الخاطرة : ١٩٧ اللغة الإلهية ( الأسماء : المسيح)

خواطر من الكون المجاور

في الخواطر الماضية لسلسلة اللغة الإلهية ( الأسماء) حاولنا أن نبين تفسير أسماء بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أسم آدم كأول نبي في تاريخ البشرية ، أسم يوسف الذي ينتهي به سفر التكوين ، ثم أسم محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وبينا دور كل واحد منهم في تطور التكوين الروحي للإنسانية ، وفي هذه المقالة سنتكلم عن أسم (المسيح) الذي سيرسله الله قبل يوم القيامة ليقضي على روح السوء المتمثلة في إبن الشيطان الذي رمزه في المسيحية الرقم (٦٦٦) وفي الإسلام ( الأعور الدجال).

إذا عدنا وبحثنا في آراء علماء الديانتين المسيحية والأسلامية نجد أن جميعهم عندما يذكرون كلمة (المسيح) يتكلمون عنها وكأنهم يتكلمون عن عيسى عليه الصلاة والسلام نفسه فلا يفصلون بين معنى الأسمين لذلك نجد كل عالم يوجه أمور بحثه نحو ما تذكره ديانته عن عيسى ، لذلك نجد أن جميعهم يعتمدون على المعنى السطحي لتلك الآيات التي تذكرها كتبهم المقدسة ، وهذا ما جعل الأمور تتناقض تماما مما جعل معنى كلمة (عيسى) وكلمة (المسيح) كلمات عشوائية لا تفيد بشيء في فهم مكانة الأسمين في تطور التكوين الروحي للإنسانية فأصبحت حياة عيسى ومعجزاته ليست سوى إثبات إلهي أن الله يملك قوة خارقة للطبيعة ، وهذا ما جعل معلومات الكتب المقدسة تنفصل نهائيا عن ابحاث تلك العلوم المختصة بدراسة الإنسان كتكوين وكسلوك ككائن حي ، فأصبح العلم للعلم والدين للدين ولا أحد منهما يهتم بشكل فعلي بمصير الإنسانية فدفعت الكثير إلى الإلحاد والإبتعاد نهائيا عن الإيمان بفكرة عودة المسيح ويوم القيامة ويوم الحساب.

في هذه المقالة سنتكلم عن معنى أسم (المسيح) ودوره كمسيح كآخر شخص يرسله الله ليقوم بدوره في إتمام التكوين الروحي للإنسانية .

أسم (المسيح) بالنسبة لليهود الذين عاشوا بعد دمار هيكل سليمان وانهيار الدولة اليهودية ، المراد به هو ذلك الشخص المنحدر من نسل النبي داوود عليه الصلاة والسلام والذي سيختاره الله لينتقم من أعداء الله الذين شتتوا الشعب اليهودي ، وليحقق لهم قوة عالمية قادرة على السيطرة على الإنسانية جمعاء لتمضي في الطريق المستقيم الذي رسمه الله للإنسانية.

ولكن ما حدث عند ظهور عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أثناء وجود الشعب اليهودي تحت سيطرة الأمبراطورية الرومية الوثنية أن علماء اليهود شعروا بالحيرة من أمره ، فمن جهة رأوا أنه يصنع معجزات خارقة ، ولكن من جهة أخرى رأوا أنه يأتي بأفكار بدت لهم انها تناقض بعض الشيء من صفات (المسيح المنتظر) فبدلا من ان يقوم بتكوين جيش يهودي يثور على الأمبراطورية الرومية التي كانت تستعبد الشعب اليهودي ، رأوه يتكلم عن التسامح والمحبة والسلام ، وكذلك عندما سمعوا انه صُلب ومات ولم يحرر الشعب اليهودي من الإستعمار الرومي اعتبره لا علاقة له بذلك المسيح الذي يحلم الشعب اليهودي بقدومه ، لذا بعد اختفائه من الوجود نسوا أمره وتابعوا إيمانهم بدينهم الذي كانوا عليه.

