رحلة الأرض والسماء

رحلة الأرض والسماء

هائل الصرمي

كان العام كئيبا حزينا !! لحزن المصطفى صلى الله عليه وسلم وسمي عام الحزن , كيف لا, وقد اختطف الموت أعز حبيبين لرسول الله (ص) وأعظم نصيرين لدعوته , وهما عمه أبو طالب وزوجته خديجة...وتضاعف حزنه خشية على الدعوة وهو يرى قريش تتربص به وبالثلة المؤمنة , كانت أسوار أبي طالب , وحصون خديجة تمنعهم عنه , يا لشدة حزنه!! لقد أضيف إلى همه وحرصه على توسعة الدعوة خوفه على نواتها التي تكونت بشق الأنفس, أيعود إلى الصفر وتجهض دعوته, وتموت بذرته , ويستمر الطغيان والظلم والفساد ولا يعبد الله على ظهر الأرض ..

 لقد لاذ بربه يدعوه بأن يهيئ له ناصرا , ويسهل له سبيلاً , تحفظ فيه دعوته , وتنمو فيه بذرته , ويتكاثر زرعه , كي ينقذ قومه من براكين الضلال وأوحال الظلام.

 انفتحت له فكرة الرحيل إلى الطائف لعل الله أن يفتح قلوب أهلها له ويشرح صدورهم لدينه , فيكونون عونا لنصرته وتكون الطائف محضنا لدعوته , فكان هذا أمله للخروج مما ألم به , وأطمع أعداءه فيه , لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ,أراد الله أن يمحصه ويبتليه , فالأنبياء أشد الناس بلاء والمرء يبتلى على قدر دينه ,فقد سخرَ منه أهل الطائف وآذوه إيذاء شديداً...فعاد على وجهه هائما لا يتبين طريقه.

 لقد غضبت السماء لما أصابه( ص) ونزل ملك السماء يريد أن يطبق عليهم الأخشبين وهنا تتجلى عظمة النبوة , فمع ما أصابه (ص) , لكنه كان من فيض رحمته خائفا أن يصيبهم الله بعقابه , ويعمهم بعذابه , فكان يدعو ربه: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون , ويمنع عنهم السوء وهو يقول: لعلَّ الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله , أي عظمة كهاذه العظمة , ما من نبي إلا دعا على قومه بعد أن آذوه وصدوا عنه , إلا رسول الله (ص) لتمثل الكمال البشري فيه , والمثالية العظمى في أخلاقه , ومن هنا استحق أن يكون إمامة المرسلين وسيد النبيين وأكمل الخلق أجمعين.

 عاد مثقل الخطى يتلمس الطريق , كما يتلمس الغريب موطئ خطاه , ولم يتنبه إلا وهو في قرن المنازل , متألما على القلوب التي تعمى عن الحق الأبلج!! وتعرض عن الطريق المستقيم , لتتعرج في منحنيات الضلال ومزالق الغي!!.

 هرع إلى ربه خاشعا متبتلا يشكو له بدعاء خاشع واجف تذوب منه الصخور ويخشع لجلاله الشعور.

 أجاب الله دعاءه , وحقق له آماله بأكثر مما كان يرجو ويؤمل , حيث ساق الله إليه نفراً من الجن يستمعون القرآن , وبعد استماعهم عادوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين , فأسلمت أمة من الجن , وكأن إسلامهم بديلٌ لإعراض الإنس.. فتلك هي ثمرة الرحلة ؛ لتمضي السنة كما يشاء الله... فالعبد يريد والله يفعل ما يريد , حتى مع الأنبياء والرسل لا تتخطاهم السنن , فالله يحقق لهم ما يأملون بالطريقة التي يريدها هو , فبيده وحدهُ ـ عزَّ شأنه ـ مقاليد السماوات والأرض وهو على كل شيءٍ قدير !!.

 فالأنبياء أكثر الناس عناء وأشدهم بلاء , وبالمقابل فهم أعلاهم همة وأصدقهم وجهة, يمتلكون ذروة نبل البشر, فيجري عليهم ما يجري على البشر؛ ليتحقق الابتلاء في ذروته وتتجسد العصمة لهم بنجاحهم فيه , فهم معصومون بما يمتلكونه من عناصر النبل وقوة التزكية التي تمنع الإخفاق أن يتسلل إليهم أو ينال منهم, تلك هي عصمتهم ؛ لا كما يتخيل البعض أنهم معصومون بغير بلاء, فما قيمة تفوقهم , إن كانت المحن والشدائد لا تنالهم؟!! .

بل ينالهم أشد مما ينال غيرهم , لذلك لا غرابة أن تسير الأقدار أحيانا مخالفة لرغبتهم. (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً)(93)الإسراء.

 عاد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد خفف إسلام نفر من الجن بعض ما ألم به, لكن الذي أثقل خطاه وأحزنه لم يزل جاثما على صدره , يعاني منه ولن يهدأ له بالٌ حتى يجد له مخرجا وينجح فيه أو يهلك دونه .!!

