الخاطرة ١٩٨ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم

خواطر من الكون المجاور

ربما لم يعرف التاريخ عالما ظلمه العلماء والمفكرين كالذي حصل مع ابن رشد ، وهنا لا أقصد فقط أولئك الذين هاجموا آراءه واتهموه بالكفر والزندقة ، ولكن أقصد أيضا أولئك الذين مدحوه وساهموا في نشر آراءه ، وحتى نفهم نوعية الظلم الذي وقع على ابن رشد ساعرض عليكم هذا المثال البسيط : أن تقول عن طبيب إكتشف دواء يشفي من مرض معين بأنه طبيب بارع وأنه يتقن عمله وأنه يساعد في شفاء المرضى وأنه كذا وكذا ،

ولا تذكر للناس ذلك الدواء الذي إكتشفه ليستفيدوا منه في شفاء المرضى الذين يعانون من هذا المرض ، فهذا ظلم عظيم بحق هذا الطبيب ، فجهد وأتعاب هذا الطبيب ذهبت لإكتشاف الدواء الذي هو قمة عطائه في علم الطب فإذا لم يُذكر هذا الإكتشاف هذا يعني أنه ظُلم حقه وأيضا حق الناس . وما حصل مع إبن رشد هو مشابه تماما لما حصل مع هذا الطبيب ، المفكرين يذكرون كتبه وآراءه ولكن لا يذكرون نوعية ذلك الشيء الذي جعلت آراءه تجتاح اوربا ليحدث في مجتمعاتها إنقلابا جذريا. فابن رشد الذي كما يقال عنه انه لم يتوقف عن القراءة والكتابة طوال حياته إلا مرتين يوم عرسه ويوم وفاة أبيه ، وفي آخر حياته رأى كتبه جميعها تُحرق أمام عينيه ، والناس من حولها فرحين يصرخون به (يا كافر ، يازنديق) ، ولولا تلامذته غير المسلمين من مسيحيين واليهود الأوربيين الذين ترجموا كتبه قبل حرقها ، ربما لكان المسلمون اليوم لا يعرفون عنه شيئا ابدا وكأنه بالنسبة لهم لم يولد أصلا ، وكأن إنحطاط العصر الإسلامي وظهور عصر النهضة قد حدث بطريقة عشوائية لا مكان للعلم في فهمها . ولكن والحمدلله أن المشيئة الإلهية هي التي تسيطر على كل شيء وليس الإنسان ، فإنتشرت كتب أبن رشد رغما عن أنف جميع الحاقدين في الشعوب الإسلامية والشعوب الأوربية فكانت آراءه وعلومه في الشعوب الأوربية التي كانت تعيش في الجهل كمثل ذلك القنديل الذي أنار الظلمة فيهم لأول مرة فشعر الأوربيون فجأة بجمال التكوين الروحي للإنسان وجمال فكره وجمال الأشياء من حولهم و التي كأنها كانت بدون أي معنى ، وجعلتهم عند ذلك يتيقنون كم هي متوحشة وقاسية تلك الظلمة الفكرية التي كانوا يعيشون فيها ، قلوب الأغنياء في هذه الشعوب إنبهرت بهذا النور الذي أنعش روحهم فجأة ، وجعلهم يشعرون أن السعادة التي كانوا يعيشونها هي سعادة مزيفة بلا طعم ولا فائدة ، فراحوا وبدلا من أن يبعثروا ثرواتهم على هذه السعادة المزيفة التي كانوا يعيشونها في الظلمة قاموا و سخروها في ترجمة كتب ابن رشد إلى لغاتهم ومن كتبه علموا كم هي عظيمة تلك المقدرات التي وهبها الله للإنسان وكم هي عالية لكي تفيدهم في تأمين حاجاتهم الروحية والجسدية التي كانت غائبة عنهم ، وعلموا من كتبه أيضا أن في البلدان الإسلامية المجاورة يوجد فيها علماء آخرون مثل إبن رشد ولكن رجال كنيستهم كانوا لقرون عديدة من الزمن قد صنعوا حاجزا أمام أعينهم لكي لا يُعرف عن هؤلاء شيئا سوى أنهم كفار لأنهم من غير ديانتهم ، فرفض أغنياء اوربا هذا الواقع المرير ، فقاموا وحطموا هذا الحاجز وأرسلوا رجالهم ليأتوا بكل كتاب يمكن أن يساعدهم في منفعة مجتمعهم وتطويره لإنقاذه من تلك الظلمة ، فبدأت كتب علماء الحضارة الإسلامية تدخل بكثافة في البلاد الاوربية لترجمتها وتعلمها وتدريسها للأوربيين ، ففتح الأغنياء مدارسهم الخاصة بهم ، فخرجت عندها دور التعليم من سيطرة رجال الكنيسة التي كانت مدارسهم تعليمها يقتصر على تدريس الكتب المقدسة فقط لا غير وبطريقة تهدف فقط إلى تخويف الناس العامة من عذاب الآخرة ، هذه الطريقة التي فصلت الفكر الأوربي عن جميع العلوم الأخرى . وهكذا وبدخول كتب علماء المسلمين إستطاع إبن رشد أن يحقق ما لم يستطيع تحقيقه لا طارق بن زياد ولا قادة جيوش المسلمين الآخرين ، فبواسطة كتب ابن رشد دخل الإسلام كتعاليم روحية تنمي في نفوس الأوربيين الشعور بالله والإحساس به بطريقة تعتمد مبدأ الدين والإيمان بالله لمنفعة الإنسان والمجتمع ، وليس كتعاليم مادية تجعل المسلم يصلي خمس مرات ويذكر أسم الله آلاف المرات يوميا ثم يتهم العلماء أمثال ابن رشد بالزندقة والكفر بدون أي علم، فما فائدة هذا الإيمان إن لم يكن فيه روح دين الإسلام الذي جعل يوم الجمعة والذي يعني رمزيا الجمع والتوحيد ليكون هذا اليوم أقدس يوم في الأسبوع للمسلمين.

