الخاطرة ٢٠٧ : (الحكمة الإلهية في الآيات المحكمات والآيات المتشابهات)

خواطر من الكون المجاور

كان من المفروض أن تكون مقالة اليوم الجزء ١٠ من سلسلة " ابن رشد الفيلسوف المظلوم " ، ولكن لاحظت أن المقالات الأخيرة التي حاولت فيها ذكر محاسن الأمة المسيحية وإثبات أن كتبها المقدسة فيها نور الله وأن اتباع الدين المسيحي الذين يتبعون تعاليم دينهم بروحهم ودون أي مصلحة شخصية هم أيضا من المؤمنين . وكذلك بسبب ذكر الحقائق الإلهية التي تؤكد على أن الدين الإسلامي ليس دين الإنسانية جمعاء وأن ديانة كل أمة هي من الله فوجب أن تبقى إلى يوم الدين . هذه المعلومات يبدو أنها أزعجت الكثير من القراء ودفعتهم ليس فقط بالتوقف عن قراءة بقية أجزاء السلسلة ولكن أيضا إلى هجر صفحة (عين الروح) نهائيا . وكوني أتبع مبدأ (العلم في خدمة الإنسان) لذلك فضلت أن أكتب هذه المقالة قبل متابعة بقية أجزاء السلسلة .

للأسف نعيش في عصر تسيطر عليه قوانين مادية وروحية تفرض على الإنسان منذ طفولته ان يسير مع التيار ليحقق النجاح في حياته ، وأقصد هنا النجاح في الحياة الدنيا ، لأن حياة الآخرة أصبحت كلمة نؤمن بها عقليا ولكن روحيا فمفهومها ليس له أي تأثير على سلوكنا الشخصي ، لذلك نجد أنه من ينشر معلومة فيها مديح للإسلام والمسلمين في وسائل التواصل الإجتماعي تجد عليه مئات المشاركات وآلاف الإعجابات ، رغم أن المعلومات المنشورة لا تساهم على الإطلاق في حل أي مشكلة من مشاكل الأمة الإسلامية ، وجميع هذه الإعجابات هي فقط بسبب مدح الإسلام لأنه دين المسلمين ، وهؤلاء هم فقط من يضعون الاعجابات عليها .

للأسف هكذا أصبح الإنسان المعاصر يصفق لكل من يمدح شيء خاص به ، ويشتم كل من يذكر حقائق تعارض صفة من صفاته الخاصة به. والمشكلة للإنسان المعاصر أن مقالاتي جميعها تسير عكس التيار ، فهي تذكر فقط الحقائق الإلهية كما هي بدون أي إنحياز شخصي ، بهدف كشف الحقيقة المؤلمة للجميع والتي تعيشها الإنسانية في عصرنا الحديث ، وهذا النوع من الحقائق ، الإنسان المعاصر لا يريد أن يعرف عنها أي شيء ، وإن سمعها فلن يتقبل بها نهائيا ، لأن المنهج الدراسي والثقافي في العصر الحديث قد وضع فكر الإنسان المعاصر في قالب صلب من الصعب لأي رأي مناقض أن يدخل هذا القالب ، الله عز وجل يصف هذا الجماد الفكري للإنسان المعاصر في سورة البقرة (إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ..... (١٧٠) . المقصود بكلمة (آباءنا) في هذه الآية هو كل شخص له القدرة على تحديد نوعية الثقافة العامة التي يتبعها المجتمع والتي سيتعلمها الإنسان منذ طفولته لتسيطر على سلوكه وفكره عندما يكبر .

بصراحة تامة لا يهمني لا عدد القراء ولا عدد المشاركات ولا عدد الإعجابات ، فلو كان هذا هو الغرض من نشر مقالاتي التي أهدر عليها ساعات طويلة لكتابة واحدة منها ، لكنت توقفت عن الكتابة من الأشهر الأولى من تكوين صفحتي (عين الروح) ، ولكن ما يدفعني للاستمرار في الكتابة هي الآية التي أذكرها كل فترة وفترة ليقرأها القراء الجدد (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ .١٥٩ البقرة) . القارئ حر ليفعل ما يشاء ، ولا أطلب منه أي شيء ، فواجبي كإنسان يبحث عن الحقيقة هو الذي يفرض علي أن أستمر في الكتابة ، أما عن نتيجة ما أكتبه فأتركها لله عز وجل فهو أعلم العالمين .

في المقالة الماضية ذكرت أن الحكمة الإلهية قد قسمت آيات القرآن الكريم على نوعين : النوع الأول هو (الآيات المحكمات وهن أم الكتاب) ، والنوع الثاني (الآيات المتشابهات) ، وذكرت أيضا أن أبحاثي تعتمد النوعين من الآيات ، ويبدو أن بعض القراء لم يستوعبوا جيدا الفرق بينهما بسبب شرحي المختصر لمعنى كل نوع ، ولكن لأهمية هذا الموضوع في البحث وفهم حقيقة تعاليم الدين الإسلامي لهذا سأحاول هنا توضيح الفرق بين النوعين بشيء من التفصيل إن شاءالله.

