا هاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من اليمن فقال يا رسول الله: إني هاجرت فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد هجرت الشرك، ولكنه الجهاد، هل لك باليمن أحد؟ قال: نعم أبواي. قال أذنا لك؟ قال: لا، قال: فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما.

هذا الأثر يبين قصة صحابي مهاجر من اليمن، أراد أن يأخذ ثواب المهاجرين الأولين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.

فبين النبي –صلى الله عليه وسلم- أن الهجرة الأولى كانت للشرك، فقد خرج في مأمن من نفسه وأهله، لا يتعقبه أحد ولا يؤذيه بسبب إسلامه، فقد خرج وهاجر في ظروف طبيعية ليست كظروف مهاجري مكة، ومن ثم فإنه لا يدخل في زمرتهم من حيث الفضل والذِّكر.

ولكن الرجل أسلم جديدا ولا تقال له هذه المعاني فتكسر عزيمته، وتُفتِّر همته، وتصده من الوهلة الأولى، بل قال له النبي –صلى الله عليه وسلم- بأسلوب حكيم، هجرت الشرك، ذاكرا معنى من معاني الهجرة؛ إذ المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، وأولى المنهيات الشرك بالله، فمن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما، وضل ضلالا مبينا.

وإذا كان ثواب المهاجرين الأول عظيما؛ إذ خرجوا من ديارهم وأموالهم وأبنائهم، تاركين ذلك كله ابتغاء رضوان الله، فإن هذا الثواب موصول لمن يسعى على نفسه وأهله ليعيش عيشا كريما، يظل به مرفوع الهامة، منتصب القامة.

لقد رأى الصحابة رجلا جلدا، فتمنوا أن تكون قوته في الحرب، وقالوا: لو كان هذا في سبيل الله، فبين لهم النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه إن كان يسعى على أبوين فقيرين فهو في سبيل الله.

إن الهجرة مصطلح تطور معناه، فكان في البداية الخروج من بلاد لا يأمن الإنسان فيها على نفسه؛ بسبب إسلامه إلى بلاد يكون فيها في مأمن؛ ليبلغ دين الإسلام.

وما زال هذا المفهوم قائما، ما دام هناك صراع بين الحق والباطل، وبين الإسلام وخصومه، إلا أن هذا الصراع عندما تخف حدته، وترتخي شدته، فإن الهجرة تكون جهادا ونية، جهادا للنفس ولأعداء المسلمين، بنية صادقة، وعزيمة لا تلين.

ويقدر الإسلام من يترك أبناءه وزوجه، ويهاجر في سبيل الله، إلا أن بر الوالدين له منزلة كبرى في الإسلام، فبعد توحيد الله يأتي البر بالوالدين، خاصة إذا بلغ الكبر أحدهما أو كلاهما، فمن تكريم الله لمن تعب وسهر على راحة ابنه أن يكافئه بأن يحث ولده على بره دوما وخاصة عند الكبر، فذلك يعطي أمانا اجتماعيا في الدولة، وهذا الأمان الاجتماعي هو لبنة الاستقرار الأولى التي تجعل من يخرج للجهاد في سبيل الله غير مشغول بشيء إلا الجهاد.

إن الذين يخرجون للقتال في سبيل الله دون إذن من آبائهم ثم يقتلون هم أصحاب الأعراف، وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- سئل عن أصحاب الأعراف، فقال: "إنهم قوم خرجوا عصاة بغير إذن آبائهم، فقتلوا في سبيل الله".

إن هذا الصحابي الجليل له أمثاله الكثيرون من الذين يقرؤون عن بطولات الصحابة وفضلهم وما أعده الله لهم من ثواب عظيم، فيودون لو كانوا في ظروفهم؛ حتى يكونوا مثلهم في الفضل، ولكن قد تصبح هذه أمنية لا أكثر؛ إذ لم يختر الصحابة البلاء، بل فرض عليهم فرضا، وكانوا في خوف على حياتهم وأموالهم، خوف دفعهم لأن يكونوا في حذر دائم رافعين سلاحهم؛ خشية هجوم عليهم، وقد ملوا من هذا الحال، ففي البخاري بسنده عن خباب بن الأرت أنه قال شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسدٌ بردة ً له في ظل الكعبة، فقلنا ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا، فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، لكنكم تستعجلون".

إن هذه الحماس الذي نجده من الشباب عند قراءة هذه السير وتمني لقاء العدو والبلاء جاء بسبب ما سمعوه من تمكين الله لهذه الصفوة في الأرض بعد فترة وجيزة ليقيموا حضارة إسلامية كبرى، ويؤسسوا لدولة إسلامية عظيمة، ولكن قرار الهجرة وترك الأهل والأبناء قرار صعب في السلم فما بالك في ساعة الخوف؟ ولذا فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف).

إن كثيرا من فكر الحركة الإسلامية المعاصرة فهمت هذه الآثار فهما خاطئا فأعلنت الجهاد في غير ساحته، فتركت ذريعة لأعداء الإسلام ليصمونا بالتطرف والإرهاب، فماذا لو كانت الحركة الإسلامية المعاصرة معتدلة الفكر في جملتها، لا تثير القلاقل في الدول العربية والإسلامية، ووجهت جهودها للتربية ثم جهاد إسرائيل في عقر دارها؟ هل كان ذلك أولى أم أن يقول صاحب تنظيم جهادي سابق نريد أن نفتح القاهرة قبل فتح القدس؟ وهذا قيل في بلد الألف مئذنة! بل في بلاد الحرمين قام بعضهم زاعما الجهاد بتفجير نفسه وسط الأبرياء، فكان الحصاد المر لفكر لم ينضج ويقدر الأمور حق قدرها.

ولست بهذا الكلام مع الذين يسرفون في إبعاد الجهاد عن معناه الأصلي في جهاد الكفار بالسلاح، ولكن من الذين يفهمون الجهاد مفهوما عاما شاملا بحيث يستخدم كل مفهوم مع المكان الذي يناسبه، والوقت الذي يقتضيه، والحاجة التي يدعو إليها ولي الأمر. وإلى لقاء مع قصة مهاجر جديد.