الخاطرة ١٧٧ : فلسفة عيد الفطر

خواطر من الكون المجاور

كلنا نظن أن عيد الفطر سمي ب (الفطر) بسبب إنتهاء شهر رمضان الذي يصوم به المسلمون عن الطعام والشراب ، فكما يحدث في كل يوم من شهر رمضان وعند لحظة غروب الشمس والتي فيها تنتهي ساعات الصيام يعود فيها الصائم إلى عادته الطبيعية ويصبح حراً في تناول الطعام والشراب ، لذلك تسمى هذه اللحظة موعد الإفطار ، وهكذا تماما يحدث في أول يوم من العيد عندما ينتهي شهر الصيام حيث يعود المسلمون إلى عادتهم اليومية في تناول الطعام بشكل حر دون أي مانع يفرضه عليهم . ولذلك سمي بعيد الفطر.

ولكن هل فعلا تسمية هذا العيد بكلمة (فطر) قد حدث لهذا السبب البسيط فقط ؟.... لماذا اسم هذا العيد المبارك هو نفسه أيضا اسم ذلك الكائن الحي (فطر) الذي ينتمي إلى الفطريات ، قد يجيب المتخصص باللغة العربية بأن الكلمتين متشابهتين في الأحرف فقط ولكن تختلفان في التشكيل ، فالأولى تكتب بالشكل (فِطر) اما الثانية (فُطر) ، أي أنهما كلمتين مختلفتين ولكل منهما معنى مختلف .

السؤال هنا هل فعلا جواب المختص باللغة العربية كافي لأن نظن بأنه لا يوجد اي رابط بين الكلمتين لينتهي النقاش في الموضوع !؟ فكما ذكرنا في المقالة الماضية أن محكمة القضاء الإداري في مصر قد أصدرت قرارا حظرت الإفتاء في أمور الدين " على غير المتخصصين والجهلاء والمغرضين " ، فإذا بحثنا في كل ما كتب من المتخصصين حتى اليوم عن معنى (عيد الفطر) سنجد أنهم لم يخرجوا عن معناه البسيط المشروح أعلاه والذي يعرفه طفل قد أنهى المرحلة الإبتدائية .

هل من المعقول أن يكون عيد الفطر الذي يعتبر يوم مبارك ويوم فرح وبهجة للمسلمين لأنه فقط يعبر عن الإنتهاء من أيام الصيام ؟ هل من المعقول أن يكون هذا العيد المبارك يتعلق فقط بموضوع الطعام والشراب ؟ وهل من المعقول أيضا أن يكون معنى هذا العيد المبارك بهذا السطحية ؟ ..... طبعاً لا فالأمور الدينية هي من عند الله وهي أعقد بكثير مما نتصوره .

حتى نصل إلى المعنى الشامل لعيد الفطر لا بد من دراسته من جميع زواياه وتحليل جميع الأمور المتعلقة به . فكل شيء له علاقة به لم يحدث عن عبث ولكن الله وضعه ضمن حكمة إلهية تساعدنا في تفسير المعنى الروحي لعيد الفطر ومن خلاله نستطيع أن نفهم حقيقة ما يحدث في التطور الروحي للإنسانية .

كما ذكرنا في مقالات سابقة أن لغات شعوب العالم وخاصة اللغة العربية (لغة القرآن) واللغة اليونانية (لغة الإنجيل) هي من تصميم فكر إلهي وليس من تصميم فكر إنساني ، فكل كلمة في هاتين اللغتين تم وضع أحرفها ضمن خطة إلهية ، ووجود هذا الشبه الكبير جدًا بين اسم عيد (الِفطر ) واسم الكائن الحي الذي ينتمي إلى الفطريات (الفُطر ) ليس صدفة ولكن ليعطينا زاوية رؤية أخرى لحقيقة معنى عيد الفطر .

قبل أن نتكلم عن العلاقة بين اسم عيد الفطر واسم الكائن الحي الفطر ، لا بد من ان نلقي نظرة عامة على معاني الكلمات التي مصدرها لها نفس الأحرف الثلاثة (فطر) ، لنأخذ فكرة عامة عن جميع المعاني المتعلقة به.

فَطَر السن : شق اللثة وخرج منها .... فَطَرَ النبات : شق الأَرض ونبت منها ... فَطَرَ الْخشب : شقه .... فطَر الحزن قلبه : مزقه ، أثر فيه تأثيرًا عميقًا ....كما في قول الله تعالى" إِذَا السَّمَاء اِنْفَطَرَتْ " الأنفطار ١ ، اي " إِذَا السماء اِنشقت" .