ولكن اليهود القلائل الذين اتبعوا عيسى عليه السلام وآمنوا به في البداية على أنه المسيح المنتظر، بعد صعوده إلى السماء تابعوا إيمانهم به وعلى أنه هو المسيح رغم أنه لم يقم بالدور الرئيسي للمسيح المنتظر ، هؤلاء اليهود الذين إعتنقوا الدين الجديد تابعوا إيمانهم هذا ونقلوه إلى جميع الشعوب الأخرى التي إعتنقت الدين الجديد.

إذا بحث أحدهم فيما حصل في فترة ظهور عيسى عليه الصلاة والسلام بنفس المنهج المادي الذي يستخدمه علماء عصر الحديث بمختلف فروع علومهم سيشعر بنوع من التناقض ، فمن جهة وحسب إعتقاد المؤمن اليهودي الذي كان يتبع تعاليم دينه أن المسيح المنتظر دوره الرئيسي الذي سيرسله الله من أجل القيام به هو تحرير اليهود من العبودية ليستعيد الشعب اليهودي ذلك المجد الذي حققه داوود لشعبه ، ولكن بما ان هذا اليهودي المؤمن بتعاليم دينه رأى أن عيسى ظهر واختفى ولم يحقق اي شيء كهذا وأن الشعب اليهودي ظل مئات السنين تحت سيطرة الإستعمار الرومي ، فله كامل الحق بعدم الإيمان بعيسى على أنه هو المسيح كما كان يظن أتباعه. فتعاليم الدين اليهودي كما أنزلها الله على الشعب اليهودي لا يذكر شيئا عن يوم الحساب ، وهذا حقيقة فإذا بحثنا في جميع كتب العهد القديم التي يؤمن بها اليهود لن نجد أي حديث عن يوم الحساب ويوم القيامة ، فحسب الديانة اليهودية بعد الممات لا يوجد شيء . وعيسى كما يعلم اليهود ظهر ومات مصلوبا ولم يحرر الشعب اليهودي وهذا يعني انه إنتهى بالنسبة لهم فكيف يؤمن هذا اليهودي المؤمن الذي يتبع تعاليم الله بأن عيسى سيعود بعد مماته ليقوم بدور المسيح المنتظر.

و من جهة أخرى فبالنسبة للمسيحي فقد آمن بأن عيسى هو حقا المسيح كما تذكر تعاليم دينه ، وأنه فعلا لم يقم بدوره في القضاء على أعداء الله ولكنه سيعود ليقوم بهذه المهمة لأن عيسى أخبرهم بوجود يوم القيامة ، والإسلام أيضا يوافق على هذا الإعتقاد . فكيف يفعل الله هذا التناقض بين الديانة اليهودية والديانة المسيحية لتحدث هذه الاختلافات بين الديانتين رغم أن كلاهما من الله نفسه ؟

إن سبب عدم فهم المعنى الرمزي لأسم (المسيح) هو سبب الشعور بوجود هذا التناقض بين الديانتين ولكن في الحقيقة لا يوجد أي تناقض وما حدث في تلك الفترة لم يكن سوى حكمة إلهية لتحقيق هدفين معا : الأول إستمرار الديانة اليهودية كديانة سماوية ، ولهذا نجد انه رغم أن عدد اليهود الذين آمنوا بعيسى كنبي من الله ولكن بعد إختفائه عادوا إلى دينهم ثانية ، القليل جدا منهم فقط هم من تابعوا الدين الجديد (الدين المسيحي) واستطاعوا نشره في الشعوب المجاورة ليبقى حتى يومنا هذا .

لنعود ثانية إلى معنى كلمة (المسيح) .

