وقفات ... في شهر الصوم

* يقول اللهُ تبارك وتعالى : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 183 أَيَّامًا َّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن َصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ184 شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ لشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى َا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 185 وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ َيرْشُدُونَ { 186   البقرة . الأمةِ شهرُ رمضان المبارك ، شهرُ الصيامِ والقيامِ ، شهرٌ أولُه رحمةٌ ، وأوسطُه مغفرةٌ ، وآخرُه عِتقٌ من النار .ولقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يبشِّرُ أصحابَه بقدومِ هذا الشهرِ الكريم . ويحثُّهم على حُسْنِ استقباله ، استقبالا يليقُ بمكانة الصوم عند الله . فقد روى الإمامُ أحمدُ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( قد جاءكم رمضانُ ، شهرٌ مباركٌ ، افترضَ اللهُ عليكم صيامَه ، تُفتحُ فيه أبوابُ الجنةِ ، وتُغلقُ فيه أبوابُ الجحيمِ ، وتُغلُّ الشياطينُ ، فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ ، مَنْ حُرِمَ خيرَها فقد حُرِم ) وللصومِ مكانةٌ عندَ اللهِ ، وثوابٌ عظيمٌ لمَنْ صام ، وحفظَ صيامَه من اللغوِ والحرام ، ففي الحديثِ القدسيِّ يقولُ اللهُ سبحانه : ( كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصيامَ فإنه لي وأنا أجزي به ) رواه البخاري ومسلم . وحسْبُ الصائمِ فخرا وقبولا ما بشَّــر به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حيثُ قال : ( مَنْ صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِه ) رواه البخاري ومسلم . وهذا من فضل الله على عبادِه الصَّائمين ، وهذا من كرمه جلَّ وعلا ، والويلُ والثبور لمَن أدرك هذا الشهرَ وخرجَ منه مفلسًــا بلا ثواب ، حيثُ لم يكترثْ بهذا الفضل الرباني الجزيل ، فغادره شهرُ الصومِ ولم ينل من خيرِه شيئا ، فذلك كما قال تعالى : ( ذلك هو الخسرانُ المبين ) 11/ الحج . وكأنَّ هذا الغافل لم يسمعْ نداءَ الحقِّ في هذه الأيام المباركات وهو يقول : ( ياباغيَ الخيرِ هَلُـمَّ ، و ياباغيَ الشَّــرِّ أقصرْ ) رواه أحمد .