الشعوب الأوربية التي رحبت بكتب ابن رشد وغيره من العلماء المسلمين دخلت في حضارة جديدة سميت حضارة عصر النهضة عصر التنوير ، أما الشعوب الإسلامية التي فرحت بحرق كتب ابن رشد فكان جزائها أن خرجت من عصر الحضارة الإسلامية ودخلت في عصر الظلام والإنحطاط ، وترك الله الأمة الإسلامية بلا حماية إلهية لأن نوره لم يعد موجود فيهم ، فقبل سنوات قليلة من ولادة ابن الرشد كان الله قد أعطى المسلمين علامة تبين لهم على ان مهاجمة العلماء وتكفيرهم لأنهم يستندون على علوم من أمم أخرى هو خطأ عظيم ، حيث زحفت الجيوش الصليبية القادمة من شمال أوربا في الدخول إلى البلاد الإسلامية واستطاعت إحتلال ثاني أقدس مدينة في بلادهم مدينة القدس ، فدخول الجيوش الصليبية وإحتكاكهم مع المسلمين كان هدفه ان يعلم علماء المسلمين أن هذه الشعوب تعيش في ظلام جعلها لا تفقه شيئا من تعاليم دينها المسيحي الذي انزله الله على عيسى عليه الصلاة والسلام ، وأن أطفال هذه الشعوب لا ذنب لهم وأنهم بحاجة إلى من ينقذهم من هذا الظلام الذي يفتك بهم . وأن هذه الشعوب لم ولن تقبل بدين الإسلام كما يؤمن به المسلمون في ذلك الوقت بسبب تعصبهم الأعمى لدينهم ، وأن فقط آراء علماء أمثال ابن رشد هي التي تستطيع أن تخترق حدود هذا البلاد لتصل إليهم وتنقذهم من الظلام والتخلف.

ولكن رغم سقوط القدس في أيدي الصلبيين لم يفهم علماء الدين وعلماء المسلمين معنى هذا الحدث لأنهم إنتصروا على الصليبيين وأستطاعوا تحرير القدس ، فاستمروا على ما هو عليه . ولكن طالما العلماء المسلمين لم يفقهوا هذه العلامة الإلهية الأولى أعطاهم الله علامة أخرى ، فبعد سنوات قليلة من وفاة ابن رشد ، دخل تيمورلنك المغولي بجيشه الهمجي البلاد الإسلامية وأحرق أكبر مكتبة ليس فقط في الأمة الإسلامية ولكن في العالم اجمع في ذلك الوقت ، وكأن الله يقول للمسلمين بهذه الحادثة طالما أنكم أحرقتم كتب ابن رشد عن جهل فلستم بحاجة إلى كتب تقرأوها . وبعد هذه الحادثة شيئا فشييء دخلت فيه الأمة الإسلامية في عصر الإنحطاط حتى يومنا هذا .

