في شهر الهدى والنَّدى والفرقان

شريف قاسم

[email protected]

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ * أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)  183/187 / البقرة

حيَّاك اللهُ أمة الإسلام ، وأنت تستجيبين طاعةً لله رب العالمين ، تنشدين الرحمة والرضوان ، في ظلال هذا الشهر الأثير ، يقول الله سبحانه : ( وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ) 132/آل عمران ، ورضي عن أصحاب هذه الوجوهَ المشرقةَ بالوفاءِ وبالأمل وهي تأتي إلى بيوت الله تؤدي فرائض الإسلام ، وتستأنس بنسائم الغيب التي تبشر بالقبول ،، وهذه القلوبَ التي تنبضُ بحرارة الإيمان فسلمت من الأهواء ، وهذه الجموع التي تحتشد وقد اشرأبت أعناقها ورنت أعينُها إلى الأفق الأعلى  ، تناجي ربَّها ، وتسأله العفو والعافية والرضوان والفتح المبين ،  في هذا الشهر الذي يزخرُ بسيرةِ أمة أنعمَ اللهُ عليه بالمجدِ السابغِ ، والعزة والرفعة ، وبالانتصارات العظيمة التي تحققت بفضل اللهِ تعالى على مرِّ الحقب التاريخية ، وبفصول وأبواب التقوى التي جاء بمفاتيحها شهر رمضان الهدى ، يقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 183 / البقرة   حيث تتجددُ الهممُ ، ويتحفَّزُ أهل العزائمُ ليستثمروا مافي بساتين هذه الأيام المباركات ، والليالي المشرقات بالرحمة والقبول ... غفران ذنوبهم، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه ) متفق عليه .      وهكذا تستشعر الأمة من جديد أهمية حملها لرسالة الحق تبارك وتعالى لتبلغها للخلق أجمعين . فهي بلا ريب عليها قيادة العالَم المتخبط في الضلالات والمصالح الدنيوية الرخيصة ، لأن شريعة الله ما أنزلها الله إلا لإنقاذ البشرية التائهه في هذا العصر ، فهدفها واضح وسبيلها إليه أشدُّ وضوحا ، والعذابات التي تعتري المجاهدين والمنافحين عن هذا الدين لهي في أشدِّ حالات العذوبة  والأنس ، لأنها كانت لله الذي يصطفي الأخيار من خلقه ، ليدنيهم وليكونوا من المقربين عنده في جنَّات الخلود . ألم يقل مالك الملك جلَّ وعلا : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ... ) 69/العنكبوت .

لقد خلتْ أيامٌ كانت الأعباءُ فيها جسيمةً على الأمة ــ ولم تزل  ــ والمكابدةُ قاسيةً ــ ولم تزل ــ والراحة لم تجدْ لها مكانا في حياتها ــ ولم تزل ــ فلقد تداعى عليها المجرمون من كل حدب وصوب لإذلالها ، وإهانة أبنائها ، ونهب خيراتها ، ولكن آمالهم خابت ــ ولم تزل في خيبة وتبار ــ لأن قوة الأمة في إيمانها بالله ، وفي حبها لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وفي دينها القويم ، وفي شعائرها التي تجدد الأمل بالفتح والنصر بمشيئة الله تبارك وتعالى ،إن الأمة تنتصر إذا جدَّت في تقواها لله ، فما بالك إذا قامت ليلها تعبد ربها وتناجيه ، وصامت نهارها ابتغاء رضوان الله عزَّ وجلَّ ، وأقبلت على كتاب ربها تتلوه وتحكمه في حياتها كلها ، وهذا القيام والصيام والإقبال على القرآن العظيم هو القوة المكينة للمسلم وللأمة المسلمة ، وفيها بإذن الله أسباب الفوز في الدنيا والآخرة ،يقول  صلى الله عليه وسلم : ( الصيام والقرآن : يشفعان للعبد يوم القيامة ،
يقول الصيام : أي رب ، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه ) قال : ( فيشفعان ) .

