الدعاء والبلاء ونصر الله 6

مجاهد مأمون ديرانية

الدعاء والبلاء ونصر الله

(الحلقة السادسة)

مجاهد مأمون ديرانية

إن من أعظم ما يترتب على تأخير النصر وتأجيل إجابة الدعاء زيادة البلاء. ألا ترون كيف تكبر المعاناة يوماً بعد يوم وكيف تزداد الجراح والآلام؟ بلى، ولكن أليس هذا هو تماماً ما أخبر الله به عباده المؤمنين: {أحَسِبَ الناس أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتَنون؟}، {ولنبلُوَنّكم حتى نعلمَ المجاهدين منكم والصابرين}، {ولنبلُوَنكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات}؟

الآيات السابقة (وغيرها كثير) أخبرتنا بأن الله قرر أن يبتلي عباده -في الحياة الدنيا- بأنواع البلاء، ثم عَلِمنا مما خبّرنا به رسولنا الكريم الصادق الأمين أن الابتلاء علامة من علامات محبة الله للعبد، أليس يقول: "إذا أحب الله عبداً ابتلاه"؟ هذا الحديث في سنده ضعف، لكن المعنى صحيح، وقد ورد معناه في حديث البخاري عن أبي هريرة: "من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه". بل إن زيادة المحبة تقتضي زيادة البلاء، ففي حديث سعد المشهور: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ فقال: "الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل؛ يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقّة ابتُلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة".

قرأت هذه الأحاديث من صغري وقرأت قصص الأنبياء فعلمت أن ابتلاء الله لعبده يتناسب طردياً مع محبته له (كما يقال في قوانين الفيزياء)، ولكنْ بقي في نفسي شيء، فكنت أتألم كثيراً كلما رأيت آلام الناس وابتلاء الله لهم بالمرض والفقر وأنواع المآسي والمِحَن، ولم يسعني إلا أن أسأل: لماذا يا ربّ؟ كيف تحبّ إنساناً ثم تسبب له الألم؟ أنا لو أحببت أحداً لتمنيت أن أسعده وأن أرفع عنه كل هم وبلاء، فكيف أسبب له الهم والبلاء بيدي؟ لا يكاد هذا وهذا يَتّسقان، فإما حب وسلامة أو بغض وابتلاء.

وأنا من شأني أن ألحّ على نفسي بالتفكير كلما عرض لي تساؤل من هذا النوع، وأتوجه إلى الله بالدعاء الصادق فأطلب منه أن يريني الحق. أليس هذا ما يدعوه الإمام كل جمعة على المنبر: اللهمّ أرِنا الحق حقاً وارزقنا اتّباعه؟ وماذا نقول إذا وقفنا بين يدي الله كل يوم، نكررها عشرين مرة أو نحوها (على الأقل)، مرة في كل ركعة من ركعات الصلاة؟ ألسنا ندعو: {اهدِنا الصراط المستقيم}؟ أيدعو بهذا الدعاء بوذي أو يهودي؟ أيدعوه ضال ضائع؟ إنما يدعوه مسلم مؤمن قائم يصلي بين يدي الله. إن الهداية عملية مستمرة متجددة، ولولا ذلك لصار المسلم من الذين قالوا "إنّا وجدنا آباءنا"، ولَعمري إن من وجد أباه مسلماً فصار مسلماً ولم يهدِه عقلُه إلى دينه لا يكاد يكون مسلماً حقاً!

وقد وجدت جواب سؤالي من بعد، فارتحت واطمأننت وصرت كلما ابتُليت شكرت فقلت: "شكراً يا ربي شكراً، إنك تحبني". فماذا كان الجواب الذي وجدت؟

*   *   *

سأحدثكم أولاً بسرّ من أسراري لا تخبروا به أولادكم: إني ما أحببت المدرسة قط، ولو سألتموني لقلت إنها كانت أسوأ أيام حياتي التي لا أحب أن أعود إليها. إني لأذكر أشباح ذكريات باهتة تتراءى لي من وراء حجاب إحدى وخمسين سنة، يوم أخذني أبي ولمّا أتمّ الرابعة، فأسلمني إلى "ديوان التفتيش" ثم مضى. لا، لم تكن مدرستي كالكُتّاب الذي وصفه جدي رحمه الله ولم ينسَ يومَه الأسود فيه بعد سبعين سنة وبعد ثمانين! لقد كانت جنة بالنسبة إلى ذلك الكتّاب المخيف، ولكن المدرسة تبقى مدرسة!