ما ذكرناه قبل قليل ليس رواية خرافية ولا تهيئات ، ولكنها حقيقة تحتاج لنوع آخر من العلوم لفهمها وهذا العلم للأسف غير الموجود اليوم ليفهم علماء هذا العلم المعنى العام للأحداث وإرتباطها بالمشيئة الإلهية ليشرحوا للناس المسلمين وغير المسلمين حقيقة ما حدث والتي كانت سبباً لتلك التغيرات الجذرية التي حدثت ذلك الزمان .هذا العلم هو علم الحكمة المسمى اليوم فلسفة .ولكن الفلسفة بالنسبة للمسلمين الذين عاشوا في زمن ابن رشد وما بعده كانت حسب ظنهم من العلوم الوثنية التي يجب منع ممارستها لأنها تؤدي إلى الإلحاد ، لذلك لم يفهم لا رجال الدين الإسلامي ولا علمائها لماذا ضعفت أمتهم فجأة، ولماذا الله لم يساعدهم في منع تيمورلنك من إحراق أكبر مكتبة إسلامية ولماذا دخلت أمتهم في عصر الإنحطاط بعد أن كانت حضارة عريقة تحسدهم عليها جميع الأمم. وإلى اليوم لا علماء مسلمين ولا غير مسلمين فهموا المكانة الحقيقية لابن رشد كشخص مؤثر في مجرى التاريخ ، ولم يفهموا حقيقة آراء علوم ابن رشد كيف ساعدت الأمة الأوربية أن تنتقل من عصر الظلام إلى عصر النهضة . فما حصل ذلك الزمان لم يكن مجرد إنتقال العلوم والمعارف من البلاد الإسلامية إلى البلاد الأوربية ولكن ما حصل حقيقة كان شيئا آخر أعمق من ذلك بكثير لا يمكن تفسيره إلا عن طريق علوم الحكمة (الفلسفة).

من هو ابن رشد وهل حقاً كانت آرائه وكتبه الفلسفية كفراً وزندقة بسبب أن الفلسفة هي علوم وثنية كما ظن مسلمو زمانه ؟ أم حقا كانت آراء ابن رشد الفلسفية فيها نور الله فرحب بها الأوربيون؟

قبل أن نجيب عن هذا السؤال لا بد من أن نشرح حقيقة منطق نوع ذلك العلم الذي إعتمد عليه بن رشد في أبحاثه ، ونقصد هنا منطق علم الفلسفة فعلم الفلسفة اليوم غريب تماما عن معناه الحقيقي. فما هي حقيقة هذا النوع من العلوم؟

عندما خلق الله اﻹنسان وضع به جزء من روحه لذلك تعتبر طبيعة اﻹنسان ككائن حي مختلفة نهائيا عن طبيعة الكائنات الحيوانية اﻷخرى والسبب هو وجود روح الله في تكوينه ولهذا يقول الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (١٥٩٦ - ١٦٥٠) بأن الحيوانات والنباتات لا تحوي على روح، فقط الإنسان هو الذي يملك الروح ، هذا الرأي هو رأي فيلسوف حقيقي ، وطبعا هنا الفيلسوف ديكارت يقصد روح الله وليس الروح بشكلها العام فكل شيء موجود يملك روح حتى الجسيمات الذرية في أصغر أشكالها أيضا تملك روح ، ولكن روح الله توجد فقط في الإنسان ، لذلك ارسل الله تعالى للإنسانية فقط الرسل والأنبياء والمنذرين ، فالحيوانات لها حاجات مادية فقط لهذا فهي لا تستحق مساعدة روحية من الرسل والأنبياء لأنها خالية من روح الله لذلك فهي لن تشعر به ،أما اﻹنسان فعدا عن حاجاته المادية له أيضا حاجات روحية أهم بكثير من تلك الحاجات المادية. لذلك نجد أنه في محاولة اﻹنسان لتأمين النوعين من حاجاته ظهرت عبر الزمن أنواع مختلفة من النشاطات الفكرية سميت فيما بعد "،علوم ،فنون، ديانات " في العلوم مثلا ، كل علم له وظيفة في تأمين نوع معين من الحاجات فعلم الطب مثلا مسؤول عن تأمين الصحة الجسدية وعلم الرياضيات لتسهيل حساب الزمن وقياس الظواهر الطبيعية والتعاملات التجارية.. وهكذا . أحد أهم هذه العلوم التي ظهرت كان علم الحكمة وهو العلم المسؤول عن تأمين حاجة روح اﻹنسان في تكوين علاقة منسجمة بين حاجاته الروحية وحاجاته المادية لتساعده في التطور بشكل صحيح بهدف الوصول إلى الكمال الروحي والجسدي ليستطيع العودة ثانية إلى وطنه اﻷم "الجنة" . وﻷن هذا العلم يعتبر أعلى من المقدرة العقلية للإنسان لذلك أرسل الله أنبياء ورسل بين كل فترة وفترة لمساعدة اﻹنسانية في تأمين هذه الحاجة الروحية لذلك يعتبر علم اﻷنبياء نوع من أنواع الحكمة المقدسة، وهو علم روحي مطلق يساعد اﻹنسانية في التقدم ودخول مرحلة جديدة من التطور الروحي ،وهناك نوع آخر من علم الحكمة وهو "الفلسفة " ودوره هو الربط بين الحكمة المقدسة مع النشاطات الفكرية الأخرى من علوم وفنون ، ولتوضيح الفرق بين علوم الحكمة عن العلوم الأخرى سنعرض هذا المثال البسيط :