ولذا نستذكر في هذه الأيام المباركات من  هذا الشهر المبارك ، شهر الفتوحات والانتصارات ، والبينات من الهدى والفرقان ، ونستذكر فيه جهاد النبيِّ صلى الله عليه وسلم لمناوئي الدعوة الإسلامية ، حيث أمره المولى تبارك وتعالى : ( ياأيها النبيُّ جاهد الكفار والمنافقين ، واغلظ عيهم ، ومأواهم جهنم وبئس المصير ) 73/ التوبة ، يومها استشعر جيل النبوة مكانة المجاهدين ، ومنازل الشهداء عند الله فآثروها على زينة الحياة الدنيا الفانية ، وكانوا من جنود الأفضلية الذين تقدموا الصفوف فاتحين لأرض الله ، هادين لعباده يقول عزَّ وجلَّ : ( فضَّل اللهُ المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ... ) 95/ النساء .

في هذا الشهر تصفَّد الشياطين ومردة الجن وتغلِق أبواب النار ، وفيه يرتفع صوت المنادي : يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة ، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : (إذا كان رمضان فُتِّحت أبواب الرحمة وغُلِّقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين ) ، والصوم لله وهو الذي يجزي به ، وهو الجواد الكريم  : ( إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) ، فأوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار  ، يتضاعف فيه الأجر ويجزل فيه الثواب ، وحسب شهر رمضان من الفضل والخير العميم أن فيه ليلة هي خير من ألف شهر ، ينزل جبريل فيها والملائكة بأمر ربهم من كل أمر سلام ، ومن صامه وقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. فطوبى لمَن يتعرض لنفحاته ، ويطلب الخير دهره ، ويسأل ربَّه النصر والتمكين ، فهو أيضا شهر الفتوحات التي نشرت رحمة الإسلام في ربوع الدنيا كلها . فغزوة  بدر الكبرى ،  وفتح مكة ومعركة عين جالوت وفتح القسطنطينية ومعركة اليرموك ... وغيرها من معارك تحرير البشرية من حكم الطواغيت ومن القوانين الأرضية العمياء ، وتلك المعارك وهاتيك الفتوحات التي بدَّلت حال الأمة ، وجعلتها خير أمة أُخرجت للناس . وجعلت النور  السماوي يملأ الصدور ، حيث قامت دولة الإسلام في النفس والبيت والحي ، ثم في أرجاء البلاد ، وحنايا قلوب العباد ، وزهدوا في دنيا الناس ، حتى أن أحد أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم رمى تمرات يأكل منهن قبل المعركة ، في حين يسمع أن مابينه وبين الجنة إلا أن يموت شهيدا ، فشعر بأن تلك اللحظات التي تبعده عن الجنة طويلة مديدة ، فرمى بالتمرات جانبا ، ونزل إلى ميدان المعركة ، فزفتْه الملائكة شهيدا إلى جنات النعيم .