        *** وشهرُ الصومِ هو شهرُ لتزكية النفوس والسُمُو بها ، ودفعِ خُطاها على مدارجِ الرضا والقبول ، فهو شهرُ التقوى والهدى والقرآن ، فمن مآثرِه أنه يرتقي بالإنسانِ إلى درجة عالية ، فينأى عن الرذائل ، ويبتعدُ عن سفاسفِ الأمورِ ، وبذلك يأتي الفلاح ، يقولُ الله تبارك وتعالى : } وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا 7 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا 8 قَدْ َ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا { الشمس . نعم خابَ مَنْ أغرقَ نفسَه بالآثامِ والمعاصي ، وأفلتَ لها الزِّمامَ لتخوضَ في بحرِ الأهواءِ والشهواتِ المحرمة . ففي هذا الشهرِ المبارك دعوةٌ من اللهِ الرحمنِ الرحيم للمسلمين إلى مآثرِ التوبة النصوح ، والاستغفار ، والمرابطة في بيوتِ الله ، وانتظارِ الصلوات ، وقراءة القرآنِ الكريمِ ... ففي هذه الأعمالِ الأثيرةِ تُرفعُ درجاتُ الصائمين في جنَّاتِ الخلود ، يقول رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مخاطبًـا أصحابَه الكرام رضي اللهُ عنهم أجمعين : ( ألا أدلُّكم على ما يمحو اللهُ به الخطايا ، ويرفعُ الدرجاتِ ؟ ) . قالوا : بلى يارسولَ اللهِ . قال : ( إسباغُ الوضوءِ على المكارهِ ، وكثرةُ الخُطا إلى المساجدِ ، وانتظارُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ ، فذلكمُ الرِباطُ ) رواه مسلم .فهيِّئْ نفسَك لتنهلَ من بحرِ الفضلِ لهذا الشهرِ العظيمِ : في حضورِ صلاةِ الجماعة ، وفي توطينِ فؤادِكَ على الخشوعِ ، والقيامِ بصلاةِ التراويح ... فهي قيام الليلِ وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ قام رمضانَ إيمانا واحتسابا غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِه ) رواه الشيخان . وأكَّدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على صلاةِ الجماعة فقال : ( مَنْ قامَ مع الإمامِ حتى ينصرفَ غُفِرَ له ماتقدمَ من ذنبِه ) رواه الترمذي . ولنا أن نتذكرَ ماكان عليه أصحابُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وما كان عليه الصالحون في هذه الأمةِ ، و ردَ في صحيح البخاري أن أبا عثمان النهدي نزل ضيفًا على أبي هريرة رضي اللهُ عنه سبعةَ أيامٍ ، فرأى أبا هريرة و زوجتَه وخادمَه يقتسمون الليلَ أثلاثا في قيامهم وعبادتهم يقول الله تعالى :} كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ 17 وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ { الذاريات . وبُشْرَيات الرحمة تتراءى للمؤمنين الصائمين في صلاتهم وصيامهم ،أجرا مُضاعَفا عند الله سبحانه ، روى الترمذي أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( مَنْ شهِدَ العِشاءَ في جماعةٍ كان له قيامُ نصفِ ليلةٍ ، ومَنْ صلَّى العشاءَ والفجرَ في جماعة كان له كقيامِ ليلة ) .ويقول صلى الله عليه وسلم : ( بَشِّــر المشَّائين في الظُّلمِ إلى المساجدِ بالنورِ التامِ يومَ القيامةِ ) رواه الترمذي وأبو داود وابنُ ماجة . ويقولُ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ صلَّى البردينِ دخلَ الجنَّةَ ) ، والبردان هما الفجر والعصر . إنَّ ما يتمنَّاه المؤمنون المصلون الصَّائمون من دنياهم إنما هو رضوانُ ربِّهم عليهم في أُخراهم ، ولسوف تذهبُ هذه الدنيا بما فيها ، ولن تبقى للناسِ إلا أعمالُهم ، فأين المشتاقون إلى الجنَّة ؟ وأين التَّـوَّاقون إلى رؤيةِ الله تبارك وتعالى ؟ حدَّثَ جريرُ بنُ عبدِالله رضي اللهُ فقال : كنَّا جلوسا عندَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذْ نظرَ إلى القمرِ ليلةَ البدرِ فقال : ( أما إنكم ستروْنَ ربَّكم كما ترونَ هذا القمر لا تُضامون في رؤيتِه، فإن استطعتُم أن لاتُغلَبوا على صلاةٍ قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غروبِها ) ، ثمّ قرأ جرير رضي الله عنه :} وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ...{ 130/ طه . رواه مسلم في شهرِ رمضان يشعرُ الصَّائمُ أنه قريبٌ من اللهِ ، فيُشغل لسانَه وقلبَه بذكرِ الله عزَّ وجلَّ ، وهو يعلم معنى هذا الذكر ، ومعنى قولِ الاله سبحانه وتعالى } : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لي وَلاَ تَكْفُرُون{ 152/البقرة .وبهذا الإكرامِ ينشرحُ الصَّدرُ ، ويأتي الفرجُ والفتحُ من الله ، وهنا يأتي التَّضَرُّعُ إلى الله ، والإلحاحُ بالدعاء ليجدَ الصائمُ راحًة وطُمأنينة في صدرِه ، فإنَّ اللهَ قريبٌ مجيبٌ ، يقولُ الله تعالى :} وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون َ{ 186/ البقرة .

