فِقَرُ الْفُصُولِ الشَّرِيفَةِ

لولا انتظام المعاني في الفكرة التي يؤديها الفصل من النص، لكانت أشتاتا مرسلة، يُنسي بعضها بعضا. وليس أشبه بانتظامها من انتظام اللآلئ في عِقد الحسناء؛ إذ تنتسق بسلك ائتلافها واختلافها، وتصطف، وتتوالى، حتى تكتمل. وكما تستقل بضفيرة تلك اللآلئ الطاقةُ الواحدة، تتقاسمها أحيانا الطاقاتُ المتعددة، فتتوزع بينها على نظام لطيف مُعجِب، وعلى مثل هذا تجري المعاني المنظومة في فكرة الفصل من النص؛ فتدب فيها حركة حيوية مثل حركة الأمواج مدا وجزرا أو حركة الأنغام جوابا وقرارا [صقر، 2022، النصية العروضية: 485]، وعندئذ تستقل بكل طاقة من منظومة المعاني (الفكرة)، فقرةٌ من الفصل.

وعلى غير ما جرى متوسطُ ما في النص الواحد من الفصول، جرى متوسطُ ما في الفصل الواحد من الفِقَر، فكان فقرتين وبعض فقرة (2.25) في الفصل القرآني -وهو الذي كان في نصه نفسه فصلين إلا قليلا (1.71)- وفقرتين اثنتين (2) في الفصل القدسي -وهو الذي كان في نصه نفسه فصلين وبعض فصل (2.28)- وفقرتين إلا قليلا (1.77) في الفصل النبوي -وهو الذي كان في نصه نفسه فصلا وبعض فصل (1.28)- فربما عَجِلَ ذلك المتعجل نفسه إلى تعليق زيادة التفقير بنقص التفصيل، حتى إذا ما تلبَّث عند كل نموذج مثلث ظهرت لنا وجوهٌ كريمة من البيان العربي لا يستغني عن تأملها كذلك فيما يأتي.

فِقَرُ النَّمُوذَجِ المُثَلَّثِ الْأَوَّلِ (أَصْوَاتِ الْجَزَاءِ)

اختص الفصل الأول من نص سورة "وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى" القرآنيّ، بفكرة "تصنيف الناس بأعمالهم"، على صنفين محسن ومسيء، جرى على كل منهما القضاء بما يستحق، وهو أمر عظيم من حكمة الله -سبحانه، وتعالى!- التي يدل عليها بين يديها بتقديم قَسَمٍ مناسب، يعرف العرب مناسبته، وهم الذين من عاداتهم استهلال القصيدة بما يناسب غرضها -إن خيرا فخير، وإن شرا فشر!- وهذا القرآن الكريم كلام عربي مبين؛ فكان القَسَمُ على اختلاف مَسعيَيِ المحسن والمسيء باختلاف الليل والنهار، وفي غشيان الليل تنبيه على أولية وجود النهار مثلما كان في تقديم الذَّكَر تنبيه على أولية وجوده، وكما اختلف الليل والنهار والذكر والأنثى اختلاف تكامل، يختلف المحسن والمسيء، وتموج بهما الدنيا، ولا استقرار على صنف إلا بدوام العمل إحسانا أو إساءة؛ فربما تحول العمل فتحول الصنف، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

وهذه فكرة مضفورة من ثلاث طاقات:

1) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى

2) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى

3) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "القَسَم بالمختلفات على التفرق"، والفقرة الثانية بطاقة "نصيب المحسن"، والفقرة الثالثة بطاقة "نصيب المسيء".

واختص الفصل الثاني بفكرة "إنذار الناس" جميعا النار التي لا تذكر إلا بعد توثيق القدرة الربانية المتصرفة عاجلا وآجلا، فأما من يستحق العذاب فيُلقى إليها، وأما من يستحق النعيم فيُصرف عنها.

وهذه فكرة مضفورة من طاقتين:

1)                       إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى

2)                       فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "إعلان المقدرة"، والفقرة الثانية بطاقة "تمييز مجنَّبي النار من صُلاتها".