إذا إعتبرنا أن كل علم هو بمثابة أحد اﻷجهزة في جسم اﻹنسان ، مثلا علم الطب هو القلب والرياضة هو الجهاز العضلي ، وفن الموسيقى هو الأذن ... وهكذا ،فإن علم الحكمة المقدسة "علم اﻷنبياء " هو الدماغ وعلم الحكمة "الفلسفة " هو بقية الجهاز العصبي ، فالأعصاب تحمل المعلومات من هذه الأعضاء إلى الدماغ وهناك يفهم معناها ويترجمها وبعد ترجمتها في الدماغ تحمل الأعصاب هذه الترجمة من الدماغ إلى أجهزة الجسم لتتصرف. لذلك بدون علم الحكمة أي بدون الجهاز العصبي ( الدماغ والأعصاب) يتم إنفصال عمل جميع اﻷجهزة في جسم اﻹنسان ويحدث عندها شلل عام فيصبح الدماغ نتيجة ذلك بلا أهمية (الدين للدين) وتصبح الأجهزة أيضا بلا أهمية (العلم للعلم ) ثم شيئا فشيء نتيجة هذا الإنفصال تؤدي الأمور إلى موت الجسم وهكذا تماما يحدث عند غياب علم الحكمة "الفلسفة" حيث يتم إنفصال جميع العلوم عن بعضها البعض وشيئا فشيء يبدأ كل علم بالإنهيار إلى أن ينقرض من الوجود، فسبب وجود جميع الأجهزة في الجسم هو وجود ثانوي وظيفتها تأمين عمل الدماغ ﻷن الدماغ هو مستودع اﻷفكار التي ستحدد سلوك اﻹنسان، لذلك بدون الحكمة المقدسة أي بدون الإيمان بالله وبدون علم الحكمة "الفلسفة " فإن جميع العلوم تعتبر علوم ثانوية لا معنى لوجودها لوحدها . اما فلسفة اليوم المزيفة فيمكن التعبير عنها بأنها تمثل اﻷوعية الدموية فهي تبدو وكأنها تشبه اﻷعصاب في توزعها في الجسم ولكن وظيفتها هي نقل المواد الغذائية لأجهزة الجسم وليس اﻹحساسات الروحية إلى الدماغ ، فبمنهج فلسفة اليوم المزيفة يصبح لا فرق بين الإنسان والحيوان إلا بالشكل والمقدرة .