 دخل مكة في جيرة المطعم بن عدي مضطرا لحفظ بيضة الدعوة , فهو يعلم أن قريشا لن تتركه خصوصا بعد رحلته هذه وسرعان ما رد له جواره عندما رأى أصحابه يعذبون وهو في جوار المطعم , فآثر أن يكون مع أصحابه يناله ما ينالهم .

 لم ينفك من مخالب الحزن التي تكالبت عليه , حتى هبت ليلة الإسراء والمعراج كما يهب الفجر ليمحو بنوره سواد الليل الكئيب , كي يشرق بالبشر والسرور أطهر قلب عرفته البشرية.

 ها هي السماء تستقبله بحفاوة شديدة بعد أن جفاه أهل الأرض...لقد عرَّفته حادثة الإسراء والمعراج بقدره ومكانته , فقد أمَّ بالأنبياء وصلى بهم في المسجد الأقصى, فكانت بشرى عظيمة وهدية كريمة , و لم تقف البشارات والتسرية عند هذا الحد بل امتدت فوق ما يتخيل المتخيلون , في معراج إلى السماء لم يحدث لأحد قبل رسول الله (ص) ولن يحدث لأحد بعده , وكان فيه من آيات الله الكبرى ما يعجز الوصف عن تتبعه وإحصائه , حتى بلغ سدرة المنتهى وكلم ربه تكليما.

 يا ليلةً يَجْلو الظلامَ نورُهَا في آيةٍ معجزةٍ فريدهْ ... بنور طهَ أشرقتْ خالدة مجيدهْ حكايةٌ قديمةٌ لكنها جَديدهْ .. كطائرٍ مغردٍ أو طفلةٍ سعيدَهْ .. تمنحنا روحَ الصفاءِ دائماً أنسامها الوليدهْ ... يا قصةً يضوِّعُ الخشوعُ عِطرَ زهرها لكي تسرِّي سيدي في المحنةِ الشديدهْ...إليكَ تشدو أحرفي يا سيدي في حلةٍ جَدِيدهْ.

كنت الرحلة الأرضية إلى المسجد الأقصى ومنه انطلقت الرحلة السماوية وأعرج به (ص) لتبين أهمية المسجد في ربطه الأرض بالسماء فهو حلقة الوصل بينهما , وتبين وحدة الرسالات , وعالمية الإسلام ونسخه لكافة الشرائع السابقة , وذلك بإمامته (ص) للأنبياء.

وبدأت مرحلة التحول في رحلة السماء وشرعت الصلاة , فكل الفرائض شرعت في الأرض إلا فريضة الصلاة فقد شُرعت في السماء لأهميتها , لقد تميزتْ ؛ لأنها معراج كل مسلم تعرج به؛ ليتصل بالسماء مباشرة بدون وسائط في كل أحواله , فتكون وقاية له من الحزن والهم , وبريدا له إلى آفاق الأنس ومدن السعادة.

كانت رحلة الإسراء والمعراج رحلة تغير كلية, بل كأنها رحلة تحكي قصة الحياة في أعمار البشرية , التي تمضي مبحرة تخترق الأقدار إلى غايتها لتختم انتقالهم من دار البلاء إلى دار الجزاء , لا انفكاك منها ولا مناص.

 لقد ارتوى صلى الله عليه وسلم في رحلته من معين ربه , وتضلع وعاد مطمئناً على دعوته وأصحابه بعد أن فتحت له بعض أبواب الغيب , ورأى برهان ربه بكلتا عينيه , و مَدَّت الآفاق أذرعها , وفتحت السبل أكفها , لقد عاد محملا بهدايا كثيرة , أهمها هدية ربه وهي الصلاة , وهدية موسى , ثم هدية خليل الله إبراهيم , حيث قال يا محمد:" أقرئ أمتك منى السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر".[1]

أنىَّ لنا ثم أنىَّ لنا بأن نحصي عبر هذه الحادثة , وفضائلها ,هذا غيض من فيض لا ينضب معينها ولا تنتهي عبرها كلما تأملها المتأملون تمنحهم من سندسها أثوابا جديد وقلائد فريدة.

يا ليلة الأسراءِ والمعراج تسري كوثراً بذكر سيد الندى تعطرُ البشرْ

وتجعلُ الحياةَ أبهى قصةٍ وتنفضُ الكدر...ْمسراكمُ يا سيدي يفيضُ نهرَ رحمةٍ

يُجدِّدُ الحياةَ للقلوبِ ينثرُ العبرْ ...لأنَ إسراءَكَ يحكي قصةَ الحياةِ

حين تعبرُ الأرواحُ دربَ عمرنا ويخلدُ الأثرْ ..لأن معراجَكَ يتلو قصةَ التغييرِ حين يمتطي الضياءُ قلبَ من صبرْ ...يا منحةَ السُّجودِ والركُّوعِ

يا ليلة بنا تمرُ هاهنا بنفح طيب أصدق البشر

 [1] حديث حسن غريب، خرجه الماوردي