كلمة (المسيح) كمصطلح ديني كما تستخدمه الكتب المقدسة للعهد القديم معناه الحرفي ( الممسوح بالزيت) فحسب التقاليد الدينية اليهودية أن الشخص الذي يختاره الله كحاكم للشعب اليهودي كان يتم مسح رأسه بالزيت من الكهنة عند إستلامه هذا المنصب ، فالمسح بالزيت لم تكن بمثابة التتويج ليكون ملك عليهم ، ولكنها كانت بمثابة وضعه خليفة الله في الأرض ، ورغم إتباع هذه العادة الدينية كنوع من التعاليم الإلهية ولكنها حتى الآن لم يحاول أحد تفسير هذا الرمز الديني بشكل يستطيع المؤمن بها فهم الحكمة الإلهية من أدائها ومعناها لتجعل الشخص الممسوح بالزيت قد حصل على المباركة الإلهية في دوره الذي أعطاه الله كخليفة له . فتسمية الشخص ب(المسيح) تعني أيضا أن هذا الشخص سيقوم بتطهير النفوس أي أنه سيقوم ب(مسح) تلك الشوائب التي دخلت الإنسانية بسبب تلك الخطيئة التي أخرجت الإنسان من الجنة ، وذلك عن طريق القضاء على روح السوء التي تتحكم في سلوك الإنسان لتجعله يبتعد عن الطريق المستقيم الذي رسمه الله له إكمال تطوره نحو الكمال الروحي والجسدي.

صفة (المسيح) بكلا المعنيين ظهرت لأول مرة كرمز يعبر عن صفات النبي يوسف في سفر التكوين، حيث نجد في قصة يوسف في الآية ٢٣ من الاصحاح ٣٠ من سفر التكوين عن امه راحيل (فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتِ ابْنًا فَقَالَتْ: «قَدْ نَزَعَ اللهُ عَارِي»). في هذه الأية نجد أن أم النبي يوسف تقول أن الله نزع عنها الخطيئة لأنها أستطاعت أن تحمل طفلا ستسميه يوسف ، في هذه الآية نرى معنى كلمة (مسيح) كفعل نزع العار اي (مسح) ، فيوسف هنا هو ابن تلك الام الخالية من الخطيئة . والمقصود هنا رمزيا هي تلك الخطيئة التي فعلتها أم البشرية حواء والتي سببت خروج الإنسان من الجنة . أما المعنى الثاني لكلمة مسيح (الممسوح بالزيت) فنجده كرمز في أسم (يوسف) فهذا الأسم المشتق من أسم ثمرة اليوسفي . فكما ذكرنا في مقالات ماضية ( الخاطرة ٥٤ : الدور الحقيقي للمرأة) ان ثمرة التفاح هي تلك الثمرة التي أخرجت آدم وحواء من الجنة وهي رمزيا تعبر عن الإتحاد الجسدي بين المرأة والرجل الذي يحصل بسبب الشهوة الجنسية ، وهذا النوع من العلاقة هو الذي يؤدي إلى ظهور غريزة القتل في المجتمعات فخطيئة حواء وآدم هي التي ادت إلى ولادة قابيل الذي قتل أخيه هابيل ، ولكن استمرار الإنسانية يحتاج إلى تزاوج الرجل والمراة روحيا وجسديا ، وبدون هذا الإتحاد الجسدي بين الرجل والمرأة لا يمكن للمراة ان تحبل وتلد ، وعليه فإن ثمرة (اليوسفي ) تعبر عن النوعين الإتحاد الروحي والجسدي كما شاء الله عز وجل للإنسانية.

لب ثمرة اليوسفي ( الجزء المأكول) يعبر عن الإتحاد الروحي بين الرجل والمرأة ، أما قشرتها فإنها تعبر عن الإتحاد الجسدي . وكلمة (المسيح) كرمز إلهي تعبر عن الإتحاد الجسدي ، لذا نرى قشرة ثمرة اليوسفي تحوي غدد زيتية عديدة تجعلها تبدو وكأنها ممسوحة بالزيت ، وهذا هو المقصود من معنى كلمة (المسيح) كمعنى حرفي في اللغة العبرية (الممسوح بالزيت) .

