العلامة الشيخ نوح سلمان القضاة

في ذمة الله تعالى

العلامة الشيخ نوح سلمان القضاة

رحمه الله

د. ماجد الدرويش

الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. والصلاة والسلام على من حذر من فقد العلم بفقد العلماء، وبعد:

 ففي كل يوم نودع علما من أعلام الإسلام وعلمائه، ونتحسر على علماء أفذاذ يمضون إلى خالقهم وقد أدوا واجبهم، إلا أننا لا نجد من يسد مسدهم. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: ( إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، وإنما بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ). لذلك حق علينا أن نزداد خوفا كلما غيب الموت عالما من علمائنا الكبار الذين كنا نستظل بعقلهم، وعلمهم، ودينهم.

 وفجر يوم الأحد 13 محرم 1432 الموافق 19 كانون الأول 2010م، غيب الموت شيخنا العلامة الكبير مفتي عام المملكة الأردنية، وقاضي القضاة، ومفتي القوات المسلحة الأسبق سماحة الشيخ الدكتور نوح سلمان القضاة عن عمر يناهز الحادية والسبعين عاما قضاها في خدمة الإسلام والمسلمين في كل مكان حلَّ به، وفي كل عمل وُسِّد له، متمثلا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ).

سيرة موجزة للشيخ رحمه الله تعالى

ولد شيخنا رحمه الله في الأردن عام 1358هـ 1939م، ونشأ في أسرة علمية معروفة بالعلم والفضل .كان والده الشيخ علي سلمان رحمه الله تعالى، فقيهاً شافعياً، مجازا من كبار علماء الشام؛ وفي طليعتهم الشيخ علي الدقر رحمه الله تعالى. لذلك عندما أنهى فقيدنا رحمه الله تعالى ، المرحلة الابتدائية، في الأردن، انتقل إلى دمشق في عام 1373هـ 1954م، حيث قضى هناك سبع سنوات في معهد العلوم الشرعية، التابع للجمعية الغراء التي أسسها شيخ والده، الشيخ علي الدقر رحمه الله، حيث أكمل فيها الدراسة الإسلامية: من المرحلة الإعدادية حتى نهاية المرحلة الثانوية، وتخرج فيها عام 1961م. ثم التحق بكلية الشريعة في جامعة دمشق، حيث حاز على الشهادة الجامعية في الشريعة عام 1965م. وكان من أقرانه في الدراسة شيخنا العلامة المحدِّث محمد عوامة الحلبي، حفظه الله تعالى، وكانا المعتمَين الوحيدين بين الطلبة.

ثم وفي عام 1397هـ 1977، سافر إلى القاهرة حيث التحق بالأزهر الشريف، وحاز على الماجستير في الفقه المقارن عام 1400هـ 1980م. وأثناء الدراسة في الأزهر لازم العلامة الأصولي الكبير، الشيخ، الدكتور، عبد الغني عبد الخالق، رحمه الله تعالى، فقرأ عليه أصول الفقه، كما قرأ الفقه المقارن على الشيخ حسن الشاذلي، واستمع إلى محاضرات في التصوف لشيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود رحمه الله.

ثم انتقل إلى الرياض حيث حصل على درجة الدكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وذلك في عام 1406هـ /1986م.

 ثم عاد إلى الأردن، وعمل في سلك القوات المسلحة برتبة ملازم أول، (مرشد ديني) إلى جانب الشيخ عبد الله العزب الذي كان يشغل منصب مفتي القوات المسلحة، إلى أن خلفه في المنصب عام 1392هـ 1972م. وبقي في منصبه متدرجاً في الرتب العسكرية حتى عام 1992م، حيث أنهى خدماته برتبة لواء.

 وفي عام1992م، عيّن قاضياً للقضاة في الأردن، ولكنه ما لبث أن استقال من القضاء بعد عام واحد، مؤثرا التدريس في مسجده، وفي جامعتي: اليرموك وجرش، محاضرا في الشريعة الإسلامية والفقه المقارن.

ثم وفي عام 1416هـ 1996م عيِّن سفيراً للمملكة الأردنية الهاشمية لدى إيران، فبقي في المنصب حتى عام 1421هـ/ 2001م، ثم أعيد تكليفه بالمنصب سنة 1424هـ/2004م، فكان السفير الوحيد في العالم الذي يتزيا بزي العلماء، فهو منذ أن لبس العِمَّة على في المرحلة الثانوية، لم ينزعها أبدا.

وبعد تركه للسلك الدبلوماسي عمل مديراً لإدارة الفتوى في دولة الإمارات العربية المتحدة، ومستشاراً لوزير العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية، ومستشاراً لوزير التعليم العالي حتى عام 1428هـ/2007م، وفي عام 1428هـ/ 2007م عيِن مفتياً عاماً للملكة الأردنية الهاشمية.

أخلاقه

وفي كل المناصب التي تقلَّدها لم يُعرَف عنه يوما أنه حابى حاكما مهما كان على حساب الدين، فقد كان صلبا في الحق، رحيما بالمسلمين، حريصا على وحدة الكلمة، ضنينا في أن يحدث فراق بين المؤسسة العسكرية وأبناء المجتمع، يعرف هذا عنه الجميع، لذلك كان كلمة إجماع، لا يخالف في فضله أحد، ويحترمه كل أحد، ويشهدون أنه ما كان يتسامح فيما يعود إلى أمور الشريعة.

وقد أكرمني الله تعالى بحضور عدة مؤتمرات؛ كان رحمه الله تعالى نجمها، ومنها مؤتمرات عقدت في الأردن حول وسطية الإسلام، فكانت له مواقف واضحة في التحذير من تمييع مسائل الدين بحجة هذا العنوان، فوسطية الإسلام حق، ولكن حذار أن يقصد بها باطل. فكان موقفه الأقوى صدىً لما كان يمثله يومها، إذ كان قاضي القضاة في الأردن.

حِلْيَتُه

وشيخنا رحمه الله أضفت عليه الشريعة هيبتها، لذلك فإن الناظر إليه يرى ذلك في وجهه المشرق بنور الإيمان، يرى في قسماته عزة العقيدة، ورحمة الشريعة، يألفه كل من يلقاه، ويعشق كلامه كل من يسمعه، وكلامه يذكر بكلام الكبار من العلماء السابقين الذين قلَّ نظيره في المتأخرين. وصوته الناعم العذب ينساب إلى القلب انسيابا فيُشْعِرُ السامعَ بالأنس. وبالرغم من قسمات قوة الحق في وجهه، إلا أن ابتسامته اللطيفة تُدخِلُ الاطمئنان إلى النفس، فتختلط هيبة الشريعة مع رقة النصيحة والشفقة على المسلمين.

رحمك الله تعالى يا شيخنا رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، مع حبيبك وقدوتك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخلف على الأردن، وعلى الأمة الإسلامية، بمن يسد مسدَّك، ويَفري فَرْيَك. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

المفتقد لك ماجد الدرويش.