أول عالم حكمة ظهر في تاريخ البشرية هو النبي يوسف عليه الصلاة والسلام وقد أشارت الكتب المقدسة إلى هذه الناحية من خلال حادثة تفسيره ﻷحلام ملك مصر ،المقدرة في تفسير اﻷحلام هنا لها معنى رمزي يعبر عن فرط تطور مستوى اﻹدراك العام الروحي والمادي في يوسف ، فليس من المعقول أن يعين حاكم مصر أحد عبيده في منصب وزير دولة يفعل ما يحلو له لمجرد ان هذا العبد فسر له حلمه ولاسيما أن فترة التحقق من صحة التفسير تحتاج إلى سنوات لا دقائق قليلة! فإذا نظرنا إلى قصة يوسف كما نعرفها اليوم فهي قصة تصلح فقط للأطفال ، ولكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير ، وما حدث فعلا هو أن حاكم مصر عندما إطلع على سعة المعارف الروحية والمادية التي لدى يوسف ،لم يصدق أن هناك على سطح اﻷرض إنسانا يمتلك هذه المعارف والعلوم، والله تعالى يذكر هذه الصفة عن يوسف في الآية القرآنية " وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿٢٢ يوسف﴾ الله عز وجل يذكر الحكمة والعلم عن يوسف ليؤكد على علاقة الترابط بينهما ، فعالم الحكمة هو عالم له علوم شاملة تسمح له بدراسة الشيء أو الحدث من جميع زواياه ،ومن خلال هذه الدراسة الشاملة يستطيع التغلغل إلى مضمونه ومعرفة سر وجوده ودوره في التطور الكوني، هذ النوع من المعرفة تسمح لعالم الحكمة بالمقدرة على التنبؤ والمقصود هنا التنبؤ بنتائج سلوك المجتمع السلبية واﻹيجابية، فعالم الحكمة يملك من المعرفة ما تجعله يستطيع رؤية جميع الأسباب وفهم طبيعتها شكلا ومضمونا،وهذه الرؤية تسمح له رؤية النتيجة التي ستأتي بعد ظهور هذه الأسباب بصورة منسجمة مع بعضها البعض، لذلك عندها يتدخل ويحاول إيقاف تلك الأسباب التي ستجعل كل تطور يسير بالبشرية نحو الوراء. ولعل قول الحكيم المصري هرمس ثلاثي القوة تعبر بشكل واضح عن فكر ومنطق علم الحكمة التي علمها يوسف لعلماء مصر القديمة "لكل سبب نتيجة ولكل نتيجة سبب . كلُّ يحدث حسب القانون . الحظ (الصدفة) ليس إلا إسماً يُعطى لقانون نجهله حتى الآن" ، أيضا الحكيم هرمس من خلال قصيدته يعطينا فكرة عن نوعية رؤية وهدف أبحاث عالم الحكمة حيث يقول ( إسمعوا ما في أعماقكم ... وإنظروا إلى اللانهاية للمكان والزمان ... هناك ستسمعون أغنية النجوم ...وصوت الأرقام ... وإنسجام الأفلاك السماوية ... كل شمس هي فكرة من الله .. وكل كوكب هو نهج لهذه الفكرة ... تعلمي الفكر الإلهي أيتها الأرواح ... فهو السبب الذي جعلك تهبطين ....وتحاولين بإصرار ... الصعود نحو السماء).

لتوضيح معنى الفلسفة بشكل أوضح سنحاول شرحه بشكل آخر : كل شيء نراه يؤثر بنا بنوعين من الوعي. اﻷول وهو وعي روحي " حسي" وهو الذي يعبر عنه الفنان فنقول أن هذا الشيء (جميل ..قبيح . ...هادئ... وحشي. .....إلخ ) والنوع الثاني من الوعي هو الوعي المادي "العقلي" ويعبر عنه العالم المادي فيزيائي. .كيميائي.. إلخ ، فنقول أن هذا الشيء (كبير... صغير ..ثقيل خفيف.. لونه أحمر... أصفر... .إلخ) دور الفيلسوف هنا هو إيجاد وتوضيح علاقة التداخل بين الوعي الروحي والوعي المادي ( بين الحسي والعقلي ) ليحصل على الحقيقة المطلقة التي وضعها الله في هذا الشيء أو حدث ، فلا وجود لشيء ولا لحدث وضع بالصدفة ولكن تم وضعه بخطة إلهية كسبب مؤثر في التكوين الروحي والجسدي للإنسان .

لتوضيح نوعية رؤية الفيلسوف للأشياء بشكل أفضل سنعرض لكم مثال تطبيقي :