إن إنكار اليهود بأن عيسى هو المسيح ليس خطأً ، ولكن حكمة إلهية تؤكد على أن أمه مريم كانت عذراء لم يمسها رجل ، فعيسى في حياته التي عاشها قبل حوالي ألفي عام لم يكن المسيح ، ولكن طالما أنه عيسى هو نفسه الذي سيأتي قبل يوم القيامة وهو الذي سيقضي على (الأعور الدجال ٦٦٦) فهذا يعني أن الديانة المسيحية أيضا على حق ، الديانتين المسيحية والإسلامية تؤمنان بأن عيسى هو المسيح لأنهما تنظران إلى دور عيسى الشامل لا إلى دور عيسى في تلك الفترة التي ظهر فيها قبل ألفي عام . لذلك نجد أن الحكمة الالهية في تصميم الكتب المقدسة المسيحية أن الآناجيل الثلاثة ( إنجيل يوحنا ، إنجيل مرقس، إنجيل لوقا) التي تتكلم عن حياة عيسى عليه السلام لا تذكر كلمة (المسيح) ، فقط إنجيل متى في الآية ١٦ والأصحاح ١٦ تذكر كلمة المسيح على لسان بطرس (فأجاب سمعان بطرس وقال أنت المسيح ...) وعيسى فقط يؤكد له على صحة كلامه . لانه لو عارضه فهذا يعني ان المسيح الذي سيأتي في يوم القيامة هو شخص آخر وهذا خطأ . أما الكتب المقدسة المسيحية الآخرى (أعمال الرسل والرسائل) فهي تذكر كلمة المسيح للتعبير عن عيسى كشخصية شاملة وليس فقط لتلك الفترة التي عاشها قبل ألفي عام .

القرآن الكريم أيضا يتبع نفس المبدأ الموجود في الكتب المقدسة المسيحية ، فنجد ان آيات سورة مريم التي تتكلم عن قصة مريم وولادة عيسى لا تذكر نهائيا كلمة (المسيح) ولكن تذكر اسم (عيسى) فقط . اما كلمة المسيح فمذكورة في سورة النساء وسورة آل عمران (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ .... النساء١٥٧ ) والآية (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ .. .. النساء١٧١) ، و الآية (إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ..آل عمران ٤٥) .

هذه الآيات تتحدث عن شخصية عيسى الشاملة في الدنيا والآخرة ، وليس فقط عن شخصية عيسى الذي عاشها قبل ألفي عام ، لذلك كانت عناوين السور تدل على معنى شامل وليس شيء محدد ، حيث (آل عمران) المقصود بهم جميع من سيشاركون في إعمار ( التطور) الروحي للإنسانية ، وكذلك (النساء) المقصود بهم النساء بشكل عام وليس مريم فقط.

مما ذكرناه قبل قليل نستنتج معلومة هامة جدا وهي أن عيسى عليه السلام الذي عاش قبل حوالي ألفي عام ولد من إمرأة عذراء بدون أن يمسها رجل ، لذلك أخذ دور المرأة التي يقتصر على التنمية الروحية للعواطف الإنسانية من تسامح ومحبة وسلام ، فكما هو معروف عن أي ام أنها دوما تسامح اولادها مهما كانوا على خطأ ولا توجد أم تتمنى أن يعاقب ابنها قتلا ليموت على أخطائه، ولكن دوما تأمل انه يوما ما سيتحول إلى إنسان صالح يسعد في دنياه وآخرته، لأنها أم ولأنها ستشعر انها لم تكن أم صالحة وأنها هي التي ساهمت في دفعه إلى الطريق الخاطئ . وما فعله عيسى عليه السلام قبل ألفي عام هو مساعدة هذه الأم في تربية أطفالها لترضى على نفسها وهي تشعر بانها قد صنعت أبناء صالحين .

أما عيسى عليه الصلاة والسلام هو نفسه عندما سيأتي قبل يوم القيامة والذي سيحمل أسم ( المسيح) فإنه سيولد ولادة طبيعية من رجل وإمرأة ويأخذ دور الرجل الذي سيقضي على منبع روح السوء (الأعور الدجال ٦٦٦) ويعيد المجد لاولئك المظلومين بسبب تمسكهم بتعاليم الله في التسامح والمحبة والسلام بين الشعوب أجمعين.

وسوم: العدد 799