مع الدكتور محمد حميد الله

د. مولود عويمر

أستاذ بجامعة الجزائر

[email protected]

غادر الدكتور محمد حميد الله حياة الدنيا في 17 ديسمبر 2002 بفلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية لكنه بقي حيا في عالم الفكر والعلم بفضل أعماله المتعددة وجهود تلاميذه ومحبيه (من جمعية الطلبة المسلمين بفرنسا و مؤسسة البروفسور حميد الله) العاملين على جمع تراثه ودراسته، وإعادة نشر أعماله المطبوعة، وإحياء ذكراه كل عام في شهر ديسمبر.

لقد ساهم الدكتور حميد الله في تأسيس هذه الجمعية الطلابية في سنة 1965، واشترى بأمواله الخاصة مقراً لها في باريس (23 rue Boyer-Barret Paris 14e). وقد قامت هذه الجمعية بنشاط كبير في الوسط الجامعي منذ تأسيسها، وكان من أهم أعضائها: مروان قنواتي من سوريا وحسن الترابي من السودان، ومن أشهر  المثقفين المتعاونين معها: حسن بني صدر من إيران، راشد الغنوشي من تونس، ومالك بن نبي رحمه الله.

تعرفت على بعض أعضائها الطلبة بعد المحاضرة التي ألقيتها بجامع باريس الكبير يوم 30 مارس 2001 عن «المفكرون والعلماء المسلمون في فرنسا خلال القرن العشرين»[1]. تحدثت في مداخلتي عن مجموعة من المفكرين المسلمين المعاصرين الذين درسوا أو عاشوا في فرنسا (رفاعة الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، طه حسين، مالك بن نبي، محمد عبد الله دراز، محمد المبارك، علي شريعتي، محمد أركون...). وبالطبع تكلمت خلالها عن دور الدكتور محمد حميد الله في نشر الثقافة الإسلامية والتعريف بقيم الإسلام السمحاء في أوروبا لمدة نصف قرن.

ولما نظم تلاميذه ومحبوه الندوة الدولية الأولى عن حياته وعطائه الفكري في أبريل 2003 قدموا لي دعوة للمشاركة في فعالياتها إلى جانب مجموعة من الأساتذة من فرنسا وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا وايرلندا والمغرب.[2]

وجرت أشغالها يوم 26 أبريل 2003 بدار الشباب بسان دوني بضاحية باريس. كانت قاعة المحاضرات الكبرى مكتظة بالطلبة القادمين من عدة مدن فرنسية وأوروبية. وكان أبرز المحاضرين بلا منازع هو الأستاذ عصام العطار المفكر السوري المعروف والمقيم منذ سنوات في مدينة آشان بألمانيا، فقد تحدث بأسلوب جذاب وبصوت جهوري عن علاقاته القديمة بالمحتفى به.

وقدم كاتب هذه السطور محاضرة في هذه الندوة عن إسهام الدكتور حميد الله في مجال كتابة السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي من خلال مقاربة تحليلية لكتاباته التاريخية من مؤلفات وبحوث منشورة في مجلات عربية وغربية.

ويكفي أن أشير هنا بسرعة إلى كتابه الضخم عن السيرة النبوية: « رسول الإسلام: سيرته وأعماله» الذي أصدره بباريس عام 1958 في جزأين يحتويان في المجموع على 1067 صفحة. وقد طبع الكتاب عدة مرات. واعتمد هذا البحاثة في تأليفه على مصادر ومراجع عربية وأخرى مكتوبة باللغات التي يعرفها: التركية واللاتينية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية والروسية والبولونية والدانمركية والسويدية والفنلندية.[3]

وقام ببحوث ميدانية بالتنقيب الأثري وتصوير أهم الأمكنة الإسلامية الثقيلة بالذاكرة كمواقع الغزوات والمعارك التي صوّرها وضمّها في بحث نشره في المجلة الإستشراقية الفرنسية: " revue des études islamiques " في عام 1939.[4]

ومباشرة بعد هذه الندوة نشرت تقريرا عن أشغالها في مجلة "المجتمع" الكويتية التي كنت أراسلها من باريس، فجاءتني رسائل إلكترونية من القراء من أستراليا والهند والسعودية ... يطلبون مني المزيد عن حياة هذا المفكر العملاق المغمور وتراثه العلمي. ومن بين هؤلاء القراء: باحث سعودي اسمه أنور مباركي قال أنه سيجمع أثاره وسينشرها، وراسلني من أجل ذلك عدة مرات لأقدم له قائمة كتبه ومقالاته (بيبليوغرافية). كما اتصل بي الإعلامي المعد لبرنامج "الأعلام" على قناة المجد الفضائية لأساعده على إعداد حصة في برنامجه المعروف فطلب مني المعلومات والصور.

