( فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون )

من المعلوم أن الرسالة  العالمية الخاتمة ،المنزلة على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، قد قصت علينا أخبار عن أحوال الخلق في الحياة الدنيا ما مضى منها، وما هو آت ، و عن أحوالهم مما هو آت في الآخرة.

وتلك الأحوال، تختلف باختلاف اعتقادهم ، وهو اعتقاد تحكمه ثنائية الإيمان والكفر ، إيمان بالله تعالى إلها واحدا لا شريك له ، ، أوكفر به يكون إما جحودا أو شركا . ويندرج تحت الكفروالشرك النفاق، الذي هو إضمارلهما ، وإظهار للإيمان .

ووفق الرسالة الخاتمة ، كانت العلاقة  دائما عبر التاريخ بين أهل الإيمان، وبين أهل الكفر: جاحدهم، ومشركهم ،ومنافقهم علاقة صراع  وصدام . ولقد قص علينا الله تعالى أخبارا عن اضطهاد الكفار للمؤمنين في  مختلف الفترات الالتاريخية متتالية ، وكانت سنة الله سبحانه وتعالى على الدوام ،هي  إنزال العقاب الشديد بالمعتدين من الكافرين، ليكونوا عبرة لمن يليهم إلا أن الكثير منهم لم يعتبروا  ، ولم يتعظوا ، ولهذا ظل الكافرون يضطهدون المؤمنين في كل عصر ومصر ، ولا زالوا كذلك حتى بعد نزول الرسالة الخاتمة ، وسيظل أمرهم كذلك إلى قيام الساعة ، لتبدأ أحوال الخلق في الآخرة التي هي دار جزاء على ما كانوا عليه من أحوال في حياتهم الدنيا بما في ذلك اضطهاد الكافرين للمؤمنين .

ولقد تعددت أشكال اضطهاد الكافرين للمؤمنين كما صورتها الرسالة الخاتمة ، ومن ضمنها الاستخفاف بهم، والسخرية منهم ،لأنهم اختاروا الإيمان على الكفر ، والاستقامة على الصراط المستقيم بدل تنكبه والانحراف عنه .

ولقد وصف الله تعالى سخرية الكافرين: جاحدهم ، ومشركهم ، ومنافقهم من المؤمنين في أكثر من موضع  في كتابه الكريم . ونذكر من ذلك قوله تعالى، وهو يصور لنا حال الكافرين في الآخرة ، وهم يعذبون ، وهو سبحانه وتعالى يبكّتهم : (( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذّبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالّين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلّمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون )) ، ففي هذه الآيات البيّنات ، وصف لأحوال الخلق ما بعد النفخ في الصور يوم البعث، حيث  توضع الموازين ، وهي يومئذ إما ثقيلة ، وإما خفيفة حسب تقييم الله تعالى لها ،وهو الذي لا يعزب عنه شيء مما كان من الخلق في الحياة الدنيا  من سعي ، وهم حينئذ فريقان:  مفلحون أصحاب نعيم ، وخاسرون أصحاب جحيم، نادمون على ما كان منهم من نكوب عن صراطه المستقيم ، وهم يحاولون استعطافه للخلاص من الجحيم ، مقرين بذنبهم ، فلا يستجاب لهم ، ويمنعون من الكلام وهم خاسئون . وهم في هذه الحال المزرية يُذكّرون  بسخريتهم، وضحكهم ممن  كانوا على  صراط  ربهم المستقيم ، والذين كانوا يستغفرونه ، ويرجون رحمته ، وهم صابرون على أذى الساخرين منهم ، وبذلك كان جزاؤهم على استقامتهم ، وعلى صبرهم الفوز بخلد في جنة النعيم .

وهذا الذي صورته هذه الآيات البيّنات ، هو مشهد من مشاهد الآخرة نقل لنا حال الساخرين من المؤمنين في كل الأزمنة التي مرت  وستمرفي الحياة الدنيا حيث يجمع كل أولئك الساخرين الذين تنقطع بينهم الأنساب التي كانت تجمعهم في دنياهم ، ويتنكر بعضهم لبعض ، ويبقى القاسم المشترك بينهم يومئذ هو الخسران المبين  ، والجزاء الأليم على سوء أعمالهم ، ومنها سخريتهم، وضحكهم من المؤمنين .

ومعلوم أن سخرية وضحك الكافرين ومن على شاكلتهم  من المؤمنين ، هو في حقيقة الأمر سخرية من الإيمان، لأنه  لا يوجد في المؤمنين ما يمكن أن يكون موضوع سخرية واستهزاء الساخرين، سوى إيمانهم بربهم ، ومن ثم استقامتهم له على ضوء ذلك الإيمان .

