فتح مكة -4

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز ، وأمر أهله أن يجهزوه ، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها ، وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال ‏:‏ أي بنية ‏:‏ أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه ‏؟‏

قالت ‏:‏ نعم فتجهز ، قال ‏:‏ فأين ترينه يريد ‏؟‏ قالت ‏:‏ لا والله ما أدري ‏.‏ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة ، وأمرهم بالجد والتهيؤ ، وقال ‏:‏ اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها ‏.‏ فتجهز الناسُ ‏.‏

كتاب حاطب يحذر أهل مكة ‏:

فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم ‏.‏

ثم أعطاه امرأة من مزينة ، أوهي مولاة لبعض بني عبدالمطلب وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً ، فجعلته في رأسها ، ثم فتلت عليه قرونها ، ثم خرجت به ‏.‏

الخبر من السماء بما فعل حاطب ‏:

وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث عليَّ بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما ، فقال ‏:‏ أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش ، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم فخرجا حتى أدركاها ليس بعيداً، فاستنزلاها ، فالتمسا في رحلها ، فلم يجدا شيئاً ‏.‏

فقال لها علي بن أبي طالب ‏:‏ إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكذبنا ، ولتُخرِجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك ، فلما رأت الجِدَّ منه ، قالت ‏:‏ أعرضْ فأعرضَ فحلت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليه ‏.‏

فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً ، فقال ‏:‏ يا حاطبُ ما حملك على هذا ‏؟‏ فقال ‏:‏ يا رسول الله ، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ، ما غيّرتً ولا بدلت ، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل ، فصانعتهم عليهم ‏.‏

فقال عمر بن الخطاب ‏:‏ يا رسول الله ، دعني فلأضربْ عنقه ، فإن الرجل قد نافق ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ وما يدريك يا عمر ، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر ، فقال ‏:‏ اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم ‏.‏

فأنزل الله تعالى في حاطب ‏:‏ ‏( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ‏)‏ إلى قوله ‏:‏ ‏(‏ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ، إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده)‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏

إضاءة

يتجهز القائد قبل الجميع للحرب ، فيكون قدوة يأتسي به أتباعه ، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ، وهكذا يكون القائد الناجح ، لقد روى علي رضي الله عنه – وهو مَن هو في البطولة والشجاعة – أنه :"كنّا إذا حَمِي الوطيس واحمرّت الحِدق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يكون أحدٌ أقربَ إلى العدوّ منه". ويتجهز المسلمون كما أمرهم رسول الله دون أن يعرفوا وجهته ، وهذه الطاعة من أسباب النصر ودواعي الفوز والنجاح.

يتابع المسلم الاريبُ قائدَه ويراقبه أولاً بأول ويجهز نفسه لما يتوقعه ، فكأنه يقرأ ما في أفكاره ليعمل مثلما يعمل ، وقد رأينا في المقال السابق إجابة الصديق أبي بكر لأبي سفيان الذي طلب منه أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم في تجديد الهدنة فقال: " ما أنا بفاعل". وهنا نجده رضوان الله عليه يسأل ابنته الصديقة مستعلماً ، فتجيبه "أي نعم" وتريد من أبيها أن يتجهز قبل أن يأمر النبيُّ المسلمين بذلك. هذا ما يفعله الجندي اليقظ والمريد الأريب.

تظل أمور مهمة في نفس القائد لا ينبغي البوح بها لأقرب المقربين إليه حتى تكتمل الفكرة في رأسه وتختمر ، ولا أقرب من الصديق إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه ، ويحس الصديق أن هناك شيئا يعتمل في ذهن قائده ويتجنب سؤاله المباشر عنه لكنّه يستجليه من طرف آخر قريب من صاحب القرار، أما صاحب القرار نفسه فقد حجب صريح الجهة عن أهل بيته ليطلقه في الوقت المناسب.

لا بد من توضيح الهدف ليكون الجميع على علم ودراية فيجهزوا أنفسهم لما يناسب . فرسول الله صلى الله عليه وسلم يجهز نفسه ويأمر المسلمين بالجهاز الحثيث والتهيؤ الجادّ، ويخبرهم بالهدف( فتح مكة ) ليكونوا على استعداد. ولا شك أن من حضر لقاء النبي صلى الله عليه وسلم بعمرو بن سالم التي استصرخ النبي لنصرة بني خزاعة وقوله ( نصرت يا عمرو بن سالم) يجعلهم متأهبين لتوقع الأمر بين لحظة وأخرى والتهيؤ النفسي له.

 لا بد من السِّرّيّة قدر الإمكان فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدد الجهة المرادَ غزوُها إلا بعد ان تجهز المسلمون وخرج بهم شمال المدينة المنوّرة يعمّي عن المنافقين الجهة التي يريدها – وهي مكة جنوب المدينة- فلا ينبهونهم ،فيفجأ قريشاً في عقر دارها غافلة عما يُراد لها فلا تستعد الاستعداد المطلوب فيكون دخولها أسهل وخسائر الطرفين أقل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يريد فتحها، لاتدميرَها وقتلَ أهلها، فهم أهله أولاً وفيها بيت الله ثانياً ولعل الله يشرح صدورهم للإسلام ثالثاً فيكونوا من جنوده الأوفياء.

 ويعلن القائد عن وجهته في جيشه بعيداً عن أعين الرقباء ثم يميل إلى الغرب قليلاً ثم إلى الجنوب قاصداً مكة. ثم يدعو الله تعالى أن تغفل قريش عن هذا المسير " اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها" . إن السريّة من أسباب النصر ، وقد علمنا رسولنا هذا في قوله: " استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان" .