ثم اختص الفصل الأول من نص حديث "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ" القدسيّ، بفكرة "تحريم الظلم"، التي تأسست بتحريم المعبودِ الظلمَ على نفسه، ولكنه اختبر عباده بتركه يسعى بينهم، ونهاهم عن مقارفته، حتى يعرف الظلمُ نفسُه أنه ليس له بينهم مكان -وإن أتيح له أن يسعى بينهم- وأنهم إنما يتشبهون بربهم، لا بعدوِّ ربهم.

وهذه فكرة واحدة الطاقة:

-         يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا

واختص الفصل الثاني بفكرة "تأصيل فقر العباد" إلى عون المعبود الذي ربطهم فيما سبق بنفسه حين أطلعهم على أنه حرم الظلم على نفسه، ليتشبهوا به؛ فهو يسهل عليهم سبيل هذا التشبه؛ فلا يريد منهم غير النية والإقبال، ليهديهم سبيل الرشاد، وإذا ما استقاموا على الطريقة أجابهم إلى كل ما يسألونه من أمور الدنيا، وتجاوز عما يتفلت من أخطائهم في خلال سعيهم.

وهذه فكرة مضفورة من أربع طاقات:

1)                       يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ

2)                       يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ

3)                       يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ

4)                       يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "حال الضالين"، والفقرة الثانية بطاقة "حال الجائعين"، والفقرة الثالثة بطاقة "حال العارين"، والفقرة الرابعة بطاقة "حال المخطئين".

واختص الفصل الثالث بفكرة "تأصيل غنى المعبود"، إغراء للعباد بالركون إليه والاعتماد عليه، وإزالة للحرج عنهم أن يجدوا في أنفسهم على أنفسهم، وهذا خلق الكريم -سبحانه، وتعالى!- الذي يحب أن يتشبه به كل كريم.

وهذه فكرة مضفورة من أربع طاقات:

1)                       يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي

2)                       يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا

3)                       يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا

4)                       يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "حقيقة غنى المعبود"، والفقرة الثانية بطاقة "استحالة زيادة العبد على ملك المعبود"، والفقرة الثالثة بطاقة "استحالة نقص العبد من ملك المعبود"، والفقرة الرابعة بطاقة "استحالة نقص ملك المعبود بعطاء العبد".

واختص الفصل الرابع بفكرة "تأصيل عدل المعبود"، التي خرجت مخرج القول الفصل الذي يُنزل ما قبله منزلة واحدة، بحيث يبدو سؤال العباد ربهم عملا من أعمال إحسانهم، وإعراضهم عن سؤاله عملا من أعمال إساءتهم!

وهذه فكرة واحدة الطاقة:

-        يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ

ثمتَ اختص نص حديث "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ" النبويّ، ذو الفصل الواحد، بفكرة "شكر إحسان بعض المحسنين"، وعبر عنها بأسلوب الإجمال والتفصيل التعليمي النبوي المعروف -وفي طبيعته النحوية سجلنا قديما لبعض تلامذتنا رسالة ماجستير، ثم عثر في أثناء بحثه على رسالة ماجستير في طبيعته البلاغية- الحريص على إيعاب المتلقين المرجوين لإيعاب غيرهم، وهكذا دواليك!

وهذه فكرة مضفورة من طاقتين:

1)                       سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ

2)                       إِمَامٌ عَدْلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "الإجمال"، والفقرة الثانية بطاقة "التفصيل".

فِقَرُ النَّمُوذَجِ المُثَلَّثِ الثَّانِي (أَصْوَاتِ الْوَلَايَةِ)

واختص الفصل الأول من نص سورة "وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى" القرآني، بفكرة "قسم الولي على الولاية" ثلاثا؛ فإن الوليَّ إذا خشي الإساءةَ نفاها عن نفسه وليُّه، وإذا ذكر الوليُّ الأولى فضَّل عليها وليُّه الآخرةَ، وإذا أخرج الوليُّ الأولى من اعتباره بشَّره وليُّه بنعمته عليه فيها، على سنته التي لا تتبدل فيمن قدم الآخرة على الأولى، أن تأتيه الأولى راغمة، وتظل الآخرة سالمة!