فَطَرَ الشاة : حلبها أي أخرج منها الحليب

فَطَرَ الْعجين : اختبزه دون أَن يخمره

فطَر الصائم : قطع صيامه بتناول الطعام والشراب..... عيد الْفِطْرِ : عيد المسلِمِين يحل بعد صوم شهر رمضان

فطَر الشيء : اخترعه ، أوجده ، أنشأه ، ابتدأه ...فَطَرَ الله العالم : خلقه .(الحمد لله فاطر السموات والأرض) [فاطر/1] ، اي خلقها وأنشأها

فُطِرَ على عمل الخير : كان لَه ميل طبيعي إِلى عمل الخير ، الفِطْرَة : الخلقة التي يكون عليها كل موجود أول خلقه ....الفِطْرَة : الطبيعة السليمة لم تُشَب بعَيْب .

الفُطْرُ : كلمة تطلق على حبات العنب أَول ما تبدو

الفُطْرُ : اسم يطلق على طائفة معينة من الكائنات الحية والمعروفة باسم الفُطْريّات ، منها ما يُؤْكل ، وما هو سام .... منها الكمأة ، وعيش الغراب وغيرها...

إذا تمعنا جيدا في المعاني المختلفة التي تخرج من كلمة (فطر) قد يبدو لنا بأنها غير مترابطة مع بعضها أو ربما أيضا بأنها متناقضة فيما بينها ( شق الخشب ... قطع صيامه .. خلق الشيء .. فطر اسم نوع من الكائنات الحية ) ولكن في الحقيقة أن جميع هذه المعاني هي زوايا نظر مختلفة لشيء واحد ، وكلها تساهم في التعبير عن بداية جديدة أو ظهور شيء جديد أو الإنتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى مختلفة عنها . ولكن حتى نأخذ صورة أوضح لحقيقة ما يحدث لا بد أن نشرح شيئا آخر له علاقة بالموضوع .

عيد الفطر يأتي بعد انتهاء أيام شهر رمضان أي في أول يوم من شهر شوال . اسم هذا الشهر (شوال) أيضا ليس صدفة ولكن له علاقة باسم العيد ( الفطر) ، فحسب ما يقال في سبب تسمية هذا الشهر أنه سُمّي كذلك في موسم كانت الإبل تشول بأذنابها أي ترفعها، فالناقة الشائل هي اللاقح التي ترفع ذنبها للفحل فيكون ذلك علامة على طلبها اللقاح في ذاك الوقت من السنة. لذلك كانت العرب في الجاهلية تكره فيه الزواج لما فيه من معنى الإشالة والرفع ، ولكن مع ظهور الإسلام أبطل النبي ذلك، وقالت عائشة رضي الله عنها : تزوجني رسول الله في شَوّال وبَنى (دخل عليَّ) في شوّال" .

أيضا هناك شيء آخر يجب ان نذكره وهو أن اول يوم من هذا الشهر هو أيضا أول ايام أشهر الحج . وهذا ليس صدفة ولكن له علاقة بمعنى اسم عيد (الفطر) ، فتسميته بعيد الفطر ليس له علاقة فقط بصيام رمضان ولكن له علاقة أيضا بالمعنى الروحي لموسم الحج .

الآن لنذهب إلى فقرة أخرى لتوضيح اسم ذلك الكائن الحي الذي يحمل نفس أحرف اسم العيد (الفطر) والذي ينتمي إلى الفطريات .

معظم الناس يعتقدون ان أنواع (الفطر) التي يستخدمونها في طعامهم هي نباتات ، وهكذا كان يظن العلماء أيضا ، ولكن بعد دراسة سلوكها الفيزيولوجي وتحليل تركيب خلاياها وجدوا أنها تختلف كثيرا عن النباتات ، لذلك في جدول تصنيف الكائنات الحية وضعها العلماء في مملكة اخرى تدعى مملكة الفطريات ، فهذه المملكة منفصلة عن المملكة النباتية والمملكة الحيوانية ، وأذكر أنني قبل سنوات عديدة عندما قرأت لأول مرة بأن الفطر ليس نباتا ولا حيوانا ، شعرت بنوع من القشعريرة ، شعرت وكأنه مخلوق غريب ، فحسب علمي حتى ذلك الوقت بأن الفطر هو نبات ، ولكن عندما علمت فجأة انه ليس نبات ولا حيوان ، شعرت وكأنه مخلوق غريب مثله مثل المخلوقات الفضائية التي لا أومن بوجودها . وربما هذه القشعريرة التي شعرت بها في تلك اللحظة هي التي جعلت هذا المخلوق يأخذ أهمية كبيرة في فكري لتدفعني في البحث في تكوينه الروحي لأفهم حقيقة سبب وجوده وعلاقته في التكوين الروحي للإنسان ، فحسب أبحاثي كل انواع الكائنات الحية هي جزء من تكوين الإنسان كما عبر عنه الله رمزيا في قصة سفينة نوح .