وفي عام 2008 قدمت لي جمعية الباحثين في الفكر الإسلامي ومؤسسة محمد حميد الله دعوة للمشاركة في مؤتمر دولي عن موضوع: «المثقف الملتزم في التراث الإسلامي في أوروبا». وطلب مني الحديث عن تجربة الدكتور حميد الله.

وشاركت فعلا في هذا المؤتمر، وألقيت محاضرة يوم 14 جوان 2008 بعنوان: « من أجل كتابة تاريخ الإسلام في فرنسا: مسار وفكر الأستاذ محمد حميد الله »[5]. وأجبت عن أربع إشكاليات أساسية: ما هي أبرز معالم حياته؟ ما هي القضايا الكبرى التي شغلت اهتماماته؟ ماذا قدم للجالية الإسلامية في الجانبين الثقافي والاجتماعي؟ ما هو واجب المسلمين الأوروبيين تجاهه؟

وأقدم في السطور الآتية إجابة ملخصة عن هذه التساؤلات. فالأستاذ محمد حميد الله ولد في سلطنة حيدر آباد بالهند في 19 فبراير 1908. تعلم في عدة مدارس محلية ثم واصل دراسته في أوروبا. فحصل على الدكتوراه في القانون من جامعة بون الألمانية في عام 1932 حول مبدأ الحياد في الفقه الإسلامي؛ ثم نال شهادة دكتوراه أخرى في التاريخ من جامعة باريس في سنة 1935 حول الدبلوماسية في عهد الرسول (ص) والخلفاء الراشدين. وعاد بعد ذلك إلى بلده ليدرّس في جامعة العثمانية بحيدر آباد لعدة سنوات. ومنها كان يراسل المجلة الإستشراقية الفرنسية : " revue des études islamiques " -لصاحبها المستشرق المعروف لويس ماسينيون – بمقالات عن النشاط العلمي والفكري في شبه القارة الهندية تنشرها له هذه المجلة في ركنه الخاص : "رسالة الهند". وفي عام 1947 لجأ إلى فرنسا بسبب إنهاء النظام الإسلامي في هذه السلطنة التي ضمتها إليها الهند عنوة ومات خلال المعارك معظم أفراد عائلته.

واشتغل الدكتور حميد الله منذ 1950 باحثا بالمركز الوطني للبحث العلمي بباريس فقام بفهرسة المخطوطات العربية المحفوظة في أكبر المكتبات العالمية. وحقق بعضا منها. ودرّس أيضا في بعض الجامعات العربية والإسلامية.

وألَّف 165 كتابا (بين التأليف والتحقيق والترجمة) أذكر منها: المدخل إلى الإسلام، السيرة النبوية في مجلدين، الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدةـ، ... كما قام بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية وطبع هذا الكتاب لأول مرة في باريس في عام 1959.

وقد اعتمدت إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالسعودية هذه الترجمة وطبعها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة. وقد عرف هذا الكتاب رواجا كبيرا كما بدا لي ذلك خلال زياراتي للعديد من المساجد الفرنسية والسويسرية. وقد طبعت منه لحد الآن أكثر من عشرين طبعة.

كما تشير أوراقه إلى أنه نشر 977 مقالا وبحثا في المجلات الاستشراقية المختصة والمجلات العربية منها: المجلة العربية (الرياض) والمنهل (جدة) والحج (مكة) مجلة المخطوطات العربية (القاهرة)، والمسلمون ومجلة مجمع اللغة العربية (دمشق)، والوعي الإسلامي (الكويت)، والعرفان والشهاب والفكر الإسلامي (بيروت)، جوهر الإسلام والهداية الإسلامية والعلم والإيمان (تونس)، واليقظة (بغداد)، والإيمان (المغرب).

وشارك الأستاذ محمد حميد الله في عدد من المؤتمرات الدولية حول الإسلام وحوار الأديان. وفي هذا السياق زار الجزائر عدة مرات للمشاركة في أشغال ملتقى الفكر الإسلامي.

وفي المجال الدعوي ساهم الدكتور حميد الله في تأسيس العديد من الجمعيات، أشهرها "المركز الثقافي الإسلامي" بالحي اللاتيني عام 1952 والذي استقطب العديد من الطلبة والمثقفين العرب والمسلمين الذين سيكون لهم شأن عظيم فيما بعد، منهم: مالك بن نبي محمود بوزوزو وأحمد طالب الإبراهيمي من الجزائر، محمد عزيز الحبابي من المغرب، حيدر ونجم الدين بامات من القوقاز، عبد الغفور فرهادي من أفغانستان.