وهذه فكرة مضفورة من ثلاث طاقات:

1)                       وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى

2)                       وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى 

3)                       وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى 

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "القسم على عدم الإساءة"، والفقرة الثانية بطاقة "القسم على خيرية الآخرة"، والفقرة الثالثة بطاقة "القسم على العطاء فالإرضاء".

واختص الفصل الثاني بفكرة "الاحتجاج للولاية" ثلاثا -فإن الكريم الذي لا زمان عنده، إذا أقسم كان قد وَفَى- وهل في التحبب أوضح من أن يذكِّر المعبودُ عبدَه قديمَ عنايتِه به!

وهذه فكرة مضفورة من ثلاث طاقات أيضا:

1)                       أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى 

2)                       وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى 

3)                       وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى 

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "الاحتجاج لعدم الإساءة بالإيواء من اليتم"، والفقرة الثانية بطاقة "الاحتجاج لخيرية الآخرة بالهداية من الضلال"، والفقرة الثالثة بطاقة "الاحتجاج للعطاء فالإرضاء بالإغناء من الفقر".

واختص الفصل الثاني بفكرة "الدلالة على حفظ الولاية"، بثلاث وصايا تجري مجرى ما قبلها من أقسام واحتجاجات، لتكون حين تُستَوفى من شكر النعمة الذي يستزيدها؛ فمن عرف اليتم والضلال والفقر، وعافاه الله- تحرّى إكرام اليتيم وهداية الضال وإغناء الفقير.

وهذه فكرة مضفورة من ثلاث طاقات أيضا:

1)                       فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ 

2)                       وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ 

3)                       وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "الوصية باليتيم"، والفقرة الثانية بطاقة "الوصية بالسائل"، والفقرة الثالثة بطاقة "الوصية بالنعمة". فإذا كان السائل هو طالب الإحسان وكانت النعمة هي الهداية، كانت الوصايا غير مرتبة على وفق الاحتجاجات السابقة! وإذا كان السائل هو طالب الإحسان أو الهداية كانت الوصايا اثنتين مرتبتين أولاهما مفردة والآخرة مركبة، وكانت الوصية الثالثة مفتوحة لتعم ما يوفق إليه من إكرام اليتيم وإجابة السائل، مع ما تقدم له هو من العناية!

ثم اختص الفصل الأول من نص حديث "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا" القدسي، بفكرة "تهدُّد المُعادي"، لتكون إعلانَ حمايةٍ مقدَّمًا، يُطمئن الولي، ويُحذر العدو؛ فإنه إذا خَلَت الولاية من هذا التحذير وتلك الطمأنة أحدهما أو كليهما، بَطَلت! وذلك من طرفي الولاية كليهما معروفٌ؛ فلن يكون أحدُهما وليَّ الآخر دون أن يكون الآخرُ وليَّه، ولن تصح ولاية أحدهما إلا بصحة ولاية الآخر!

وهذه فكرة واحدة الطاقة:

-        مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ

واختص الفصل الثاني بفكرة "الدلالة على وسائل تحصيل الولاية"، التي ينبغي أن يغتنمها من طلبها -وطالبُ الولايةِ هو الوليّ- بعدما اطمأن في حمى وليه الذي لا يُسْلمه؛ فقد أدخلَتْه فيه النيةُ، ليتفرغ للترقي من الأصول إلى الفروع، ومن القبول إلى المحبة.

وهذه فكرة واحدة الطاقة أيضا:

-        وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ 

واختص الفصل الثالث بفكرة "معالم الولاية المرجوة"، التي فيها من تحذير العدو مثلُ ما فيها من طمأنة الولي؛ فإن من عرفها لم يزل للولاية طالبا وبها متمسكا وعليها حريصا، لا يجد لغيرها قيمة، ولا يلقي له بالا! كيف لا وقد كفلت له من الحياة الربانية الكريمة، ما إن لم يقدرْه قدره جازَ به قدرَ نفسه!

