هل الموتُ غاية كل حيٍّ

يقول أبو العتاهية

أليسَ الموت غايةَ كل حيٍّ ... فما لي لا أبادر ما يفوتُ

وقفتُ أمام قوله هذا فرايتُه صادقاً إن قصد أن الناس يموتون لقوله سبحانه وتعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين والناس أجمعين ( إنك ميّتٌ وإنهم ميّتون،) ولعل الشاعر نسي بقية الآية في قوله تعالى( ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) . كلٌّ منا يناضل عن حقه الذي سُلِبَه في الدنيا ،فما المقصود من ذلك؟

ولعلي أعيد صياغة السؤال، فأقول: هل خَلقنا اللهُ للبقاء أو للفناء؟

قال تعالى (وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِیۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّیَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ شَهِدۡنَاۤۚ أَن تَقُولُوا۟ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَـٰذَا غَـٰفِلِینَ ۝١٧٢ الأعراف

اسْتَخْرَجَ اللهُ تعالى ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ، شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى فَطَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَلَهُمْ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الرُّومِ:٣٠] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ -وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ -فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، وَيُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُولَدُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ" وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "يَقُولُ اللَّهُ [تَعَالَى] إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ، عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ"

أحيانا سبحانه وتعالى حين استخرجنا من صلب أبينا آدم فخاطبنا – ولا يكون الخطاب إلا للحي العاقل الذي يعي، وأشهدنا سبحانه على ربوبيته ، فأقررنا ،ولا يكون هذا الإقرار إلا بمعرفة الحال وفهم الكلام والقدرة على الاستيعاب، لقد كانت البشرية كلها إذ ذاك من لدن آدم إلى آخر إنسان حاضرة تسمع وتشهد وتعلم وتفهم.فقلنا : بلى شهدنا. والشهادة تصدر عن حيٍّ عاقل ، ولكنْ كيف كنا أحياء ؟ عَلِمْنا هذا من الآية دون الإحاطة بذلك. فالعلم عند الله ..

يُخلق الإنسان في بطن أمِّه فيحيا شهوراً، ثم يولد للدنيا حيث الامتحان والابتلاء ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور) سورة المُلك. ولعلنا نعلم أن الحياة الدنيوية هي الميزان الذي يزن أعمال العباد، فما وُجِدت الأرض إلا لذاك. والدليلُ على هذا قوله تعالى ( إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوَهم أيُّهم أحسن عملاً ) فجهز المولى سبحانه الأرض ليكون الاختبار فيها، ألا ترى أن المدرسة تُبنى وتُجّهَّز مرافقها بدقة كي يستطيع التلميذ أو الطالب أن يدرس ويؤدي الامتحان بعد دراسته فينجَح أو يرسب ، ثم تغلق المدرسة أبوابها ( وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جُرُزا) فإذا انتهى الامتحان عادت الأرض يباباً بلقعاً لا ماء فيها ولا أشجار ولا بيوت ، ولا حياة ، فقد أدت الارض مهمتها وعادت كأخواتها / عطارد، والمريخ وبلوتو ووو/ قاعاً صفصفاً ، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً.

لن يفنى المرء كما زعم ابو العتاهية ، فالموت مرحلة أخرى ينتقل به المرء إلى القبر ، إلى البرزخ ينتظر اليوم الآخر ، ينتظر لقاء المولى الذي لا بدّ منه ، ألم يقل الله تعالى في سورة البقرة الآية الثامنة والعشرين:

( كيف تكفرون بالله وكنتم 1- أمواتاً 2- فأحياكم 3- ثم يميتكم 4- ثم يحييكم 5- ثم إليه تُرجَعون)

إنها خمسة مراحل كما لا حظنا، يؤمن بالثلاثة الأوَل كلُّ الناس مؤمنُهم وكافرهم ، فلن ترى عاقلاً يدّعي أنه كان منذ الأزل ، بل يُقِرُّ أن له يومَ مولد ، ويرى الكبارَ والصغار يموتون ، لكنّ المؤمن فقط من يعلم أنه سيبعث / المرحلة الرابعة/ وأنه سيقف بين يدي مولاه يوم الحساب / المرحلة الأخيرة/.

فلا بد من حياة يلقى المرء فيها جزاءه ،إنْ خيراً فخيرٌ وإن شراً فشرّ ،

ماذا بعد الحساب ؟ أهو فناء وعدم ، ليس ذاك إلا للحيوانات التي تحاسب ذلك الحساب الذي يناسبها ، ثم تكون تراباً ، وهنا (يقول الكافر يا ليتني كنتُ تراباً ) آخر سورة عمَّ. لما يعاينه من عذاب لاينتهي.ولماذا يتمنّى ؟لأنه يرى الحيوانات فنيَتْ وصارت تراباً ، فلا ثواب ولا عذاب . أما الإنسان فلم يولد ولم يُخلق إلا للخلود في الجنة إن كان مؤمناً وفي النار إن كان كافراً. إنه موقف – والله – مخيف ترعد كل ذرة فينا حين نتصوره ،أعاذنا الله منه.

في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا صارَ أهْلُ الجَنَّةِ إلى الجَنَّةِ، وأَهْلُ النَّارِ إلى النَّارِ، جِيءَ بالمَوْتِ حتَّى يُجْعَلَ بيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنادِي مُنادٍ: يا أهْلَ الجَنَّةِ لا مَوْتَ، ويا أهْلَ النَّارِ لا مَوْتَ، فَيَزْدادُ أهْلُ الجَنَّةِ فَرَحًا إلى فَرَحِهِمْ، ويَزْدادُ أهْلُ النَّارِ حُزْنًا إلى حُزْنِهِمْ.
جعلنا الله من أهل طاعته ورزقنا رضاه وجنّته خالدين في ذاك النعيم الأبديّ ، إنه الكريم المعطاء والغفور الرحيم ...

وسوم: العدد 1072