وسخرية وضحك أهل الكفر بأنواعهم: جاحدون ، ومشركون ، ومنافقون من المؤمنين دائم ومستمر إلى يوم القيامة ، ويخذ أشكالا ، وأساليب حسب العصور ، والبيئات ، والمجتمعات . ولا يخلو عصر أو مصر من أولئك الساخرين .

وليس عصرنا ببدع من العصور، حيث يتفنن في زماننا هذا الساخرون من أهل الإيمان في السخرية منهم ، وهم بأصنافهم ، وفئاتهم متفقون، ومجمعون على تلك السخرية . ويكفي أن نشير إلى بعض نماذجها من قبيل الرسوم المسيئة إلى رسول الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، والتي يراد بها أساسا  السخرية من أتباعه الذين يهتدون بهديه . ومن قبيل الاستنقاص من شأن مختلف عباداتهم  واعتبارها تخلفا ، وانحطاطا ، وغباء . ومن قبيل تصوير أحوالهم  الإيمانية التصوير الساخر في روايات ، وقصص ساخرة  تترجم إلى أفلام ، وتسوق على أوسع نطاق ... إلى غير ذلك من الكتابات ، والبرامج الإذاعية والتلفزية ، والفيديوهات ، والمحاضرات، والندوات ، والمؤتمرات ...  وكل ذلك من أساليب السخرية المختلفة .

مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تنبيه المؤمنين إلى ما ظهر في مجتمعنا من ساخرين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ممن يظهرون إسلامهم ، ويحسبون على الإسلام، إلا أن ما يقولونه في هذه السنة المشرفة، لا يختلف عما قاله ، ويقوله أصحاب الكفر، والشرك الصراح من مستشرقين وغيرهم . ولقد اتخذ الساخرون عندنا أسلوب اللف والدوران للتمويه على سخريتهم من سنة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، وذلك من خلال السخرية من الأئمة الذين جمعوها في مصنفاتهم من أمثال الإمام البخاري رحمه الله تعالى ، وغيره من أصحاب كتب الصحاح . ولقد اتخذوا وسيلتهم للنيل من هؤلاء الأئمة النيل ممن يشتغلون بمصنفاتهم من أهل العلم والاختصاص ، وهم يسفهون علم هؤلاء، واختصاصهم ، ويرمونهم بالجهل ، والدجل، والغباء  ... إلى غير ذلك من الزور، والبهتان ، وقصدهم النهائي هو تشكيك المؤمنين  في سنة سيد المرسلين ، خصوصا شريحة الأغرار من الشباب وقد  صارت شريحة مستهدفة عندهم بمشروع علماني ماكر وخبيث، يزيّن لهم الفواحش ، وهو يستغل طاقاتهم الجنسية المتفجرة، وحاجتهم إلى إشباعها ، ويستميلهم بذلك ، ليجعل منهم قاعدة عريضة ،تصير بحكم تكاثر أعدادها ضاغطة في مجتمعان من أجل تغيير شرع الله تعالى ، وإحلال التهتك العلماني محله، تحت شعارات مغرية من قبيل حرية  الاعتقاد ، وحرية الجسد ، وحرية الرأي ، وحرية التعبير... على غرار ما يوجد في المجتمعات العلمانية التي بلغت أقصى درجة الانحلال الخلقي حتى تفاقمت فيها أنواع الشذوذ الجنسي، وهي تصر على تصديره إلى المجتمعات المسلمة ، وتجرم كل من ينكرها، بل وتطالب بإدانته ومحاكمته ، وقد صار هذا الشذوذ الذي حورت أسماؤه لصرف الأنظار عن قذارته هو الآخر مما يمنع إنكاره أو انتقاده على غرار ممنوعات أخرى قد صارالناس لا يستطيعون اليوم انتقادها أوحتى مجرد التلميح إليها، وإلا عُدّوا معادين لها ، ويعتبرون بذلك مذنبين ، يستحقون المتابعة دوليا ، والمحاكمة ، والإدانة ، والعقوبة .

اللهم عليك بمن يستهدف دينك ، وكتابك ، وسنة نبيك عليه الصلاة والسلام ، اللهم إنهم لا يعجزونك ، اللهم خيّب كل سعي خبيث يسعونه ، واحفظ اللهم ناشئتنا من كيدهم الماكرالخبيث . اللهم ثبتها وثبتنا على صراطك المستقيم حتى نلقاك على ذلك يا رب العالمين . اللهم إنا نقول قول من أخبرتنا بهم من عبادك المؤمنين : (( ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين )) .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله ، وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 1040