وهذه فكرة مضفورة من ثلاث طاقات:

1)                       فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا

2)                       وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ

3)                       وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "ولاية المَعِيَّة"، والفقرة الثانية بطاقة "ولاية الإعطاء عند السؤال"، والفقرة الثالثة بطاقة "ولاية الإعاذة عند الاستعاذة".

واختص الفصل الرابع بفكرة "جلال مكانة الولي"، جلالًا حار في غرابة التعبير عنه متأملوه، وأوشك بعضهم أن يهلك فيه نفسه، إثباتا وإنكارا [الذهبي، "ميزان الاعتدال": 11/641-642، والدبيخي، "أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين جمعا ودراسة": 251-270]، لولا ما يعرفون من سنة مراعاة أسلوب التعبير العربي في مخاطبة العرب؛ قال ابن تيمية: "هذا حديث شريف قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وهو أشرف حديث رُوي في صفة الأولياء. وقد رد هذا الكلامَ طائفةٌ، وقالوا: إن الله لا يوصف بالتردد، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور، والله أعلم بالعواقب. وربما قال بعضهم: إن الله يعامل معاملة المتردد! والتحقيق أن كلام رسوله حق، وليس أحد أعلم بالله من رسوله ولا أنصح للأمة منه ولا أفصح ولا أحسن بيانا منه؛ فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس وأجهلهم وأسوئهم أدبا، بل يجب تأديبه وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- عن الظنون الباطلة والاعتقادات الفاسدة! ولكن المتردد منا -وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ثم هذا باطل- فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة، لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه (...) والمقصود هنا التنبيه على أن الشيء المعين يكون محبوبا من وجه مكروها من وجه، وأن هذا حقيقة التردد، وكما أن هذا في الأفعال فهو في الأشخاص، والله أعلم [ابن تيمية، "مجموع الفتاوى": 18/129-130، 135]!

وهذه فكرة واحدة الطاقة:

-        وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ

ثُمَّتَ اختص نص "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ" النبوي، ذو الفصل الواحد، بفكرة "المؤانسة"، التي أحكمت على المتلقين أطراف قصة قصيرة تستغرق بحركتها انتباههم حتى يعيش فيها كل واحد منهم كأنه المرادُ أن يكون صاحبَها. قصة شديدة طرافة السرد؛ إذ تتجه إلى المتلقين الحاضرين، وتصرفهم إلى المستقبل المتوقع، ثم تلفتهم إلى الماضي المحفوظ، فيظلون بين تقدير أن صاحب القصة واحد منهم ربما كان فيهم، وتقدير أنه واحدٌ ممن كان قبلهم، لا يمتنع أن يكونه واحدٌ منهم!

وهذه فكرة مضفورة من طاقتين:

1)                       لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ

2)                       فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "الشدة"، والفقرة الثانية بطاقة "الفرج".

فِقَرُ النَّمُوذَجِ المُثَلَّثِ الثَّالِثِ (أَصْوَاتِ التَّدْرِيجِ)

واختص الفصل الأول من نص سورة "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ" القرآنيّ، بفكرة "التحبب إلى المخاطب"، الشبيهة بفكرة "الاحتجاج للولاية"، من نص سورة "وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى"، على ما تجلى فيما سبق، وقد وَلِيَتْها نُزولًا، وأكملَتها. وكما كانت تلك الاحتجاجاتُ كانت هذه التَّحَبُّباتُ ثلاثة.

وهذه فكرة مضفورة من ثلاث طاقات:

1)                       أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ

2)                       وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ

3)                       وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "نعمة التوسيع" -وهي زيادة على ما في باب الاحتجاج لعدم الإساءة بالإيواء من اليتم- والفقرة الثانية بطاقة "نعمة التخفيف" -وهي زيادة على ما في باب الاحتجاج لخيرية الآخرة بالهداية من الضلال- والفقرة الثالثة بطاقة "نعمة التكريم"، وهي زيادة على ما في باب الاحتجاج للعطاء فالإرضاء بالإغناء من الفقر.