        إنها تهيئةٌ كريمةٌ لاستقبالِ هذا الشهرِ المعظَّمِ ، في توبةٍ نصوح ، وفي إخلاصٍ للنيَّةِ لنيلِ المثوبةِ والفوزِ بالجنةِ والنجاةِ من النار . إنها تهيئةٌ عالية القدرة والحماس لاستقبال ليلة القدرِ ، وما أدراك ما ليلةُ القدرِ ؟؟ ولاستقبالِ نفحاتِ الرضوانِ في رمضان ، جاء في الحديثِ القدسيِّ قولُه تعالى : ( هل من مستغفرٍ فأغفرُ له ؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه ؟ هل من داعٍ فأستجيب له ) . ياله من فضل في شهرِ الفضل والجودِ والغفران ، ويالها من مكانة عاليةٍ للصائمين عندَ ربِّهم ، وهاكمُ الدليل . روى أبو هريرة رضي اللهُ عنه أنه كان رجلان من قُضاعة أسلما مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، واستُشهدَ أحدُهما في إحدى الغزوات ، وأُخِّرَ الآخرُ ســـنةًً ( أي مات بعد صاحبِه بسنة ) قال طلحةُ بنُ عُبيدالله رضي الله عنه ( وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ) فأُريتُ الجنة ، فرأيتُ فيها المؤخرَ منهما (الذي مات بعدَ صاحبه الشهيد ) أُدخلَ الجنةَ قبلَ الشهيد . فتعجبتُ لذلك ، فأصبحتُ ، فذكرتُ ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال : ( أليسَ قد صامَ بعدَه رمضان ؟ وصلَّى ستةَ آلافِ ركعةٍ أو كذا وكذا ركعة صلاةَ السُّـــنَّة ؟ ) .

*** هذا شهرُ رمضان ، وهذه أيامُه الأولى تستحثُ خطواتِ الغافلين إلى التوبةِ والاستفادة من بركاتِ هذا الشهرِ ، ففيه بشرى القبول من الله لمَنْ أقبلَ فيه على الله ، يقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( أنه جاءَه جبريلُ عليه السلامُ ودعا فقال : مَنْ أدركه شهرُ رمضان فلم يُغفَرْ له فدخلَ النارَ فأبعدَه اللهُ ... قلْ آمين . فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : آمين ) رواه أحمد . فشهر الصوم موسمُ الطاعةِ والمغفرةِ لابد له من الأعمال الصالحات حتى يتطهرَ قلبُ المؤمنِ الصائمِ من الفسادِ والموبقات ، وينمو من جديد على الطاعات ، فالإقبالُ على اللهِ لابدَّ منه لطلابِ الآخرة ، وأبوابُ السماءِ مفتوحةٌ للخلقِ جميعا ، جاء في الحديثِ القدسي عن ربِّ العزة والجلال ، والذي حدَّث به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( يقولُ اللهُ تعالى : ياعبادي إنكم تخطئون بالليلِ والنهارِ ، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعا ، فاستغفروني أغفرْ لكم ) رواه مسلم . وهذا موسمُ المغفرةِ والعِتقِ من النارِ ، روى ابنُ حِبَّان في سُننه ، قال رجلٌ : يارسولَ اللهِ دُلَّني على عمل أدخُــلُ بـــه الجنـــــــةَ . فــقــــال   صلى الله عليه وسلم : ( عليكَ بالصومِ فإنه لامثيلَ له ) . فالصومُ زكاةُ الجسدِ ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ( لكلِّ شيءٍ زكاةٌ ، وزكاةُ الجسدِ الصَّومُ ، والصِّيامُ نصفُ الصَّبرِ ) رواه ابنُ ماجة . والصيامُ حِمايةٌ من النار ، ونجاةٌ من العذاب . يقولُ صلى الله عليه وسلم : ( الصِّيامُ جُنَّةٌ ، وحِصنٌ حَصينٌ من النارِ ) رواه أحمد . والصِّيامٌ يشفعُ لأصحابِه يوم القيامة ، فعن عبدِالله بنِ عمر رضي الله عنهما قال : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ( الصِّيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبدِ يوم القيامةِ ، يقولُ الصًِيامُ أيْ ربِّ منعتُه الطعامَ والشهوةَ ، فشفِّعني فيه ، ويقولُ القرآنُ منعتُه النَّومَ بالليلِ فشفِّعْني فيه . قال : فيشفعان ) رواه أحمد والطبراني والحاكم . وحَسْبُ الصائمِ مكانةً عندَ اللهِ أنه بانتهاء شهرِ الصومِ يغفرُ اللهُ ماتقدَّم له من ذنوب ، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ صامَ رمضانَ إيمانا واحتسابا غُفِرَ له ماتقدَّمَ من ذنبِه ) رواه البخاري ومسلم . ومن هنا يستعينُ المؤمنُ الصَّائمُ بصيامِه وقيامِه وجودِه وهو يرجو رحمةَ ربِّـه ومغفرتَه ، قال تعالى : } واستعينوا بالصبرِ والصلاةِ إنها لَكبيرةٌ إلا على الخاشعين {. فاعمُروا مساجدَ الله بأداءِ الصَلواتِ فيها جماعةً ، فذلك من دلائلِ الإيمان ، يقول اللهُ تعالى : }إنما يعمر مساجدَ الله مَنْ آمنَ باللهِ واليومِ الآخر وأقام الصلاةَ { 18/ التوبة . وبهذا الإقبال تبدأُ نهايةُ المعاصي والمخالفاتِ الشرعيةِ ، ليأمنَ المسلمُ من غضبِ اللهِ ، فإن اللهَ عزَّ وجلَّ يغارُ إذا انتُهكتِ الحرماتُ ، يقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ اللهَ يغارُ ، وإنَّ المؤمنَ يَغارُ ، وَغَيْرَةُ اللهِ أن يأتيَ المؤمنُ ما حرَّمَ اللهُ عليه ) رواه مسلم . وهذه أيامٌ مباركاتٌ تُغلُّ فيها الشياطين ، وتهبُّ فيها نفحاتُ الرضوانِ والقبولِ من جِنانِ الخلدِ تبشِّرُ المؤمنين الصَّائمين بالنجاةِ والفوزِ من الأهوالِ التي سوف تأتي على الإنسانِ ، ويالها من أهوالٍ وشدائدَ لايعلمُ ثقلَها على الناسِ إلا اللهُ ، يقولُ المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( لو تعلمون ما أعلمُ لضحكتُم قليلا ولبكيتُكم كثيرا ) ، فغطَّى أصحابُ رسولِ اللهِ وجوهَهم ولهم خنينٌ من بكائهم . رواه مسلم . فأين الإيمانُ الذي يجلبُ الخَشيةَ من اللهِ ؟ وينهى عن الأهواءِ الرخيصةِ ؟ يقولُ سبحانه : }وأمَّا مَنْ خافَ مقامَ ربِّه ونهى النَّفسَ عن الهوى فإنَّ الجنَّةَ هي المأوى { 40/41/النازعات .ولا يستخفُّ المؤمنُ الصَّوَّامُ القوَّامُ بصغائرِ الذنوب ، فمَن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيرأ يرَه ، ومَنْ يعمل مثقالَ ذرة شرًّا يره