حسب الوعي المادي فإن جميع الثديات العاشبة لها جبين له شكل خط مستقيم ، أما الثديات اللاحمة فلها جبين شكله خط منكسر (الصورة ).وحسب الوعي الروحي فإن جميع الحيوانات العاشبة هي حيوانات مسالمة تعيش بسلام في جماعات كبيرة سواء كانت من نفس النوع أو من الأنواع الاخرى ، أما الحيوانات اللاحمة فهي حيوانات وحشية مفترسة تعيش وحيدة أو في جماعات صغيرة أفرادها من نفس النوع فقط ولا تستطيع ان تعيش مع أنواع آخرى، هذا القانون في وصف الثديات هو حكمة إلهية يراه الفيلسوف ويحاول من خلال هذا القانون فهم الحكمة اﻹلهية في التطور الروحي للإنسان فمن رؤيته لشكل جبين الثديات يقول أن الجبين المستقيم هو رمز للسلام والسلام هو رمز للمجتمعات الكبيرة ، أما الجبين المنكسر فهو رمز العنف والقتل والعنف هو رمز المجتمعات الصغيرة ، الفيلسوف هنا يأخذ هذا القانون الإلهي ويطبقه على الإنسان، فيرى أن جبين اﻷطفال مستقيم والأطفال هم أحباب الله لأن سلوكهم يسير على الفطرة التي وضعهم الله عليها ، وهذا يعني أنه يجب تربيتهم على حب السلام ليستطيعوا في المستقبل تكوين أمة كبيرة متحابة في أفرادها ، ثم يرى الفيلسوف أن معظم النساء جبينهم مستقيم وهذا يعني أن الجبين المستقيم هو الجبين الأنثوي لذلك فيجب على النساء أن يتبعن هذا القانون الإلهي وان يكن كائنات مسالمة وبعيدة عن أي نوع من أنواع العنف ليحدث إنسجام بين شكلهن وسلوكهن لذلك المرأة يجب أن يكون سلوكها ودورها في المجتمع كما حدده الله هو تنمية عاطفة حب السلام في عائلتها وفي المجتمع . ثم يرى الفيلسوف ايضا أن الرجال بشكل عام لهم جبين منكسر وهذا يعني أن الرجل بطبيعته هو كائن فيه غريزة العنف. لذلك فهو المسؤول عن الدفاع عن العائلة، عن الوطن ...، ولكن إذا نظرنا إلى تطور جبين اﻹنسان عبر آلاف السنين فنجد أن شكل الجبين يتطور دوما نحو الخط المستقيم هذا يعني أن تطور اﻹنسان سواء كان رجلا أو إمرأة حسب الحكمة اﻹلهية يجب أن يكون نحو السلام ونحو توحيد الشعوب لتعيش لتصبح في المستقبل وكأنها عائلة واحدة. وحتى يتأكد الفيلسوف من صحة الفكرة التي وصل إليها يذهب ويبحث في الديانات فيجد أن آخر ديانة سماوية إسمها إسلام ومعناه الحقيقي فرض حب السلام على المؤمنين، المؤمن هو اﻹنسان المحب للسلام. وليتحقق أكثر يذهب ويبحث في الحضارات فيرى الفيلسوف أيضا أن جميع التماثيل اليونانية لها جبين مستقيم تعبر عن السلام فيبحث عن دور هذه الحضارة في تنمية عاطفة السلام وبعد البحث يجد أن كتب التاريخ تذكر أنه في عام ٧٧٦ قبل الميلاد الذي يعتبر تاريخيا بداية الحضارة الإغريقية ، أن إفيتوس ملك مدينة إليذا الإغريقية سأل كاهن معبد الدلفي عما يجب عليه أن يفعله من أجل إنقاذ اليونان التي كانت في ذلك الوقت تعاني من الحروب الداخلية بين جيوش دويلاتها ، فأخبره الكاهن بأنه يجب عليه تجديد تنظيم الألعاب الأولمبية . وعندما يدرس الفيلسوف الألعاب الأولمبية يجد أن هدفها ترويض الغرائز الحيوانية في الرجل وتحويل غريزة القتل فيه إلى عاطفة سلام من خلال تحويل شعور حب العنف والمشاجرة مع الآخرين من شكله العدائي (الحيواني) إلى شكله السلمي (الإنساني) وذلك عن طريق المشاركة في المباريات الرياضية التي تجعله يشعر بالتسلية والمتعة وفي نفس الوقت تجعله يكتسب جسدا قويا متناسقا من خلال التمرين والألعاب.