واختص الفصل الثاني بفكرة "الطَّمْأَنة"، مقدما على الفصل الثالث، ليعالج ما يوحي به البدء بالتحبب من وشك التكليف الثقيل، فلا يكون لتكليف بعدئذ مشقة، ولا به ضجر.

وهذه فكرة واحدة الطاقة:

-        فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا

واختص الفصل الثالث بفكرة "الأمر بالاجتهاد"، بحيث لا يفرغ من عمل إلا لعمل، ولا يكون عمله من قبل ومن بعد إلا بالله وفي الله ولله. وهي شبيهة كذلك بفكرة "الدلالة على حفظ الولاية"، من نص سورة "وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى". وقد احتاجت تلك الدلالة إلى تَثْلِيث حوافظها، فأما الأمر بالاجتهاد فواحد مفتوح على الأبد.

وهذه فكرة واحدة الطاقة:

-        فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ

 ثم اختص الفصل الأول من نص حديث "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي" القدسيّ، بفكرة "الفرح بالعبد الذاكر المتقرب"، فذكَرها مثلما يذكر الأخ لأخيه محبته له ممثلةً بكل مثال، تنبيها على أن كل ما يعمله له قولا كان أو فعلا، يقع منه موقع كل محبوب مرغوب.

وهذه فكرة مركبة من طاقتين:

1)                       أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي

2)                       وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "الحضور"، والفقرة الثانية بطاقة "المَعيّة".

واختص الفصل الثاني بفكرة "مكافأة الذكر"، تصديقا لقوله -سبحانه، وتعالى!- في كتابه: "فاذكروني أذكركم"، ولكنه مفصل هنا على احتمالَيْهِ المتوقعين، تفصيلَ وصايا المتحابّين.

وهذه فكرة مضفورة من طاقتين اثنتين:

1)                       فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي

2)                       وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "مكافأة الذكر الخاص"، والفقرة الثانية بطاقة "مكافأة الذكر العام".

واختص الفصل الثالث بفكرة "مكافأة التقرب"، التي ينبغي في سياق فكرة "مكافأة الذكر" السابقة، أن تكون من العمل الظاهر الذي يصدّق الإيمان الباطن. وقد فصَّله على احتمالاتٍ ثلاثةٍ مُحْكَمة، مثلما فصل السابقُ احتمالي الذكر المتوقعَين.

وهذه فكرة مضفورة من ثلاث طاقات:

1)                       وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا

2)                       وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا

3)                       وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "مكافأة التقرب الصغير"، والفقرة الثانية بطاقة "مكافأة التقرب الوسيط"، والفقرة الثالثة بطاقة "مكافأة التقرب الكبير".

ثمتَ اختص الفصل الأول من نص حديث "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ" النبويّ، بفكرة "يسر الدين"، فأخرجها مخرج المسلمات؛ لعلها تستقر في وعي المتديّن الباطن، لينبني عليها كل ما يعالجه -فمن استخفَّ شيئا خفَّ عليه، ومن استثقل شيئا ثقُل عليه!- فلا يخطر له خطورًا أن يكون الدين هو العقبة الكؤود التي تحول دون انطلاقه في الآفاق.

وهذه فكرة مضفورة من طاقتين اثنتين:

1)                       إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ

2)                       وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "اليسر المسالَم"، والفقرة الثانية بطاقة "اليسر المغالَب". ألا مَا أَشْبَهَ الْعُسْرَ -لَوْلَا الْعَيْنُ- بِالْيُسْرِ، وما أبعد مخرج الياء من مخرج العين!

واختص الفصل الثاني بفكرة تخطيط خطة العمل، التي لا يشغل بها نفسَه إلا معلمُ الناس الخيرَ، لكيلا تستبد بالمتلقين عنه الحيرة، ويستولي عليهم العجز. والأعمال ثلاثة: تسديد، ومقاربة، وإبشار. والأوقات ثلاثة: غدوة، وروحة، ودلجة. ينبغي أن يُعمل العمل الصعب في الوقت القوي، والعمل السهل في الوقت الضعيف، والعمل الوسط في الوقت الوسط. ودوام الحال من المحال!

وهذه فكرة من طاقتين اثنتين أيضا:

1)                       فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا

2)                       وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "أجناس الأعمال"، والفقرة الثانية بطاقة "أوقات الأعمال".

فِقَرُ النَّمُوذَجِ المُثَلَّثِ الرَّابِعِ (أَصْوَاتِ التَّرْغِيبِ)

واختص نص سورة "وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ" القرآني، ذو الفصل الواحد بفكرة "توجيه مسيرة الإنسان"، التي خرجت مخرج الهزة المزلزلة، لِتردّ وهم كل غافل.

وهذه فكرة واحدة الطاقة:

-        وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ

ثم اختص نص حديث "مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي" القدسي، ذو الفصل الواحد بفكرة "إنصاف المبتلى المحتسب"، التي خرجت مخرج العهد المسؤول، لِتثبّت قلب كل مكروب.

وهذه فكرة واحدة الطاقة:

-        مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةُ

ثمت اختص نص حديث "وَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ" القدسي، ذو الفصل الواحد، بفكرة "تفضيل هداية الناس"، التي خرجت مخرج القول الفصل، لتفضّ نِزاع كل مخالف.

وهذه فكرة واحدة الطاقة:

-        وَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِهُدَاكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ

فِقَرُ النَّمُوذَجِ المُثَلَّثِ الْخَامِسِ (أَصْوَاتِ التَّخْيِيلِ)

واختص نص سورة "إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ" القرآنيّ، ذو الفصل الواحد بفكرة "الإغناء"، التي تتجلى بالإفقار -"فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ"- فإن في إفقار أحد الخصمين إغناء الآخر، فكيف إذا اجتمع للخصم إغناؤه وإفقار خصمه!

وهذه فكرة مضفورة من طاقتين اثنتين:

1)                       إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ

2)                       وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "الوصل"، والفقرة الثانية بطاقة "الفصل".

واختص نص حديث " أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي" القدسيّ، ذو الفصل الواحد، بفكرة "التكريم"، التي تَتولَّد من بين طرفين مثلما يتولد الالتفات البلاغي؛ ففي السؤال خطاب، ثم في الحديث عن الغائبين انصراف عن خطاب المسؤولين، وكأن هؤلاء المكرمين ما زالوا في الطريق إلى مقام تكريمهم، يجتهدون في التخلق بما له يُكرَّمون، وكلما ساروا ازدادوا!

وهذه فكرة ذات طاقتين اثنتين:

1)                       أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي

2)                       الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "التنبيه على إحسان المحسنين"، والفقرة الثانية بطاقة "التنويه بجلال المكافأة".

واختص نص حديث "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ" النبويّ، ذو الفصل الواحد، بفكرة "التأديب"، التي تُزكّي النفس بتعليقها بالمثال الفاضل تعليقا شديد الإيجاز، لا سبيل فيه إلى تجزيء، إلا أن يتمهل المؤدي بعد المنعوت "أقوام" قليلا، حتى يذهب المتلقي في تقدير نعته كل مذهب، حتى إذا ما ذكره تخاذلت المذاهب عن مذهب واحد لا يستغني تمييزه عن السَّيْر في الأرض والنظر في الخلق!

وهذه فكرة واحدة الطاقة:

-        يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ

فِقَرُ النَّمُوذَجِ المُثَلَّثِ السَّادِسِ (أَصْوَاتِ الْمُوَازَنَةِ)

واختص نص سورة "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ" القرآنيّ، ذو الفصل الواحد، بفكرة "الإنصاف" الديني، الذي يجعل للكافرين ما يجعل للمؤمنين، وكلاهما عند غيره مثل غيره عنده، وهذا مقام رفيع من مقامات بني آدم المختلفين المتعارفين، الذين لا غنى بأحدهم عن غيره في وطنهم الواحد.

وهذه فكرة مضفورة من ثلاث طاقات:

1)                       قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ

2)                       وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ

3)                       لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "الإقرار"، والفقرة الثانية بطاقة "التوقع"، والفقرة الثالثة بطاقة "التسليم".

