( والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )

يكثر في كتاب الله عز وجل ذكر صفات عباده المؤمنين . وقد تأتي هذه الصفات منفردة أو مجموعة ، وتكون عبارة عن تنويه بهم ، كما تكون حثا لهم على الثبات والدوام عليها إلى أن يلقوا ربهم، وهم عليها لا مبدين ولا مغيّرين .

ومن تلك الصفات صفة الصبر ، وهو شعور قوامه حبس النفس عن الجزع  عند حلول المصاب الجلل أيا كان نوعه وشدته . ومعلوم أن الجزع طبيعة متأصلة في بني آدم لا يتغلبون عليه إلا بالصبر مع أنه يشق على النفس البشرية التي تعاني من وقع المصاب ، كما تعاني من حبسها عن الجزع .

ولقد جمع الله تعالى بين  أحوال تستدعي الصبر في قوله عز من قائل : (( والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )) ، ففي هذه الآية الكريمة ذكر للبأساء ،وهي مشتقة من البؤس ، وهو سوء الحال بسبب الفقر والفاقة أو غيرهما من المكاره ، وذكر للضراء ، وهي من الضر الذي يصيب الإنسان بسبب علة أو سوء حال ، وذكر للبأس الذي يعني الشدة في الحرب ، وهي شر . فهذه الأحوال قد تجتمع  على الإنسان ، وقد يصيبه بعضها دون البعض الآخر ، وكلها مما تجزع منه النفس ، وكلها مما أمر الله تعالى بحبس النفس عن الجزع منها . ولا شك أن قمة الصبر أن  تحبس النفس عنها إذا ما اجتمعت عليها ، ولهذا ساقها الله تعالى مجتمعة للدلالة على أعلى درجات الصبر.

ولقد جعل الله تعالى الصبر من جملة ما يبلغ به المؤمنون درجة الصدق والتقوى عنده جل شأنه . ولقد سبق قوله تعالى: ((  والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )) ، قوله : (( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيّين وآتى المال على حيه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا )) ففي هذه الآية الكريمة من قوله تعالى: (( ليس البر ... )) إلى قوله : أولئك هم المتقون ))، جمع فيها الله تعالى ما به يتحقق صدق  العبودية له سبحانه وتعالى ، وما به تتحقق تقواه .

وقبل الخوض فيما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة، نذكر بأن سبب نزولها هو ما عتب أهل الكتاب على  المؤمنين  تحويل قبلتهم من بيت المقدس إلى المسجد الحرام كما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم . ولقد نفى الله تعالى أن يكون البر، وهو الإحسان  في غير ما ظنه أهل الكتاب من ضرورة بقاء المؤمنين  على قبلتهم الأولى ، ذلك أن البر لا يرتبط بالأماكن شرقا أو غربا ، بل يرتبط بإيمان بالله عز وجل ، يكون عبارة عن إقرار له بالألوهية والربوبية اعتقادا، مع  الانصياع لأوامره ونواهيه ، لأن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل ، ومع إيمان باليوم الآخر ، وهو يوم الحساب والجزاء على الانصياع لأوامر الله تعالى ونواهيه ، ومع إيمان بالملائكة الكرام، وقد ذكر لله تعالى  في كتابه الكريم أحوالهم، منها ما له علاقة بالإنسان في حياته ،ومماته ، في سلمه ، وحربه ،ومراقبته ، ومنها ما له علاقة بغيره مما خلق الله تعالى في الدنيا أرضا وسماء وريحا ومطرا ...، ومع إيمان بما أنزل الله تعالى من كتب فيها أخبار وأوامر ونواه ، ومع إيمان بما بعث من نبيّين لتبليغ تلك الكتب المنزلة  للناس .

وبعد ذكر أركان الإيمان ، وهي أمور عقدية ، ذكر الله تعالى الأعمال وهي : إنفاق المال ، وذكر من يجب أن يعطى لهم من أقارب، ويتامى، ومساكين ، وأبناء سبيل ، ومستعبدين . ولا شك أن لترتيبهم دلالة تفيد الأولى بالعطاء ، وإن كانوا جميعا يستحقونه . وقد تختلف  إمكانات الناس في العطاء ، فيقتصر عند البعض على قرابتهم لضيق ذات اليد ، وقد يتخطى ذلك إلى اليتامى ، ويقف عند هذا الحد ، وقد يتعدى ذلك إلى من يليهم من مساكين ... وغيرهم إلى آخر من ذكرهم الله تعالى . وقد يتسنى للبعض أن يعطوا كل هؤلاء ، وهو تمام العطاء . وذكر  الله تعالى بعد عبادة  الإنفاق  عبادة إقامة الصلاة ، وهي صلة بالله تعالى بالكيفية التي أوحى بها إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبالحكمة التي أرادها من وراء أدائها . وبعد عبادة الصلاة ،أعاد مرة أخرى ذكر عبادة الإنفاق،  وهو الإنفاق المفروض والواجب، وكأن ذكر الإنفاق الأول قصد  به  مطلق الإنفاق بما فيه إتفاق التطوع ،الذي يكون فيه تربية للنفس المجبولة على حب المال والشح به . وذكر الله تعالى بعد ذلك الوفاء بالعهود على اختلاف أنواعها ، وعلى رأسها الوفاء بعهود الله عز وجل ، وإن كانت العهود مع خلقه من صميم عهوده .

