وعلمتني جدتي هاجر

"بمناسبة عيد الأضحى المبارك"

وعلمتني جدتي هاجر

عزة مختار

[email protected]

أختي المسلمة تخيلي معي وعيشي تلك الرحلة  الرائعة  العجيبة  ، وكوني فيها بقلبك وعقلك ووجدانك حتى تستشعري وتتعلمي وتستوعبي الدرس جيدا ، انسي كل ما حولك قليلا وركزي انتباهك كله واستغرقي بكيانك معي ولنبدأ .

أنت الآن زوجة لرجل متزوج من غيرك و لم ينجب من قبل وتزوجك وقد يئس من الإنجاب ، ثم أنتي تنجبين له الولد  الذي لم يكن يتخيل أنه سيرزق به ، ما هو شعورك الآن ؟ وماذا تتخيلين مكانتك عنده ؟ وكيف تتدللين عليه ؟ سأترك لك الجواب واذكري ما شئت

يطلب منك زوجك في تلك الظروف ووسط تلك الفرحة العارمة  أن تصطحبيه في رحلة ، تخيلي إلي أين تكون تلك الرحلة ؟ ربما رحلة استجمام ، أو رحلة سياحية ، المهم أنها ستكون رحلة مكافأة لك علي ما قدمتيه له من هدية العمر كله ، استعدي للرحلة  ، فها هو المتاع  قد تم إعداده ،  انه ما يستطيع الزوج حمله من ماء وطعام ، احملي وليدك الآن وسيري مع زوجك وسلمي له القياد دون أن تسأليه إلي أين ، فثقتك به لا متناهية خاصة انه ليس زوج عادي وإنما هو إنسان رباني له مهمة وله رسالة وهو والد ابنك الوحيد ، تسيرين معه وها هي مشارف الصحراء تظهر في الأفق ، تتعجبين لكن لا تسالي فما زالت الثقة موجودة ، يأخذك إلي مكان بعيد في قلب الصحراء وتقلبين النظر بين ذلك المكان الموحش وبين زوجك  ... من فضلك أختي المسلمة تخيلي نفسك فعلا في هذا الموقف ، لا يتحدث إليك زوجك وإنما ينظر إليك ويدير لك ظهره دون كلمة ويتركك لينصرف ، دون زاد إلا من قليل ، دون ماء إلا من قليل ، دون بشر ، دون مأوي .. تري ما هو أول سؤال سوف يخطر ببالك كي تسأليه زوجك ؟ تري ماذا سيكون تصورك للموقف ؟ وهل سيكون للعقل حكم أم لثقتك به ؟ ربما تصرخين ، ربما تنادي عليه وتبكين بكاءا مرا وتطلبي منه أن يرحمك ويرحم ابنكما ، ربما تحاولي تعقبه والعودة معه إلي حيث الأمان والحياة المستقرة

"ءالله أمرك بهذا ؟ "  تلك هي كانت إجابة جدتك " هاجر " وذلك هو الدرس الأول الذي علمته لنا . درسا لا يمكن أن نتعلمه في الجامعات أو علي يد أعظم الأساتذة ، إنه اليقين في الله وحسن الظن به سبحانه  

يجيبها الزوج النبي الخليل ليس بكلمة وإنما فقط بإشارة أن نعم وبدعاء خالص لله "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون. ربنا إنك تعلم ما نخفى وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء" إبراهيم  37 ، 38

فتعود لتعلمنا فن التسليم " إذن لا يضيعنا "