 ثم اختص الفصل الأول من نص حديث "إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً" القدسيّ، بفكرة "إرادة السيئة"، المسوسة أكرم السياسة؛ إذ تتلطف بالمسيء تلطفا عظيما، فإذا وجد هذه المعاملة تطلع إلى معاملته وهو محسن، موقنا بأنها أكرم وأعظم.

وهذه فكرة مضفورة من ثلاث طاقات:

1)                       إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا

2)                       فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا

3)                       وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "إمهال مريد الإساءة"، والفقرة الثانية بطاقة "تقدير عمل السيئة بسيئة مثلها"، والفقرة الثالثة بطاقة "تقدير عدم عمل السيئة بضدها (الحسنة)".

واختص الفصل الثاني بفكرة "إرادة الحسنة"، المسوسة أكرم السياسة؛ إذ يجد فيها ذلك المتطلع مِصداق حُسن ظنه، بل أزيد مما يؤديه إليه حسن ظنه؛ فإنه محدود بحسابه، في حضرة من لا يحده حساب!

وهذه فكرة مضفورة بطاقتين اثنتين:

1)                       وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً

2)                       فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "تقدير عدم عمل الحسنة بحسنة مثلها"، والفقرة الثانية بطاقة "تقدير عمل الحسنة بأمثال مضاعفة".

ثمتَ اختص الفصل الأول من نص حديث "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ" النبويّ، بفكرة "تمثيل حال المؤمن"، التي تكتمل صورتها بملمح من داخله وملمح من خارجه، بحيث يقوم كل منهما للآخر، فيقعده، ليقوم، فيقعده -وهكذا دواليك!- فيترقى بذلك شيئا فشيئا، في مراقي الإيمان والإحسان والرضا.

وهذه فكرة مضفورة من طاقتين اثنتين:

1)                       مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ كَفَأَتْهَا

2)                       فَإِذَا اعْتَدَلَتْ تَكَفَّأُ بِالْبَلَاءِ

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "لين المؤمن للأحداث"، والفقرة الثانية بطاقة "توالي بلاءات المؤمن".

واختص الفصل الثاني بفكرة "تمثيل حال الفاجر"، التي لها ملمح واحد من داخله، ولكنه مشتمل على ما يمكن أن يفاجئه من خارجه، بحيث لا يستمر معه على حاله!

وهذه فكرة واحدة الطاقة:

-        وَالْفَاجِرُ كَالْأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ

فِقَرُ النَّمُوذَجِ المُثَلَّثِ السَّابِعِ (أَصْوَاتِ التَّهْوِينِ)

واختص نص سورة "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ" القرآني، ذو الفصل الواحد، بفكرة "التبشير"، الذي يمتد من الحاضر إلى المستقبل، بحيث لا ينغِّص فِقدانُه على المبشَّر وِجدانَه.

وهذه فكرة مضفورة بطاقتين اثنتين:

1)                       إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ

2)                       وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "تعريف النعمة العاجلة"، والفقرة الثانية بطاقة "تعريف النعمة الآجلة".

ثم اختص نص حديث "أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي" القدسيّ، ذو الفصل الواحد بفكرة "ضمان الفوز"، التي لا تحتاج إلا إلى تصحيح النية ومعالجة العمل، وقد تداخلت فيها الأعمال والأَفْواز، دلالة على خَطَر تلك النية الأولى الكبير، ووجوب تصحيح كُنْهِها وغايتها.

وهذه فكرة واحدة الطاقة:

-        أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي خَرَجَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِي ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ضَمِنْتُ لَهُ أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ وَإِنْ قَبَضْتُهُ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ وَأَرْحَمَهُ وَأُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ

ثمتَ اختص نص حديث "رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" النبويّ، ذو الفصل الواحد، بفكرة "الاستنفار"، التي ترفع المستنفَر إليه على المستنفَر عنه، وتسمو به بعيدا، حتى إذا نَفَر المستنفَرُ لم يَلْوِ على شيء.

