تأملات في القران الكريم ح32

سورة البقرة

حيدر الحدراوي

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{278}

طالب بعض الصحابة بمستحقات ربا كانت لهم  قبل تحريم الربا , فخاطبتهم الاية الكريمة بشكل مباشر ووضعت لهم شرطين مقابل الايمان (  إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) :

1-  اتَّقُواْ اللّهَ ) .

2-  وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)

يلاحظ المتأمل ان هذه الاية الكريمة ليست محصورة في ذلك الزمن ( سبب النزول ) , بل تطلق وتعمّ كافة الازمان .

فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ{279}

يستمر الخطاب الموجه للمخاطبين في الاية الكريمة السابقة , وتخيرهم بين امرين :

1-  بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) : في حين استمروا بالمطالبة بأموال الربا .

2-  وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ) : اما عند التوبة فتحفظ الاية الكريمة حقهم في رؤوس اموالهم , حيث :

أ‌)       لاَ تَظْلِمُونَ ) : لا يقع الظلم منكم على احد .

ب‌)  وَلاَ تُظْلَمُونَ ) : لا يقع الظلم عليكم من قبل احد .     

وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{280}

اما اذا كان المدين يعجز عن السداد , فتقترح هذه الاية الكريمة على صاحب الحق امرين :

1-  فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ) : حيث يمهل الى حين تمكنه من سداد ما بذمته .

2-  وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) : او ان يتصدق صاحب الحق بما له على ذمة الفقير , كله او جزءا منه , فأن في الصدقة الخير الكثير , وفي هذا النص تفضيلا للصدقة على استيفاء المال من المدين الفقير.    

يلاحظ المتأمل في هذه الاية الكريمة , مناصرتها للفقير العاجز عن سداد ديونه , فطالبت له من الدائن امرين ( المهلة – الصدقة ) , وتوعدت صاحب الحق بالخير ان تصدق بماله من ديون على ذلك الفقير ! .

وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ{281}

الاية الكريمة في محل تذكيرا ليوم القيامة , وما سيجري فيه (  ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) , تحقيق العدالة الإلهية ! .  

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{282}

الاية الكريمة والخطاب الرباني المباشر في مورد حفظ  حق الدائن , فبعد ان طالبت الايات الكريمة السابقة بالتسامح مع المدين الفقير , العاجز عن السداد , جاءت هذه الاية الكريمة بحفظ مال الدائن بالصورة التي فصلتها  ! .

يلاحظ المتأمل , ان القرآن الكريم يناصر الفقراء و يطالب بحقوقهم , وفي الوقت نفسه , يحافظ على اموال الاغنياء , ويحميها من التلف والضياع ! .

وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ{283}

الاية الكريمة السابقة ضمنت الحق في حال الحضر , اما هذه الاية الكريمة تضمن الحق في حالة السفر .

يلاحظ المتأمل , التأكيد على حفظ الحق , وفي ذلك رسالة واضحة الى جميع الاطراف المعنية بأعادة الحقوق الى اصحابها ! . 

لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{284}

تشير الاية الكريمة الى عدة امور , نذكر منها :

1-  لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ): ان كل الموجودات هي ملك لله جل وعلا .

2-  وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ ) : بما ان الله جل وعلا المالك لكل الموجودات , فأنه عليم بكل ما ظهر منها وما بطن فيها , ومن ذلك ما يخفيه الانسان في قلبه ( حديث النفس – خواطر ... الخ ) , اجمع الفقهاء على ان الله عز وجل لا يحاسب على ما يضمره الانسان في قلبه ما لم يبادر الى فعل او قول ! , وفقا الى مضامين معينة , فيلاحظ المتأمل ان الله جل وعلا يأمر بأصلاح وتطهير بواطن و خفايا النفوس  .

3-  وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) : بعد ان اشارت الاية الكريمة الى الملكية المطلقة والعلم التام لله تعالى , تثبت بالنتيجة قدرته عز وجل على كل شيء .        

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ{285}

تؤكد الاية الكريمة , ان الرسول (ص) قد امن بما انزل اليه من الله عز وجل , وتبعه المؤمنون على ذلك , حيث انهم قد امنوا بــ :

1-  آمَنَ بِاللّهِ ) : حيث امنوا بالله عز وجل ربا متصفا بصفات الجلال والكمال .

2-  (وَمَلآئِكَتِهِ ) : حيث انهم عباد مكرمون , يفعلون ما يؤمرون , ولا يعصون لله تعالى طرفة عين.

3-  وَكُتُبِهِ ) : حيث سلموا بجميع الكتب المنزلة من قبله عز وجل على رسله , وقيل انها 104 كتابا منها التوراة والانجيل والزبور والقرآن الكريم .... الخ .

4-  ( وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ) : حيث امنوا وسلموا بجميع الانبياء والمرسلين من قبله عز وجل , لا كما ذهب اليه اليهود والنصارى , حيث قالوا نؤمن ببعض الرسل , ونكفر ببعض الرسل .

ثم انهم قالوا :

1-  ( سَمِعْنَا ) : يحتمل معنين :

أ‌)       سماع الجارحة .

ب‌)  القبول والتسليم .

2-  ( وَأَطَعْنَا ) : الطاعة لاوامره عز وجل , من حيث اداء الواجب , واجتناب المحرم .

3-  غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ) : طلب المغفرة منه عز وجل , ويحتمل امرين :

أ‌)       طلب المغفرة بشكل مباشر منه عز وجل .

ب‌)  طلب المغفرة بشكل مباشر مع وجود الوسيلة والشفاعة المتمثلة بحضور النبي محمد (ص) معهم , حيث هذا لا ينافي طلب المغفرة منه عز وجل عند ضريحه (ص) وعند اضرحه اولياء الله الصالحين , كونهم في محل الغائب في زماننا هذا .

4-  وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) : حيث يعود كل شيء الى الله عز وجل يوم القيامة , المصير الموعود !.

لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ{286}

المتأمل في هذه الاية الكريمة يلاحظ :

1-  ان الله عز وجل لا يحمل الانسان ما لا طاقة له به , حيث ان لكل شخص طاقة وقدرة على التحمل تختلف عن غيره , وهذا من لطائف دين الله عز وجل ( الاسلام ) .

2-  في الاية الكريمة وردت جملة من الادعية , وكما يلي :

أ‌)       رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) : حيث ان الانسان كثير النسيان والاخطاء , فيسأل الانسان ربه عز وجل ان يسدده .

ب‌)  رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ) : ينبغي للمؤمن ان يسأل الله عز وجل ان يخفف عليه في اداء الواجبات المفروضة , كما هو الحال عند بني اسرائيل , حيث فرض الله تعالى عليهم فروضا قاسي , من قبيل قتل النفس في التوبة , واخراج ربع المال كزكاة , وقرض موضع النجاسة .

ت‌)  رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) : من اداء واجبات , واجتناب محرمات .

ث‌)  وَاعْفُ عَنَّا ) : طلب الصفح منه عز وجل .

ج‌)    وَاغْفِرْ لَنَا ) : طلب المغفرة .

ح‌)    وَارْحَمْنَا ) : يسأل المؤمن الله عز وجل ان يشمله برحمته الرحمانية والرحيمية .

خ‌)    أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) : ينبغي للمؤمن ان يعترف لله عز وجل بتولي امره كلها , و يسأله النصر على الاعداء , بالحجة والغلبة في القتال .