" إذن لا يضيعنا "  ذلك هو اليقين الذي إذا سكن قلب المؤمن انطلق في الدنيا ليعمرها ويبنيها غير هياب لأحد إلا لمولاه وغير متوكل إلا علي مولاه وغير مبتغي بعمل إلا وجه مولاه ، وهكذا حال المرأة المسلمة إذا توكلت علي الله حق التوكل وعاشت اليقين بكل معانيه فهي لا تحب إلا له ولا تكره إلا فيه ولا تعطي إلا له ولا تمنع إلا لرضاه ، وهي ليست حجر عثرة في طريق زوجها ، خاصة تلك التي حباها الله عز وجل بزوج مجاهد داعية ومطلوب منها التضحية وحمل معظم الأعباء معه والي جانبه يدا بيد وقلبا بقلب ، فهي لا ترهقه بمشاكلها وبمزيد من أعباء الحياة فيتأخر عن الركب أو بمزيد من اللوم والعتاب علي تأخره مثلا وتغيبه لأوقات طويلة عن البيت ، أو لإنفاقه الكثير من وقته في أعباء الدعوة دون أن ينفقها في جلب المزيد من المال أو تخويفه من عاقبة الطريق والخسائر المحتملة فيه ، بل هي الزوجة المؤمنة التي تنتهج طريق جدتها طالما إنها تعرف أن زوجها علي طريق الأنبياء والصالحين ولها أن تفخر بذلك وان تتحمل المشاق في سبيل تيسير أمره ، فها هي جدتنا الغالية تسير إلي جنب زوجها إلي حيث المجهول ولا تسأله إلي أين تأخذنا ، وكيف تسأله وهي أصلا تثق به وتعرفه جيدا وهو الإنسان الرباني المؤمن فلماذا لا تثق به اليوم أو تخافه أو حتى تخاف عليه ، تسير دون أن تسال وحين يصلا إلي المكان المقصود لا يقول لها شيئا بل يتركها ولا يعقب امتثالا لأمر ربه ويمضي ، وهي كإنسانة يعتريها بعض الخوف ، وإنصافا من لا يخاف في ذلك الموقف  ؟، آتونا بأعظم الرجال وأقواهم وأصبرهم وافعلوا معهم ذلك وانظروا ماذا يفعلون ؟ والأمر هنا لا يحتاج إلي قوة جسدية أو نفسية ، ولا يحتاج إلي مزيد من الطعام والماء لتامين ابسط مطالب الحياة ، ولا يحتاج لبعض الحراس ليقوموا عليها في الليل البهيم في ذلك المكان البعيد الموحش الخالي من مظاهر الحياة ، إنما يحتاج إلي قوة من نوع آخر ، إنها قوة اليقين في الله ، وهي قوة لا تؤتي لأي إنسان ، ولا تؤتي هكذا ببساطة وإنما تؤتي لقلب دائم الاتصال بالله ، وعين طالما سهرت وبكت ، وبطون طالما صامت وزهدت وأياد طالما امتدت بالصدقات دون أن تدري شمالها ما تنفق يمينها ، وعقول شغلها البحث في ملكوت الله وبديع صنعه ، وأسر أعانت بعضها البعض علي الطاعة ذلك هو معين اليقين وذلك هو سبيله ، لا يأتي هبة ، ولا يشتري بالمال ، ولا تؤمنه البيوتات الفاخرة
مجرد إشارة من سيدنا إبراهيم أن " هذا أمر الله " وفي هذه الحالة يظهر الإيمان قويا متحديا أي صعاب وأي عقبات وأي جبروت وأي طاغية وأي ظالم ، وأي قوة مهما بلغت فهي مهما بلغت ماذا تساوي إلي جانب قوة الله عز وجل ، ولماذا الخوف ؟ من الجوع ؟ هو من يسقي ويطعم ، خوف علي الأجل ؟ هو يحيي ويميت ولا احد غيره ، فإذا كان هو الرازق فلم الخوف ؟ وإذا كان هو من يملك الأجل فممن الخوف ؟ .
اليقين في الله الذي يجعل امرأة تواجه الدنيا كلها بكلمة واحدة " إذن لن يضيعنا "

عودي الآن يا أختي من رحلتك المرهقة والتقطي أنفاسك فما أظن أن أحدنا يمكن أن تقدر علي ما تبقي منها أو تطيق ، عودي لنتعلم من تلك السيدة التي علمت البشرية فنون الإيمان بالله عمليا وتحملت ما يشق علي الرجال

الدرس الأول اليقين وحسن الظن بالله

الدرس الثاني حسن التوكل علي الله

تعود جدتنا أدراجها إلي وليدها وهي تحمل في صدرها قلبا يحمل إيمانا يستعصي علي كل شياطين الأرض أن تعبث به ويبدأ الطعام في النفاذ ويبدأ الماء في النفاذ ويجوع الرضيع ويصرخ ألما وهي تعرف إلي من تلجأ ، لكن لنتعلم كيف يكون اللجوء الحق إلي المولي ، إنها لم تقعد تصلي وتدعو وتبكي لله أن يرفع ما بها من بلاء ويرزقها أحسن الرزق من أوسع الأبواب ، وإنما إلي جانب كل هذا السعي الدءوب الذي يعجز عنه الرجال ، السعي في طلب الرزق كي نتعلم كيف يكون حسن التوكل علي الوكيل ، انه توجه كامل القلب إلي الله مع العمل المتواصل وترك النتيجة كلها عليه سبحانه ويأتينا الدرس الرباني

"  اسعي كما يجب أن يكون السعي فسيأتيك رزقي من حيث لا تحتسب ، فقط عليك السعي وعلينا نحن التوفيق حين تنقطع كل الأسباب وتتعلق بمسبب الأسباب جميعا "