وهذه فكرة مضفورة من ثلاث طاقات:

1)                       رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا

2)                       وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا

3)                       وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا

استقلت الفقرة الأولى بطاقة "أفضلية أقلّ المرابطة"، والفقرة الثانية بطاقة "أفضلية أقلّ الجنة" -وكلُّ ما فيها كثير- والفقرة الثالثة بطاقة "أفضلية أقلّ الجهاد".

على ستة أَنماطٍ إذن جرى تفقير الفصول من النصوص الواحد والعشرين المختارة (سبع السور القرآنية التي سنرمز إلى كلٍّ منها بـ"س" مشفوعا برقمه في ترتيبها، وسبعة الأحاديث القدسية التي سنرمز إلى كلٍّ منها بـ"ق" مشفوعا برقمه في ترتيبها، وسبعة الأحاديث النبوية التي سنرمز إلى كلٍّ منها بـ"س" مشفوعا برقمه في ترتيبها):

1)                       التفقير الزوجي (أن تكون في الفصل من النص فقرتان أو أربع)، وفيه ستة نصوص: ن١، ن٢، ن٣، س٥، ق٥، س٧.

2)                       التفقير الوتري (أن تكون في الفصل من النص ثلاثُ فِقَر)، وفيه ثلاثة نصوص: س٢، س٦، ن7.

3)                       التفقير الزوجي الوتري (أن تكون في فصل أو فصلين من النص فقرتان، وفي فصلٍ ثلاثُ فِقَر)، وفيه نصان اثنان: س١، ق٣.

4)                       التفقير الزوجي الناقص (أن تكون في فصل أو فصلين من النص فقرتان أو أربع، وما سواه غيرُ مفقَّر)، وفيه نصان اثنان: ق1، ن٦.

5)                       التفقير الوتري الناقص (أن تكون في فصل من النص ثلاث فقر، وما سواه غيرُ مفقَّر)، وفيه نصان اثنان: ق٢، س٣.

6)                       عدم التفقير (ألا يكون مِنْ فقرةٍ في شيء من فصول النص)، وفيه خمسة نصوص: س٤، ق٤، ن٤، ن٥، ق٧.

ينبغي التنبيه أولا على أنه لم يستول على نموذج مثلَّثٍ كامل إلا النمطُ السادس (عدم التفقير)، الذي استولى على نصوص النموذج الرابع (أصوات الترغيب)، من حيث أريد بكل منها أن يخرج دفعة واحدة مؤثرة (هزة مزلزلة، أو عهدًا مسؤولًا، أو قولًا فصلًا)؛ فكان فصلُ كلٍّ منها الواحدُ كأنه في نفسه فقرة لا تُفَقَّر!

وإذا تجاوزنا هذا النمط السادس (عدم التفقير)، وجدنا الأنماط الأول والثاني والثالث والرابع والخامس (أنماط التفقير)، على ثلاث مراتب:

-        في المرتبة الأولى التفقير الزوجي، الأكثر وقوعا في النص النبوي ثم النص القرآني منه في النص القدسي.

-        وفي المرتبة الثانية التفقير الوتري، الأكثر وقوعا في النص القرآني منه في النص النبوي، ولم يقع في النص القدسي.

-        وفي المرتبة الثالثة التفقيران الزوجي الناقص والوتري الناقص، الأكثر وقوعا في النص القدسي منه في النصين القرآني والنبوي.

فجاز لنا على وجه العموم، أن نميز النص القرآني بالتفقير الوتري، والنص القدسي بالتفقيرين الزوجي والوتري الناقصين، والنص النبوي بالتفقير الزوجي. إن ما تميز به النص القدسي ليزيدنا اطمئنانا إلى موقعه المتوسط المعروف بين النصين القرآني والنبوي. وإن ما تميز به النص النبوي ليدلنا على وجه قريب المأخذ، جرى عليه البيان التعليمي النبوي. أما ما تميز به النص القرآني فشِعارُ كمال الإحاطة -و"إِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ"- التي لا تتأتى إلا لمن اطلع على كل شيء من فوق سبع سماوات.

وسوم: العدد 1071