    وها قد عادت جذوة الحق والقوة واليقين إلى أبناء الأمة ، وعاد شعور الأمة من جديد بأهمية وحتمية العودة إلى الله البارئ العليم ، وعاد أثر الصلاة والصيام في تقويم حياة المسلمين ، وعاد حب الموت في سبيل الله من أسمى الأمنيات الغاليات ، وهاهم شباب الإسلام يفدون دينهم وأمتهم بأرواحهم ، وبكل مايملكون من غال ونفيس . لقد حباهم ربُّهم سبحانه وتعالى بقوة الإيمان واليقين ،و بالحكمة ، والوعيِ بطبيعة الإيمان الحق ، فعلى منواله نسجوا  وعلى طريقه ساروا ، وبمنهجه عملوا ، فنهضوا بدورهم الرائد ، وراحوا ــ اليوم ــ يرسخون  أسباب النصر المؤزو بمشيئة الله ، معتمدين على الله جلَّ وعلا ، لا على قوى الشر والضلال والإلحاد ، فبارك الله بأبناء المسلمين على وفائهم وولائهم لدين ربِّهم ، وسُنَّة نبيِّهم صلى الله عليه وسلم . إنَّ قيم ديننا الإسلامي الحنيف لاتضاهيها أي قيم أخرى على وجه الأرض : (ومن أحسن من الله قيلا ) ، ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ، ولعل أفواج الشباب المؤمنين أيقظتهم مشاعر هم التي كانت مغيَّبةً ، فجمعتهم على كلمة الحق والجهاد ، ووحدت صفوفهم طاعة لله ، وانتصارا لدعوته مستجيبين لنداء الله سبحانه : ( وأطيعوا الله ورسوله ، ولا تنازعوا فتفشلوا ، وتذهب ريحكم ، واصبروا إنَّ الله مع الصابرين ) 46/ الأنفال .  ألا فَلْتُجدد الهممُ  القيمَ  ، وليقف كل مسلم على ثغر من ثغور الإسلام يحميه وينتصر له ، بكل مايملك من قدرات وطاقات ومواهب ، ليبقى المسلم رائدا لإعمار الأرض بالخير والسكينة ، ويقدم للبشرية من جديد ما افتقدته على أيدي طغاة الأرض المجرين من الإنجاز والتطوير ، وليبقى رسول والطمأنينة إلى أهل الأرض . 

في شهر الهدى والندى والفرقان تقوى  شوكةُ العملِ الذي يرضاه الله ، متمثلا في أنواع العبادات التي يؤديها المسلم والمسلمة في هذا الشهر الكريم ، حيث يتلمس كل منهما طريق الفوز والنجاح ،  ويرصد طاقاته في السعي الحثيث للوصول إلى الهدف الأعلى ، حيث عزُّه في الدنيا ، وجنَّة ربه في الآخرة ، وهذا هو التفاعل الإيجابي الذي به تبدأ عملية التغيير ، والسعي شطر ماتتوق إليه الأنفس الطاهرات من رضوان الله . ومن هنا يبدأ المسلم في تطوير ذاته ، والرقي بنفسه ، فينأى عن المحرمات والشبهات ، ويقف عند حدود ما أنزل الله وأراد سبحانه وتعالى ، ليكون من أهل الفلاح والفوز ، يقول جلَّ وعلا : ( إنما كان قول المؤمنين إذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ، أن يقولوا : سمعنا وأطعنا ، وأولئك هم المفلحون ) 51/ النور . فللمسلم أسوة حسنة بنبيِّه الحبيب صلى الله عليه وسلم في عبادته وأخلاقه وجهاده ، وفي مزاياه وسجاياه ، وفي كل شؤون حياته ، وللمسلم في سيرة الأصحاب والتابعين دروس وعبر ... ألا فلينزع إلى النبع الزاخر المدرار  الذي يروي ظمأه في البحث عن أسباب الوصول والقرب من الله ، ويبتعد عن أوهام الرهبانية التي تُفقده القوة والعزة والدعوة إلى الله ، بل ربما تودي به إلى إغفال حق الله عليه في إعمار الأرض التي خلقه فيها لإعمارها ،  فالمسلم ترجمان القرآن والسُّنة في أقواله وأفعاله ، وفي رقة نفسه وتواضعه ، وفي غضبه إذا انتُهكت محارم الله ، وفي شجاعته وفروسيته في ساحات الجهاد ، وهكذا يرتقي المسلم بنيته وبمقاصده وتطلعاته ، فلا يضعف ولا يستكين أمام طغيان الشهوة ، ولا يذل أمام عنفوان الفراعنة الظالمين ، لأنه بنى نفسه على دعائم راسخة من الوعي والصبر واليقين والسمو ، وكلها من آثار الصوم وهو رُكنٌ من أركان حقيقة الإخلاص: ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) 5/ البينة