ربما تعمل في اتجاه ويأتيك النجاح في اتجاه مخالف تماما لكن ذلك لا يعفيك من العمل والمثابرة فذلك هو حسن التوكل ، يريد الحبيب المصطفي صلي الله عليه وسلم الهجرة إلي الطائف ويفعل فيكافأه الله بالمدينة المنورة    ويريد أن يدعو أهل الطائف فيقيض الله له الجن ليستمعوا القرآن ويؤمنوا به وهكذا نريد وإرادة الله هي النافذة لكن لا بد من السعي والعمل

تسعي جدتنا بين الصفا والمروة باحثة عن شيء ، عن أحد ، تسعي مرة واثنتين وثلاث ، حتى سبعة مرات لتسير سبعة أشواط ولم العودة ؟ ولم إعادة الكرة ؟ إنها فعلت ما عليها فعلا وصعدت بين جبلين مرة ؟ مرتين ؟ ثلاثا ؟ أي رجل في العالم وأي عقل سوف يتهم نفسه إذا فعلها أكثر من هذا ، علام تبحث ؟ إنها لن تري جديدا إذا عاودت ، وهذا هو الدرس فطالما أنه بقي لديها أنفاس , وطالما أنها بقيت لديها قدرة فلم تفعل ما عليها بعد . متى تشعر أنك قد فعلت ما عليك وأنه يجب أن تنتظر فرج الله ؟ هذا في حالة واحدة يوجهنا إليها مولانا عز وجل في كتابه العزيز في سورة النمل " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون " ويقول ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة ينبه تعالى أنه هو المدعو عند الشدائد ، المرجو عند النوازل ، كما قال : ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ) [ الإسراء : 67 ] ، وقال تعالى : ( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ) [ النحل : 53 ] . وهكذا قال هاهنا : ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ) أي : من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه ، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه . وقال وهب بن منبه : قرأت في الكتاب الأول : إن الله يقول : بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات ومن فيهن ، والأرض بمن فيها ، فإني أجعل له من بين ذلك مخرجا . ومن لم يعتصم بي فإني أخسف به من تحت قدميه الأرض ، فأجعله في الهواء ، فأكله إلى نفسه"  ليس مجرد حركة جسدية وإنما ليتعلم العالم كيف يكون التوكل الحق ، تسعي بعيدا بين جبلين لينبع الماء من تحت أرجل الوليد ، وقد يسأل سائل ولماذا لم ينبع الماء مباشرة دون أن تتكبد تلك الآلام ألم يكفيها ما عانته ؟ إنها المدرسة النبوية التي يجب أن تدفع الثمن كاملا حتى نتعلم .

ينبع الماء وتكون زمزم ، صبرت وبذلت وتوكلت وأحسنت الظن فكانت النتيجة عين ماء تروي الحجيج إلي يوم القيامة ويكون ماء اليقين والذي نبع نتيجة يقينها في الله ويكون ماء زمزم لما شرب له تكريما لامرأة  آمنت بالله وتأتيها القبائل العربية ليعيشوا علي مائها ويتربي وليدها ويتلقي اللغة العربية علي يد أصحابها وتنشأ مدينة مكة ببركة بيت النبوة

ويأتينا الدرس الثالث : التسليم المطلق لله عز وجل ، يعود الأب الذي غاب كثيرا  ليجد ابنه وقد صار فتي يانعا تسر له العين ويبش له القلب فيجد ابنه وقد توجه الإيمان الذي ربته عليه أمه ، يعود لا ليكافئ الأم التي صبرت واحتسبت ويعوض ابنه عن تلك الأيام التي عاشها بدونه وإنما لأمر جلل ، إنه قد عاد ليذبح ابنه ، ويأتيها إبليس اللعين ، أدركي ابنك يا هاجر ، لقد جن إبراهيم ، انه سيقتل ابنك ، فتكون المفاجأة الكبرى ، تقوم امرأة لترجم إبليس اللعين وتسلم ابنها لأبيه ليذبحه ، وليتحول فعل فعلته للمرة الثانية إلي شعيرة من شعائر الحج وهي الرجم يؤديها الحجيج كذلك كل عام تكريما من الله عز وجل إلي تلك المرأة العجيبة وتظهر حسن تربيتها الرائعة لابنها حين يقول بمنتهي التسليم " يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين "

تلك هي مجموعة الدروس الرائعة التي عشناها وتعلمناها من جدتنا الحبيبة في تلك الأيام المباركة عسي أن تكون معينا لنا علي حسن الفهم وحسن الطاعة وهو ولي ذلك وعليه قدير.