من هذا المثال التطبيقي البسيط وجدنا أنه من فهم القانون الإلهي في إختلاف شكل جبين الحيوانات الثدية بين اللاحمة والعاشبة إستطعنا أن نفهم شيئا عن الفرق بين التكوين الروحي للطفل والتكوين الروحي للمرأة وكذلك للرجل ، وذلك عن طريق نوعية شكل الجبين وعلاقته بغريزة العنف وكذلك بعاطفة السلام ، وكذلك ساعدتنا في فهم المعنى الروحي للأعمال الفنية في التماثيل اليونانية وعلاقتها بعاطفة السلام ، و ساعدتنا أيضا في فهم دور ممارسة الرياضية في تنمية عاطفة السلام في الرجال ، وكذلك فضل الحضارة الأغريقية في هذا المجال من خلال تنظيم الألعاب الأولمبية ، ومن يبحث في تعاليم الديانات سيجد أن جميعها تدعوا بشكل او بآخر إلى تنمية عاطفة السلاممن خلال تعاليم ديانتها . فمن خلال هذا الربط بين الأشياء التي كانت في البداية منفصلة عن بعضها البعض وكانت بلا معنى أن جميع هذه الحقائق تؤكد على ضرورة تنمية عاطفة السلام بين الأفراد وبين الشعوب وبين الأمم لأنه قانون إلهي . فمن خلال علوم الحكمة التي هي الفلسفة ، إستطعنا أن نفهم الحكمة الإلهية في عاطفة السلام ، وعدا عن ذلك أنها أعطت الحضارة الإغريقية حقها في هذا الدور ، وأيضا أكدت على صحة دور الديانات في موضوع السلام .

والسؤال هنا موجه إلى جميع اساتذة كلية الفلسفة في العالم ، أي علم هو المسؤول عن البحث في تفسير إختلاف شكل الجبين في الثديات اللاحمة وجبين الثديات العاشبة ، هل هي مسؤولية عالم الحيوان ؟ طبعا لا لأن مسؤوليته هي دراسة الحيوانات من حيث وجودها المادي ليعرف تركيبها ، طرق تعايشها وتغيرها بسبب إنتقال مورثاتها عبر الأجيال .

إذاً هل هي مسؤولية الطبيب ؟ طبعا أيضا لا لأنه مسؤوليته العناية بجسم الإنسان ليحميه من الأمراض والاضرار التي تصيبه .

إذاً هل هي مسؤولية عالم الدين ؟ أيضا لا ، فمسؤوليته تدريس تعاليم الدين وشرائعها وليس البحث في تكوين الحيوانات .

إذاً هل هي مسؤولية أستاذ الرياضة؟ أيضا لا ، وليست مسؤولية فنان الرسم ولا عالم الإجتماع ولا عالم الفيزياء ولا الكيمياء ولا رياضيات ولا أحد من علماء جميع العلوم التي تدرس في كليات الموجودة اليوم. فمن هو المسؤول الحقيقي في كشف هذا القانون الإلهي في تكوين الثديات ؟

هذا ما بحثت عنه عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية عندما أدركت بأن الله أنعم عليّ نوع من الرؤية استطاعت كشف قانون جبين الثديات وعلاقتها بالأمور الأخرى التي ذكرتها قبل قليل ،وأشياء كثيرة مماثلة ، فشعرت في حيرة مع نفسي، أي كلية تناسبني لأستطيع أن أتابع فيها دراستي لأنمي فيها هذه النعمة التي وهبني الله إياها وأفهم هذا العلم من أساتذة يعملون في هذا النوع من العلوم لأبحث به انا بدوري وأعرض ما إكتشفته وما سأكتشفه في المستقبل ليستفيد منها الآخرون . للأسف لم أجد تلك الكلية التي ابحث عنها ، لأن كتاب الفلسفة الذي يُدّرس في المرحلة الثانوية كانت مواضيعه تتكلم عن الفلاسفة وكأنهم علماء نفس أو علماء إجتماع أوفلك أوسياسة أودين . لأن كارل ماركس الفيلسوف المزيف في القرن التاسع عشر كان قد إستطاع تغيير هوية هذا العلم حيث حذف القسم الروحي منه ليجعل هدفه مثل بقية العلوم الفكرية المادية التي تبحث فقط في شكل الأشياء والأحداث بدون أي مضمون يربطها بالقوانين الإلهية التي تفسر إنسجام الشكل مع المضمون ةعلاقتها بالتكوين الوحي والجسدي للإنسان.

في المقالة القادمة إن شاء الله سنتابع مسيرة تطور علوم الحكمة وكيف إنتقلت من النبي يوسف عليه الصلاة والسلام إلى بلاد الإغريق لتأخذ اسمها المعروف (الفلسفة) ومن ثم إنتقالها إلى ابن رشد .

وسوم: العدد 799