الفطر والذي يبدو لنا عندما يخرج من التربة وكأنه نبات ، ولكن في الحقيقة هو كائن (ثالوس) أي ليس له أجزاء واضحة (جذور ، سيقان ، اوراق) وتكوينه التشريحي مختلف كليا عن النباتات ، فالنباتات في تكوينها تحوي على اليخضور وهذا ما يجعلها ذاتية التغذية لأنها تستطيع القيام بالتركيب الضوئي ولكن الفطر يتغذى تغذية غير ذاتية مثل الكائنات الحيوانية ، فطريقة هضم الاغذية في الفطر مشابهة لنوعية الهضم عند الحيوانات ، ولكن الفرق بينهما ان الفطر ليس له جهاز هضمي لأن الهضم عنده يحدث خارجيا فهو يفرز انزيمات خارجية تقوم بتحليل المواد الغذائية الموجودة في الوسط الذي تعيش فيه ويحولها إلى صورة قابلة للامتصاص ليستخدمها كغذاء.

وهو أيضا يختلف عن النباتات في نوعية المواد المخزنة في الجسم ، فالنباتات تخزن في جسمها نشا نباتي الذي يتألف من الأميلوز والأميلوبيكتين، بينما الفطر يخزن في جسمه نشا حيواني الذي يتألف من غلايكوجين. وكذلك هناك إختلاف آخر حيث أن جدران الخلايا النباتية تتألف من مادة السيللوز ، بينما جدران خلايا الفطرية عادة تتكون من الكيتين وهي مادة تعتبر المركب الأساسي للهيكل الصلب الذي يغطي أجسام الحشرات والعديد من مفصليات الأرجل وبعض الحيوانات .

فمع أن الفطر يبدو لنا انه ينبت من الأرض مثلما يحدث مع النباتات ولكن كما شرحنا ان تركيبه التشريحي يؤكد لنا أنه اكثر شبها بالكائنات الحيوانية ، وحتى جسده عندما نمضغ قطعة منه في فمنا نشعر وكأنها تشبه اللحم الحيواني اكثر من انها شيء نباتي . فكما قيل عنها (هي بنت البر والبر حاويها.... منغنفة بالدهن وعظام ما فيها )

قد يقول هنا أحد المتخصصين في علم الأحياء ، بأن ما يحصل في الفطر او الفطريات بشكل عام يحدث أيضا بشكل مشابه مع كائنات اخرى ولهذا السبب هي أيضا تم وضعها في ممالك خاصة بها ، كمملكة الطلائعيات ومملكة البدائيات .

رأي المتخصصين هنا صحيح إذا كان بحثنا في هذه الكائنات الحية من نظرة مادية فقط تتعلق بالتكوين المادي لهذه الكائنات ، ولكن مثل هذه النظرة في البحث هي نظرة فقيرة وتخص تكوين هذه الكائنات فقط وكأن وجودها منفصل عن التكوين الإنساني ، وهذا الرأي مناقض للقانون الإلهي في الخلق والذي عبر عنه الإمام علي رضي الله عنه في عبارته الشهيرة (وتحسب انك جـِرمٌ صغير ..وفيك انطوى العالم الاكبر). فكل شي في هذا الكون من صغيرة او كبيرة لها علاقة في التكوين الإنساني روحيا وماديا.

وهذه الكائنات الحية التي تنتمي إلى مملكة الطلائعيات ومملكة البدائيات فمن اسمهما نفهم انه كائنات بدائية جدا ظهرت في بداية ظهور الحياة عندما كانت معالم الكائنات الحية غير واضحة ولم تأخذ بعد طريقها لتعبر عن هويتها بشكل واضح بأنها كائن نباتي أو كائن حيواني ، ولهذا نجد بشكل عام أن معظم هذه الكائنات الحية هي من وحيدات الخلية . ولكن الفطريات بشكل عام ليست كذلك فقد شقت طريقها في النمو والتطور ووصلت إلى مرحلة تستطيع بها أن تعبر بشكل واضح عن هويتها وعن سبب وجودها وعلاقتها مع التكوين الروحي للإنسان .

ولكن ما العلاقة بين هذا الكائن الحي الذي يسمى ( فطر) وعيد ( الفطر) ؟ ... إن شاء الله سنشرح هذه العلاقة في المقالة القادمة ...

وسوم: العدد 776