        * شهرُ رمضان هو شهر الفتوحات والانتصارات والبشريات ، ففيه انتصرَ المسلمون في بدر وفي غيرِها من المعارك الفاصلةِ في تاريخِ هذه الأمةِ ، والأمةُ مازالتْ بخيرٍ ــ إن شاء اللهُ ــ رغم الذنوبِ والآثام والموبقات ، يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ قالَ هلَكَ المسلمون ، فهو أهلكُهم ) . ولذا فهو صلى الله عليه وسلم يبشِّرُنا بالفتح وبالتأييدِ من اللهِ يقولُ صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ اللهَ زوى ليَ الأرضَ ، فرأيتُ مشارقَها ومغاربَها ، وإن أُمتي سيبلغُ مُلكُها مـا زُوِيَ لـي منها ) . فلا خوف من الغزاةِ المجرمين ، ولا رعبَ من الصهاينة الملاعين ، فاللهُ أشدُّ بأسًا وأشدُّ تنكيلا . هذه بشائرُ من اللهِ إذا وعت الأمةُ معنى الصيامِ والقيامِ ، والتجأت إلى اللهِ في كلِّ أمورِها .

        * وفي هذا الشهرِ يحلو الجودُ ، وتسخو الأنفسُ ، فإنَّ اللهَ يحبُّ الجوادَ ، ولا يحبُّ الشُّحَّ والبخلَ ، يقولُ سبحانه : }لن تنالوا البِـرَّ حتى تُنفقوا ممَّـا تحبون { 92/آل عمران . فطوبى لمَنْ جعلَ اللهُ الجودَ من طبيعَته ، وسماحةَ النفسِ من سجيتِه ، قال القائل :

        تعوَّدَ بسطَ الكفِّ حتى لوأنَّه           أرادَ انقباضًـا لم تُطعْـهُ الأناملُ

إنَّ الشيطانَ وعدَ الإنسانَ بالفقرِ والمعصيةِ والمصيبة ، ولكن اللهَ وعدَ عبادَه بالغِنى والمغفرةِ والسعادةِ ، فما أنفقَ المؤمنُ من مالِه ومتاعِه إلا عوَّضه اللهُ سبحانه . يقولُ تعالى : } واللهُ يَعِدُكم مغفرةً منه وفضلا واللهُ واسعٌ عليم ) 268/البقرة . ويقولُ النبيُّ : صلى الله عليه وسلم : ( ما نقصتْ صدقةٌ من مال ) رواه مسلم . فَنعمُ اللهِ على عبادِه كثيرةٌ لاتُعدُّ ولا تُحصى يقول عزَّ وجلَّ : }وإن تعُدُّوا نعمةَ اللهِ لاتُحصوها {34/إبراهيم ، و واجبُ المسلمِ أن يشكرَ اللهَ على هذه النعمِ ، ويتحدَّثَ بها ، ويُؤدِّي حقَّها: }وأما بنعمةِ ربِّك فحدِّثْ {11/الضحى . وهذا الشكرُ وهذا العطاءُ للمحتاجين من المسلمين فيه زيادةٌ للمالِ ، وفيه مغفرةٌ من الله يقولُ سبحانه : } لئِنْ شكرتُمْ لأزيدنَّـكم { 7/إبراهيم . وهذا الكرمُ والجودُ إنما هو سُنَّةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقد كان أجودَ من الريحِ المُرسلةِ ، ونقفُ هنا عند مجملِ هذه الأعمالِ والطاعات والقرُباتِ في حياةِ المسلم ، لنرى كيف يباركُ اللهُ عُمُرَه ، ويكونُ من أخيارِ الناسِ على وجهِ الأرضِ . سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن خيرِ الناسِ فقال : ( مَنْ طالَ عُمُرُه وحَسُنَ عملُه ) وسُئِلَ عن شرِّ الناسِ فقال : ( مَنْ طالَ عُمُرُه وســـاءَ عملُه ) رواه مسلم . وبهذا تكونُ الخاتمةُ الطيبةُ المباركةُ عندَ الموتِ ، وتلك هي الحسناتُ التي يدفعُ بها الصائمُ المُصلي السيئاتِ ومصارعَ السوءِ ، وهذا هو جهادُ النفسِ الذي يؤدي إلى دار كرمِ اللهِ والقربِ منه سبحانه وتعالى ، وهو الرصيدُ الباقي الذي لايفنى من الحسنات والباقيات الصالحات ، وهذا الرصيد هو الزادُ الذي أعدَّه المؤمنون للموتِ والقبرِ والآخرةِ . وبه ينالون شرفَ الدنيا وعزَّ الآخرة ، وهؤلاء الناسُ هم الأبرارُ الأخيارُ الذين عناهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين سُئلَ عن أكيسِ الناسِ فقال : ( أكثرُهم للموتِ ذكرا ، وأشدُّهم له استعدادا ، أولئك هم الأكياسُ ... ذهبوا بشرفِ الدنيا وكرامةِ الآخرة ِ ) . وفي الحديثِ الآخر عنه صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ ماتَ على شيءٍ بُعِثَ عليه ) رواه الحاكم . و روى الإمامُ أحمدُ رحمه اللهُ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( مَنْ قال لا إلهَ إلا اللهُ ابتغاءَ وجهِ اللهِ خُتِمَ له بها دخلَ الجنَّةَ ، ومَنْ صامَ يوما ابتغاءَ وجهِ الله خُتِمَ له به دخلَ الجنةَ ، ومَنْ تصدَّقَ بصدقةٍ ابتغاءَ وجهِ اللهِ خُتِمَ له بها دخلَ الجنَّــةَ ).

وسوم: العدد 1074