أتُراها كانت ليلة العمر؟

رشا السرميطي

كانت ليلة حارة، أثلجت لحظاتها بعضاً من نسائم الله الباردة، رحمة في العباد. وفي غفلة من غمض العين وإبصار القلب، تفتحت أرواح البشر هناك، واستيقظت الضَّمائر، تحوَّل الحرُّ إلى حرير ناعم لامس عمق الجسد، في مواقيت خاوية من الحديث إلاَّ ما فيه الرَّجاء من ربٍ حليم عظيم، قال في محكم التنزيل:  }وإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ{ البقرة آية (186)

اكتست الكلمات بالصَّمت والتَّأمل، عندما هلَّل المؤذن فوق قباب القدس قائلاً: صلُّوا على رسول الله.. الله أكبر. في القدس، اجتمع ملايين المسلمين والمسلمات، من كافة أرجاء فلسطين، تخطَّين الحواجز العسكرية، واخترقن جدار الفصل العنصري الذي أقامته سلطات الإحتلال الإسرائيلي منذ زمن. كان وجودنا أملاً في بلوغ ليلة القدر. تجلَّت قبة الصخرة الذَّهبيَّة كدرَّة نفيسة، امتدت خيوط الشمس عليها بألوان الزَّخارف الأموية، فكانت وردة زكيَّة. تبادر لذهني يوم الحساب، وكذا الثَّواب والعقاب، وامتدت جذور أفكاري إلى حيث السَّماء، فتساءلت: ترى هل يرفع الله لنا المسجد الأقصى والكعبة المشرفة إلى الجنة ! حتى ينال المحروم رجاءه يوم توفى كل نفس ما كسبت

اجتمعن العرائس في باحة قبة الصخرة المشرفة وترامت بعض منهنَّ كالجواري على أدراج المكان وممراته المتعدِّدة. أما العرسان، فقد عمَّروا باحة المسجد الأقصى، وانتشروا تحت ظلال الشَّجر

نأت المسافات بين جمهور الحاضرين، كانوا بانتظار الملك، أن يعقد القران، وتعتق الرِّقاب من لظى النيران، فيُتقبل العمل، ويُتَّوج الأمل بالجنان، رحمة من جود الحنَّان المنَّان

لم تخل الأمكنة من باعة للكعك والفلافل، ومشروبات الشهر الكريم: السوس، والخروب، والليمون، وكذا التمر الهندي. فتحوَّلت بعض الأماكن لسوقٍ تجارية، ومردُّ ذلك عائدٌ للضغوطات التي نعانيها إبَّان الخروج من أبواب المسجد الأقصى والرُّجوع آفلين إلى طريق عودتنا، إضافة للتعزيزات الإسرائيلية التي ملأت المكان في مثل هذا اليوم، رغم جمال المنظر والاكتظاظ، لكنَّه لم يرُق لي

هناك، وجدت الإناث المتزيِّنات بالعفّة، جئن يلبسن تاج وقار، وثيابهنَّ كانت ساترة، كالفراشات الطَّاهرة شاهدتُ أرواحهنَّ تطير ورحيق أحلامهنَّ البكر فاح شذيَّاً حولنا، وأعينهنَّ مليئة بالدُّموع تغرغرت تخشى من الله عدم القبول. كانوا يرجون الله بصلاتهنَّ ودعائهنَّ آناء السُّجود والرُّكوع، تارة أراهم للنوافل متهافتات، وتارة للقرآن مرتلات، ولا أجمل من شدوهنَّ: اللَّهم إنَّك عفو تحب العفو، فاعفو عنَّا يا كريم. ومن بينهنَّ وجدت الكاسيات السافرات، جئن لمناسبة دينية لكنَّها صارت عندهنَّ دنيوية - ليلة العمر – وملابس سريريَّة، ضاقت عليهنَّ عباءات الصلاة، وخصال الشعر خرجت من شالاتهنَّ مستهوية، هاوية إلى أخمص الفتن. كانت أعينهِّن دوائر شيطانيَّة محددة بألوان كثيرة، تلك تتمايل بكعوب أحذية مطرقعة، وتلك ترفع تنورة الصلاة لتظهر لنا تقوسات حالها المخيب، وكم عابني أن رأيت منهنَّ مَن جئن ملوَّنات أظافرهنَّ بالطِّلاء، حتى الشِّفاه ما سلمت من ريشات أفكارهنَّ المتكسِّرة، فوقفت حزينة أبكي وأبحث عن حظ رمضان في صيامهنَّ، وعن ليلة القدر مدعاة وجودهنَّ بيننا

وهناك أيضاً، وجدت فرسان الجنَّة، كانوا يلبسون الأثواب البيضاء ولِحاهم مطلقة، لم تكن غليظة ولا رقيقة، توسطٌ لطالما أحببته، بعضهنَّ يضع قبعة الحجاج على رأسه، والبعض جاء ملبيَّاً دعوة الله بملابس العمل. كانوا منهمكين في الصلاة وقراءة القرآن، وتجمعوا بحلقات دائريَّة يعظون بعضهم. وكما وجدت هؤلاء الأتقياء، رأت عيني بعضاً من رجالاتنا يحتاج عمراً ليكبر، أبصارهم شاخصة جائعة، وهم واقفون بين يدي الله، وعيونهم متجولة في خلق الله

وما إن وصلت سيارات الطَّعام من أهل الخير، حتى قامت القيامة! وأخذ الرِّجال والنِّساء يتهاجمون، وحشروا جميعاً يختصمون. أ لأجل قارورة ماء وبعضاً من العصائر وكعكة أم رز ولحم هذا النزاع الجائر! وأسفاً على شعب لن يحرر أرض القدس مادام جائعاً. ولم يتوقف الأمر عند إقتراب موعد الإفطار، وما إن رفع المؤذن صوت أذات المغرب، حتى بدأ الجميع فطورهم أمام جبال الطعام والشراب التي جاؤوا بها لقضاء هذه الليلة استمتاعاً بلذَّة الأكل والشرب في رحاب القدس وهوائها المقدَّس. وليت النهاية كانت أجمل، عندما رأيت النفايات قد نثرت رغم وجود سلات مخصصة لها، والأرض اتسخت ودورات المياه سدَّت. وأخيراً حذاء امرأة على رأسي خبطتْ – إثر نزاع نسائي حول فسحة لفرد سجادة الصلاة. وبأيِّ عين استطاعت أن تكمل صلاتها بين يديِّ الرحمن، والأخرى غادرت قائلة: حسبي الله

أتُراها كانت ليلة العمر، أم أنَّها ليلة خير من ألف شهر؟

وحده الملك يعلم