وبعد هذا الذي ذكره سبحانه وتعالى من أمور العقيدة، والعبادة ،والمعاملات ، ذكر الصبر في أشد الأحوال التي تعتري الإنسان المؤمن وهي البأساء، والضراء ،والبأس . ويختم الله تعالى بالحكم على من استقامت أحوالهم اعتقادا ،وعبادة ومعاملة ، وسلوكا بأنهم هم الصادقون ، وهم المتقون حقا .

ومن أراد أن يقيس درجة صدقه مع الله عز وجل ، ودرجة تقواه ، فعليه أن يعرض نفسه على ما به يتحقق صدقه وتتحقق تقواه . ولا شك أن كل من التزم بما ذكره الله تعالى، يكون مصيبا لقدر من الصدق والتقوى ، فإن كان التزامه بجميع ما ذكر الله تعالى ، فإنه يستكمل أعلى درجات الصدق والتقوى .

وإذا عدنا إلى صفة الصبر في المؤمنين، وهي آخر ما ذكر الله تعالى بعد العقيدة والعبادة الجسدية والمالية ، وبعد أهم معاملة ، نجده متضمنا فيها كلها ، فالمؤمن بالله ،واليوم الآخر، والملائكة، والكتب، والنبيّين لا بد له من صبر على درء الشكوك عنه في الإيمان بهذه الأمور المغيبة عن عالم الشهادة . و المنفق أو المؤتي المال للفئات التي ذكرها الله تعالى، لا بد له من صبر على الإنفاق ،ونفسه مجبولة على حبه والتعلق به كأشد ما يكون التعلق . والمصلي لا بد له من صبر على الصلاة ، وعلى ما فيها من مشاق، ومكاره وضوءا ، وسعيا إليها ليل نهار في مختلف الأوقات ،وبما تكون عليه الظروف من قساوة الطبيعة صيفا وشتاء ، وسلما وحربا ... والمزكي لا بد له من صبر على أداء الزكاة ، وهو محب للمال ، وقد تحدثه نفسه بالتراخي في أدائها أو التسويف في ذلك ، ولهذا لا بد أن يحبس نفسه عن ذلك  حبسا. والوفاء بالعهود ،لا بد له من صبر عليه أيضا ، لأن الإنسان قد يمر بظروف يصعب معها الوفاء بها ، ولهذا وجب أن يحبس نفسه عن التلكؤ أو التراخي  في الوفاء بعهوده التي قطعها على نفسه  سواء ما كان منها مع الله عز وجل ، أو كان مع الخلق  .ولقد ختم الله تعالى بذكرالصبر على المشاق الثلاث بأساء ، وضراء ، وبأس ، ليكون الصبر الذي يحضر في كل ما وصف به الله تعالى عباده المؤمنين، هو عماد تحصيل درجة الصدق ، ودرجة التقوى .

مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تذكير المؤمنين بما يبلغهم درجة الصدق والتقوى عند الله عز وجل  من خلال الصبر على ما أمروا به  اعتقادا، وعبادة ،ومعاملة ، مع التركيز على صبر عند حلول البأساء والضراء والبأس ، خصوصا وأن إخوة لنا في أرض الإسراء والمعراج يواجهون هذه الثلاث مجتمعة، فهم في بؤس وشدة وحرمان محاصرون ، وهم في ضر يعانون الأمراض والجراح ، وهم في بأس يعانون من شدة  حرب لا هوادة فيها ، وهم صابرون ومحتسبون يرجون الله تعالى أن يقبل منهم شهداءهم من فلذات الأكباد  ، ومن الآباء والأمهات، ومن الإخوة والأخوات ، ومن الأقارب ، ومن الجيران ، ومن  الأصدقاء ، ومن الإخوة في الدين ، وهم صابرون على الجوع والعطش ، و على معاناة آلام المرض والجراح الدامية ، وهم صابرون على القصف الشرس من فوقهم ومن تحتهم، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم. إنهم قد صدقوا الله تعالى في إيمانهم به ، وباليوم الآخر ، وبالملائكة ، وبالكتب، وبالنبيّين ،وأنفقوا المال العزيز على النفس وهم في شدة وضيق ، وحافظوا على صلواتهم، وهم تحت القصف المتواصل ليل نهار ، وقد أنجزوا عهدهم الذي عاهدوا  عليه الله عز وجل برابطهم ، وجهادهم ، وتضحياتهم الجسام ، وبصبرهم ، وبهذا أدركوا درجة الصدق الأعلى ، والدرجة العليا في التقوى ، فأين نحن من هؤلاء إذا عرضنا أحوالنا على أحوالهم ؟؟؟

اللهم إنا نسألك أن تبلغنا مراتب عبادك الصادقين المتقين . ونسألك أن تنصر من صدقوك العهد في أرض الإسراء والمعراج ، وأن تعجل لهم بفرج من بأسائهم وضرائهم ، وبأسهم . اللهم عليك بمن ظلمهم ، وبمن خذلهم ، فأرهم فيهم عجائب قدرتك .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 1070