مع أمير المؤمنين عليّ

مع أمير المؤمنين عليّ

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

جاء رجل الي امير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجه:

فقال اني سائلك عن أربع فاجبني

ما الواجب وما الأوجب؟

وما القريب وماالأقرب؟

وما الصعب وما الأصعب؟

وما العجيب وما الأعجب؟

فأجاب رضي الله عنه قائلاً:

أما الواجب فطاعة الخالق ،والأوجب ترك المعاصي.

وأما القريب فيوم القيامه، والأقربُ الموتُ.

وأما الصعب فظلمة القبر ووحشته ،والأعجب الذهابُ دون زاد.

وأما العجيب فالدنيا ،والأعجب من ذلك حبها والتعلق بما فيها.

أقول :

خلقنا المولى تعالى لنعبده( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، ومن أوّليّات العبادة الطاعةُ. والطاعة من علامات الحب،  والعصيان من علائم البغض ، وصدق الشاعر إذ قال:

تعصي الإله وأنت تزعم حبه          هذا لَعَمْري في القياس بديعٌ

لو كان حبك صادقاً  لاطعتَه         إن المحب لِمَن يُحِب مطيعٌ

والطاعة إذ تأتي دليلاً للحب فأمرُها أيسرعلى النفس لأنهما يتماهيان، والجمع بينهما تحصيل حاصل،  والعصيان ينافر الحب ويغالبه فلا يجتمعان ولا يلتقيان أصلاً. لذا كان ترك المعاصي واجتنابها يتطلب جهداً أكبر وهمّة أعلى . فإنْ ترَكَ المرءُ المعصية وجفاها وجد نفسه في الطاعة ليس غير.

ولعل من أساسيات الحياة أن نعلم أن يوم القيامة قريب فما هو آت – وإن بَعُدَ- قريبٌ وقريب جداً ، إنه يدنو متمكناً ساعة فساعة ودقيقة فدقيقة وثانية فثانية ، ذكره القرآن الكريم عشرات المرات منبهاً ومحذّراً ، وما يقرع الأسماعَ ويُلِحّ في الأذهان يعيش في ذاتنا ويقيم في قلوبنا ويتردد على عقولنا ، وهل أقرب من هذا؟ نعم هناك ما هو أقرب منه.إننا كل يوم نودع حبيباً ونشيّعه ونهيل عليه التراب ثم نعود وكأنه لم يكن بيننا، قد نتذكره كثيراً أوّل غيابه لكننا نهيل عليه غبار النسيان كلما تقادم عهده كما أهلْنا عليه التراب حين نزل قبرَه. وكان ينبغي أن يكون الموتُ بين أعيننا يذكرنا بالمصير الذي نسرع إليه أو يسرع إلينا.

ولا نعدو القبرَ – بيتَ الدود وبيتَ الغربة وبيت الوحدة وبيتَ الظلمة نهايةَ كل حي ، صندوقَ المفاجآت ومثوى المرء الطويل – مقارنة بالحياة الدنيا- ليس فيه أثاث ولا منفذ ، وهو ضيق لا يسمح بالحركة ، ولماذا الحركةُ وقد ودّعت الروح الجسدَ فثوى كأنه جزء من الأرض هذا إنْ لم تأكله الأرض فيذوبَ في طياتها ، ولعله يكون في نسغ شجرة وبطن سبع أو حشرة ولعل جسده يكون ذرة من ذرات الأرض يدوسها الغادون والرائحون، ألم يقل المعريّ:

خفف الوطْء ما أظن اديم الـ          الأرض إلا من هذه الأجساد

وقبيحٌ   بنا   وإن   قدُ العهــــــ         دُ هوانُ الآباء والاجداد

سر إن اسطعت في الواء رويداً      لا اختيالاً على رفات العباد

فكان المعري شفاف النفس حكيم القلب ، ينبه إلى الأدب في الحياة مع الحي والميّت.

وإذا كانت القبور روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار فالسبب في النعيم أو الجحيم زادُ المرء إيماناً وكفراً ،كثرةً وقلةً ، صلاحاً وفساداً . ألم يؤثر عن الإمام علي قولُه : آه من قلة الزاد وكآبة المنظر وسوء المنقلب. نقولها معه متحسرين على ما فات من خطأ ارتكبناه لم نستغفر الله منه وعمل قصرنا فيه ..  وصدق الشاعر إذ قال:

ستندمُ أن رحلت بغير زاد         وتشقى إذ يناديك المنادي

فما لك؟ ليس يعمل فيك وعظ        ولازجرٌ كأنك من جماد

فتُبْ عما جنيتَ وأنت حيٌّ         وكن متيقظا قبل الرقاد

أترضى أن تكون رفيق قوم         لهم زادٌ وأنت بغير زاد؟!

وأما العجيب في الدنيا فقِصَرُ عمرها وكثرة الشكاة منها وفيها والتعب والإرهاق والظلم والقتل والفساد والقهر والألم .. وقل ماشئت في ذلك ..ثم ترى الناس يقتتلون في هذا الزائل ويتصارعون على تفاهته ويعملون في بنائه وهم لا يدرون متى يغادرونه وكيف يفارقونه. ويذكرني بهذا قولُ أبي العتاهية :

لِدوا  للموت وابنوا للخراب          فأمرُكُمو يصير  إلى تباب

لمن نبني ونحن إلى تراب          نصير كما خلقنا من تراب

ورحم الله الشيخ عبد الحميد الكشك المصري الذي رُبيت على رقائق خطبه في الشرائط التي كانت تصلنا إلى حلب كل أسبوع تقريبا في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ، وكنت شرُفت بزيارته عام واحد وثمانين وتسع مئة وألف في مسجده في شارع مصر والسودان في القاهرة فدعا لي وللمسلمين كان أعمى العينين بصير القلب ، وما أكثر مبصري العيون وعميان القلوب ، كان يقول: " الدنيا ساعة فاجعلها طاعة ، ونفسُك الطمّاعة علّمْها القناعة " ثم يموت حين وافته المنيّة ضحى الجمعة في صلاة النافلة رحمه الله.

فماذ نقول لانفسنا ولمن يتعلق بالدنيا وهي زائلة ويعمل لها فقط وهو عنها راحل؟

رضي الله عن سيدنا أبي الحسن علي بن أبي طالب كم تعلمنا منه الحكم فنوّر بصائرنا ، حشرنا الله معه ومع الصديق والفاروق وذي النورين رضي الله عنهم وأرضاهم في زمرة سيد المرسلين وإمام النبيين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.