كأني أرى بعين الخيال فصلاً فيه عشرون طفلاً قد احتشدوا وراء الباب وليس يصدر عنهم إلا واحد من ثلاثة أصوات: صراخ أو عويل أو نحيب. فأغلقت المعلّمة الباب ودفعت الطاولة عليه فسَدّت بها الطريق إلى الحرية، ثم جلست فوقها تأمر وتنهى، تأمر بالسكوت وتنهى عن الضجيج! ولا تسألوني كيف انقضى النهار فإني ما عدت أذكر، لكن اسألوني عن خمسَ عشرةَ سنة تلت أقُلْ لكم إنها كانت بين يومين: يوم بؤس هو يوم الدوام ويوم نعيم هو يوم العطلة، ولقد أحببت الصيف والعيدين لأنهما أبعداني عن المدرسة، وأحببت الشجرة والعمّال والمولد النبوي لأنهم منحونا عطلة في أيام كرّسوها للاحتفال بها.

حسناً، أمَا وقد عانيت من المدرسة تلك المعاناة (ولا أدري من يوافقني ومن يخالفني، لعل جمهور الرجال يوافق وجمهور السيدات يخالف) ثم كبرت وتزوجت ورزقني الله أولاداً أحببتهم كأكثر ما يحب أبٌ أولادَه، فلماذا قذفتهم في المدرسة التي كرهت؟ هنا بيت القصيد، فتأملوا: لو أن الولد من الأولاد تنتهي حياته بتخرجه في المدرسة لكان ذهابه إليها عبثاً وعذاباً لا جدوى منه. ولكن الحقيقة التي يعلمها كل أب عاقل هي أن حياة ولده تبدأ بعد الانتهاء من الدراسة، فالمدرسة تُسْلمه إلى الجامعة، والجامعةُ إلى الوظيفة، فيعمل ويتكسب ويتزوج ويبني أسرة يُمضي معها ما بقي من عمره. وإنّ كل أب عاقل لَيعلم أن ما يبذله الولد من جهد في مرحلة الدراسة ينقلب عليه خيراً، وكلما تعب في بضع عشرة سنة ارتاح وتنَعّم في ستين سنة لاحقة أو سبعين.

نعم، أنا الذي لم أحب المدرسة قط دفعت إليها أولادي وحَمَلتهم على الذهاب إليها -كارهين- سنة بعد سنة، لأني علمت أن بعد الكراهة والتعب في تلك السنوات المعدودات راحةً طويلة، كما علمت أن بعد راحتها تعباً طويلاً؛ فمَن لعب وضيّع تلك السنوات أوشك أن يدفع الثمن أضعافاً وأضعافاً حينما يكبر فلا يجد الوظيفة الجيدة ولا يكسب الكسب الكافي لمواجهة أعباء الحياة، ومن جَدّ فيها أنسَتْه بعدَها مرارتَها حلاوةُ النجاح.

*   *   *

هذه هي الحكاية وهذا هو السر. لا يستطيع أحد أن يدرك معنى البلاء إذا قَصَر نظره على الحياة الدنيا، وسوف يفهمه تماماً إذا مدّ البصر ليرى مراحل الحياة اللاحقة: البرزخ الذي تنتقل إليه النفوس بعد مفارقة الحياة الدنيا، ومن ورائه الحياة الباقية في الآخرة. هذه كلها حياة، إلا أن المرحلة التي نعيشها الآن هي أدناها (الدنيا)، وما بعدها هي الوسطى، ثم الحياة العليا في الآخرة الباقية. هذا كله معلوم يعرفه كل واحد ولا آتي بجديد إذا ذكرته الآن، فما الفكرة التي أريد توصيلها إذن؟ هي أن المرء عندما يرى تلك المراحل كلها رحلة متصلة لن يحزنه أي نقص في واحدة منها إذا أيقن أنه يُعوَّضه في المرحلة التالية. ولأضرب مثالاً صغيراً:

لو أن لي ولدين أردت أن أرسلهما في رحلة إلى تركيا فإنني أستطيع أن أحجز لهما بالحافلة أو بالطيارة، وأنا أعلم أن الذين يسافرون من حيث أقيم في جدة إلى إسطنبول يقطعون الطريق براً بالحافلات أو جوّاً بالطيارات، الأوّلون يمكثون في الحافلة ستاً وثلاثين ساعة فينالهم الكثير من التعب والملل والآخرون يقفزون بالطيارة فيقطعون المسافة في ثلاث ساعات، يمضونهما على المقاعد المريحة في الطيارة المكيَّفة يأكلون الطعام الحار الشهي ويشربون ما يشتهون من القهوة والشاي وأنواع العصير. لو أني حجزت لأحد الولدين بالحافلة وللثاني بالطيارة لم أكن عادلاً، ولكن ماذا لو عوّضت وعدّلت الميزان في بلد الوصول، فأسكنت الأول في فندق فخم يطلّ على البوسفور ويقدم أحسن الطعام في وقته، ثلاثَ وجبات كل يوم، وأسكنت الثاني في فندق متواضع في أحد أزقة المدينة القديمة لا يقدم من الطعام سوى إفطار يتكون من الجبن والزيتون؟ ألن يتمنى الأول -عندئذ- لو أنه حُرم من الراحة في رحلة الانتقال ليستمتع بالنعيم في الشهر الذي سيمضيه هناك؟