ولا بد أولاً بعد هذا أن نتوكل على الله وان نستعينه ونستنصره فالأمور كلها بيده سبحانه ، وهو ناصر عباده على عدوّه وعدوّهم . لا شك أنّ على المرء أن يستعد للمعركة بما استطاع وأن يجِدّ في ذلك" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل..." لكننا نضع نصب أعيننا قوله تعالى" فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم ، وما رميت إذ رميتَ ولكنّ الله رمى.." وما نحن إلا أداة ظاهرة تتحرك من ورائها قوة الله تعالى ليحقق ما يشاء . وما أروع قول القاضي الفاضل في نصر المسلمين في فتح بيت المقدس بقيادة الناصر صلاح الدين الأيوبي" ينسب النصر لله تعالى: "الحمد لله الذي جعل نصره على أيدينا" .

 خلق الإنسان ضعيفاً ، قد يتصرف بما يضر وهو يظن أنه يُحسن صنعاً ، إن الصحابي حاطب بن أبي بلتعة كان من أهل بدر، وحضر كثيراً من الغزوات ، وكان رسولَ رسولِ الله إلى مقوقس مصر في السنة السادسة للهجرة ، وأحسن في سفارته هذه ، لكنّ ضعف الإنسان ( والإنسان خطّاء) قاده حين علم أن رسول الله يقصد مكة إلى إخبارهم بهدف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ ظاناً أنه يقدم يداً بيضاء إليهم يحفظونها له – وقد كانَ أحدَ مواليهم- دون أن يفشي سراً يقود إلى الخيانة ! . وخانه اجتهاده بأن الكافر لا يحفظ عهداً ولا ذمّة. والتاريخ على امتداده يضرب لنا أمثلة كثيرة في ذلك.

تصرّفٌ كهذا يتسحق صاحبه العقوبة الرادعة إن ثبتت خيانته، ويستحق عقوبة أخرى إن لم يكن يقصد الخيانة ، لكنّ ما فعله حاطب ليس بالأمر السهل، فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن ارتأى قتله جزاء وفاقاً ، لكنْ للقائد الواعي الحاذق بنتائج ما حصل والعالم بسيرة المخطئ- حاطب- يُقدّر الأمر ويحلل دوافعه، ويعفو إن رأى العفو ممكناً. شرط أن يوضح سبب العفو ودافع الشفقة.

كثيراً ما ردد رسول الله بحق أهل بدر" لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر ، فقال ‏:‏ اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم "‏.‏إنهم كانوا مقدّمة المجاهدين في معركة الإسلام الأولى فلهم من التكريم ما يغطي على أخطائهم ، ولعل استعادة الكتاب من المرأة أنهى القصة من جذورها ، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم رأى اعتراف الرجل بخطئه صادقاً فتجاوز عنه . فإذا قسنا أموراً مشابهة لهذا الخطأ فلا بأس أن يكون العفو سبيلنا إلى امتلاك قلوب الآخرين حين تسير الأمور على ما يرام .

أن تكون مع الله فقد أيقنتَ أن الله معك، وأنه سبحانه مؤيدك ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذ الأسباب ثم يتكل على رب الإسباب ويسأل الله أن يسدد خطاه ، والله تعالى مع عبده ييسر أمره ويعينُه في مهمّته ويفتح له مغاليق الأمور ويدفع عنه الضرر، وياخذ بيده إلى كل خير ، جبريلُ ينزل فيخبر رسول الله بأمر حاطب ،والمسلم حين يتقي الله يجعل له من أمره مخرجاً ويسدد خطاه ويحفظه من كل سوء.

عليٌّ رضي الله عنه مثال المسلم الواعي ينفذ المهمّة واثقاً بحكمة قائده وصدقه، يبحث عن الكتاب ، فلما لم يجده في أمتعتها – وقد جهد إذ دقق في البحث – يعلم أنها أخبأته في مكان حريز لا ينبغي للرجال ان يمسوه . فلما أيقنت أنّ عليها أن تظهره حين سمعت علياً يقسم بالله أن رسول الله لا يكذب وانه قد يتصرف بما لا تريد من كشفها أخرجت الكتاب من قرنيها.

للمرأة حرمتها في الإسلام وينبغي الحفاظ عليها ، وما نراه من انتهاك الأعراض وقتل النساء وقتل صغارهنّ في بلادنا الحبيبة المنكوبة انتقاماً من رجالهنّ الأحرار  دليلٌ على الكفر وانحطاط الأخلاق وفساد الدين. قد يتناسى المرء قتل الرجال وسلب الأموال وهدم الممتلكات ، لكنّه لا ينسى الاعتداء على الأعراض ولا يتناسى حوادث الشرف والاغتصاب، إن الشرف أغلى من كل هذه الممتلكات وأغلى من الروح وأعزُّ من الحياة.

ولعلك ترى علياً والزبير رضي الله عنهما يتنحّيان حين تطلب المرأة الكافرة منهما أن يبتعدا – وهي شريفة- لتظهر ذوائبها بعديداً عن أنظارهما فيجيبان طلبها، وهذا يعني الحفاظ على حرمتها وكرامتها ، غير أن أزلام الطغيان في بلادنا يفعلون فعل الشياطين ويمتهنون كرامة الإنسانية كلها ويدوسون على طهر المسلمات وعفافهنّ ويتبجحون بذلك إمعاناً في الظلم والإرهاب وإظهاراً لفساد الطوية وسوء النية .

إنّ الآيات التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة تعلمنا دروساً واقعية، وتزرع فينا معاني تربوية رائدة ،منها:

لا يجوز اتخاذ العدوّ وليّاً وصاحباً.

لا لقاء بين الكفر والإيمان في الدارين جميعاً.

مودةُ الكافر ضلال.

إذا تمكن العدو وسيطر فسيبدأ بمن والاه قبل الآخرين.