كما ساهم في تأسيس "المركز الإسلامي" بجنيف سنة 1964 مع الدكتور سعيد رمضان و أبي الحسن الندوي ومحمود بوزوزو... الخ. وتعتبر هذه المؤسسة من أنشط المراكز الإسلامية الرائدة في نشر الثقافة الإسلامية في أوروبا والدفاع عن قضايا المسلمين.

ويشرف عليه اليوم الأخوان الأستاذ هاني رمضان والدكتور طارق رمضان. وقد زرت هذا المركز في ربيع عام 2000 وعثرت في مخزنها على بعض الأعداد من مجلة "الأصالة" الجزائرية مع كلمة الإهداء وقعها مديرها المسؤول وزير الشؤون الدينية آنذاك الأستاذ مولود قاسم رحمه الله. وهي دلالة على التواصل الثقافي بين هذا المثقف الجزائري الكبير وصديقه القديم الدكتور سعيد رمضان مدير المركز وصاحب المجلة الإسلامية الشهيرة: "المسلمون" المدافعة عن القضية الجزائرية والمساندة للثورة التحريرية المباركة.

ودأبت مؤسسة البروفسور حميد الله على تنظيم الندوات والملتقيات لدراسة أعمال هذا العالم المتميّز ونشرها على موقعها الالكتروني تنفيذا لتوصيات الندوة الدولية الأولى التي ذكرناها في بداية هذا المقال. واتجهت كذلك نحو إحياء التراث الإسلامي الأوروبي بالتعريف بأكبر المفكرين والعلماء الأوروبيين المسلمين أمثال: رنيه قينون، فانسون مونتاي، رجاء غارودي، محمد أسد... وفي هذا السياق خصصت مؤتمرها الأخير منذ أيام قليلة لدراسة حياة وتراث الباحثة المختصة في الدراسات الصوفية الدكتورة إيفا دو فتري مييروروفتش رحمها الله.

في الأخير، ندعو المؤسسات الثقافية والعلمية إلى إصدار الأعمال الكاملة للدكتور حميد الله وتوزيعها من أجل التعريف بأعماله العلمية الرصينة، وإبراز جهوده في الدعوة وتقديم الثقافة الإسلامية إلى العالم الغربي. في صور بديعة.

                

[1]نشرت نص محاضرتي المقدمة والمكتوبة باللغة الفرنسية في مجلة:  Islam, n°4, Paris, 2002.           

[2]شارك في أعمال هذا الملتقى مجموعة من الباحثين والمفكرين من ألمانيا وايرلندا وبريطانيا وبلجيكا وفرنسا والمغرب. أذكرهم على بالتوالي حسب تدخلهم. الدكتور محمد جاموشي أستاذ فلسفة العلوم بجامعة جن البلجيكية، الدكتور محمد الرفقي أستاذ بجامعة أغادير، والدكتور يحي ميشو، أستاذ بجامعة أكسفورد، والدكتور محمد المستيري، مدير مكتب المعهد العالمي للفكر الإسلامي بفرنسا والدكتور مولود عويمر الباحث بمركز الدراسات الحضارية بباريس، الدكتور عبد الحليم هربير أستاذ علم الأنتروبولوجية بجامعة سانت إيتيان الفرنسية والأستاذ عصام العطار عميد مسجد بلال بآشان بألمانيا حاليا والدكتور العربي كشاط عميد مسجد الدعوة بباريس، القس ميشال لولونغ، وهو من أبرز رجال الكنيسة الفرنسية المتعاطفين مع المسلمين، والدكتورة ماري حسين، أستاذة بجامعة بلفاست بإيرلندا، وطارق أوبرو عميد مسجد بوردو، عمارة بومبا وليلى وسلاتي مسؤولين سابقين في جمعية الطلبة المسلمين بفرنسا. واعتذر عن الحضور كل من الدكتور طارق رمضان من جامعة فريبورغ بسويسرا والدكتور مصطفى المرابط من جامعة وجدة بالمغرب الأقصى والدكتور محمد الهواري رئيس اللجنة الدينية للمجلس الأعلى لمسلمي ألمانيا.

[3] Mohamed Hamidullah. Le prophete de l’islam. Sa vie, son œuvre. Ed el nadjah, Paris, 1958, t2.

[4] "Les champs de bataille au temps du prophète". Revue des études islamiques, Tome XIII, 1939, cahier 1, p.1-13.

[5] Mouloud Aouimeur. Vers une histoire pour l’islam de France: Le cas du Professeur Mohammad Hamidullah. In. Mesteri (M). Intellectuel engagé. Patrimoine islamique d’Europe. Paris, ed IIT, 2009, p.69-76.