يا أيها الناس: أنا لا أخبركم بما لا تعلمون، كل هذا تعرفونه أحسن مما أعرفه وتستطيعون كتابته أفضل مما كتبته، إنما أتمنى أن تفكروا كما فكرت وأن تصلوا إلى النتيجة التي إليها وصلت: لا تفكروا أبداً في الحياة الدنيا على أنها وَحدة منفصلة مستقلة عمّا بعدها، لأنكم لو فعلتم فسوف يحبطكم ما فيها من نقص وظلم وابتلاء. كم من فقير تمنى أن يكون له من المال ما للأغنياء وسأل: لماذا أعطيتهم وحرمتني يا رب؟ كم من مريض أمضّه المرض نظر إلى الأصحّاء وسأل: لماذا عافيتهم وأمرضتني يا رب؟ كم من مظلوم شاهد ظالمه ينجو من العقاب وسأل: لماذا أنجيته من العقاب يا رب؟ الجواب سهل قريب لمن أراد أن يراه: ما فاتك من خير في هذه الدنيا -يا أيها المحروم- ستجد العِوَض عنه في الجزء الباقي الطويل من الحياة، أما الظالم فإنه ما نجا من العقاب هنا إلا ليلقاه مضاعفاً الأضعافَ المضاعفة هناك.

كلما زاد تعبنا في هذه الحياة كنا أقرب إلى الراحة بعدها، وكل درهم شقاء في الحياة هو قنطار سعادة فيما بعدها. إن الدنيا دار ابتلاء، والابتلاء -في اللغة- هو الاختبار وهو الامتحان. هل يكون امتحان بلا أسئلة ودراسة وتعب وعناء وكأداء؟ والامتحانات أنواع: امتحان صغير يصلح لتلميذ الابتدائية ينال به عشر درجات، وامتحان كبير عصيب لطالب الجامعة يحمل به الشهادة العالية التي تفتح له أبواب الحياة. فمن ابتُلي في هذه الدنيا البلاء الهيّن لم يخرج إلا بالنتيجة الهزيلة الضئيلة، ومن ابتلي البلاء الكبير (وصبر وشكر) خرج بالجزاء العظيم. هذا هو قانون الامتحان: {الذي خلق الموت والحياة ليَبلُوَكم أيكم أحسنُ عملاً}. وإلا فكيف يتفاضل في الآخرة المتفاضلون؟ وكيف يستحق الأول الدرجات العاليات في جنات النعيم ولا يكاد الآخر يظفر بمقعد عند الباب؟

*   *   *

يا أهل الشقاء والبلاء في هذه الدنيا الفانية: ألا تؤمنون بعدل الله؟ لن يجمع الله عليكم شقاءين ولن يحرمكم من راحتين بإذنه تعالى، فلئن شقيتم هنا لترتاحُنّ هناك، وما حُرمتم هنا من طيبات إلا وجدتم هناك أضعافها من الطيبات.

وما هناك؟ هل هو بعيد بعد الأبد؟ لا يا أيها المؤمنون، إنما هو وراء باب الموت. نعم، إن النعيم العظيم هو في دار البقاء في جنات الخلود، ولكن ماذا نحن صانعون حتى ذلك الحين؟ أين نذهب وأين نقيم؟ هل نفنى وننقطع عن الوجود؟ إذا متنا تلقفتنا ملائكة النعيم ثم انتقلنا إلى دار الانتظار، البرزخ، فمن كان من أهل اليمين فُرش له من الجنة وفُتح له باب إلى الجنة فيأتيه من رَوْحها (أي يصله نسيمٌ من نسيم الجنة) وطيبها ويُفسَح له في قبره مَدّ بصره، ومن كان من أهل اليسار فُرش من النار وفُتح له باب إلى النار فيأتيه من حرّها وسَمومها ويضيّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه (كما جاء في حديث البراء بن عازب، وصحّحه الألباني  في شرح الطحاوية وفي صحيح الترغيب).

يا أم الشهيد ويا أبا الشهيد اسمعا: كم عانى ابنكما من العذاب حتى مات في أيدي الظالمين؟ يوماً أو عشرة أو عشرين؟ إنه اليوم على بساط النعيم، وإن قاتله لَتَسُمّه سَموم الجحيم من يوم موته إلى يوم يُنفَخ في الصور. يا أيها المحزونون في هذه الدنيا، يا من طال عليهم الكرب وتباعد الفرج، يا من تَدْعون وتستبطئون الإجابة، يا من دعوتم ولم يتحقق الدعاء: إنكم ما حُرمتم خيراً هنا إلا نلتم أضعافه هناك؛ عمّا قريب تجدون العوض من كل نقص وحرمان، عَمّا قريب ينتصف المظلومون من الظالمين.