تعريف الآية (المحكمة) كمصطلح ديني عند علماء الدين : هي ما عُرِفَ المراد منها ، أو هي التي معناه لا يحتمل إلا وجهاً واحداً ، أو هي ما استقلَّت بنفسها ، ولم تحتاج إلى بيان وتوضيح .

أما تعريف الآية (المتشابهة) كمصطلح ديني عند علماء الدين : فهي ما احتملت أكثر من وجه ، أو ما احتاجت إلى بيان بردِّها إلى آية غيرها لتوضيح معناها ، أي أنها غير مستقلة بنفسه ، فالآية المتشابهة يحتمل لها عدة معان .

إن تعريف علماء الدين للآيات (المحكمات والمتشابهات) ليس خطأ ، ولكنه تعريف سطحي فقير لا يفيد المسلم في فهم حقيقة معاني الآيات القرآنية ، فهذا التعريف الفقير يعتمد على مبدأ (العلم للعلم والدين للدين) ، ولهذا السبب كانت نتيجة هذا التعريف أن الآيات المحكمات والمتشابهات تختلف من مذهب إلى مذهب آخر. فرغم المحاولات العديدة لبعض علماء الإسلام الصالحين في توحيد الأمة الإسلامية دينياً ، نجد أن جميع هذه المحاولات قد فشلت فشلا ذريعا في كل مرة ، وسبب هذا الفشل هو إختلاف الآيات المحكمات التي يعتمد عليها كل مذهب ، فاستمرار تباعد المذاهب عن بعضها البعض وظهور الفتنة بينها سببه الحقيقي هو أن علماء الدين ، معظهم اليوم يستخدمون الآيات المتشابهات على أنها آيات محكمات في مذاهبهم لهذا لم تنجح تلك المحاولات في توحيد الأمة الإسلامية دينيا ، فكما يقول الله عز وجل (...فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ... ٧ آل عمران) ، وهذا يعني أن تعريف علماء الاسلام بجميع مذاهبه للمعنى الحقيقي للآيات (المتشابهات والمحكمات) يختلف تماما عن المعنى الذي قصده الله لهذه الآيات في قرآنه الكريم . هذا ليس رأيي الشخصي ولكن هو حقيقة تعتمد القانون الذي يقول (النتيجة أقوى إثبات علمي) والنتيجة اليوم واضحة امام كل مسلم كوضوح نور الشمس ، فالجميع يعلم عن العداوة المستمرة بين المذاهب الإسلامية منذ قرون عديدة رغم وجود النية الصالحة في بعض العلماء من جميع المذاهب لتجاوز تلك الإختلافات . فالطامة الكبرى أن علماء كل مذهب يعتقدون أن مذهبهم فقط يعبر عن الإسلام الصحيح وأن بقية المذاهب هي التي على خطأ . ولكن الحقيقة هي أن جميع المذاهب فيها الصح وفيها الخطأ . وما يحصل بين المذاهب الإسلامية يحصل مثله أيضا بين الديانات .

لذلك سنحاول هنا تفسير الإختلاف بين معنى الآيات المتشابهات والآيات المحكمات بطريقة فلسفية تعتمد على على مبدأ (الدين في خدمة سعادة الإنسان) ، وسنعطي أمثلة توضح الحكمة الإلهية من هذا الإختلاف وبنفس الوقت لتؤكد هذه الأمثلة على صحة بعض الأفكار التي ذكرناها في المقالات الماضية والتي لم يقبل بها بعض القراء فتوقفوا من متابعة قراءة بقية الأجزاء من سلسلة (ابن رشد الفيلسوف المظلوم ) :

كلمة (المحكم) لغويا : مصدرها فعل حَكُمَ : حكُمَ يحكُم ، حكُم الشَّخصُ : أي أن الشخص قد أعطى رأيه في الأمر بعد دراسته وبحثه بعمق ، لذلك في الماضي كان الشخص المُلم بعلوم عديدة يسمى حكيم .الحِكْمَةُ : هي معرفةُ معاني الأشياء بأَفضل العلوم .

اما كلمة (المتشابه) لغويا : فمصدرها من الشبه والتشابه ، فنقول مثلا : الكلب يشبه الذئب ، وهذا يعني أن الكلب ليس ذئب ولكن يشبهه في الشكل ، فتشابه الكلام لا يعني بالضرورة أن له نفس المعنى .

ومعنى (محكم أو متشابه) كمصطلح يستخدمه القرآن ، فهو نفس معناه اللغوي ولكن كونه يتعلق بكلام الله فهو يحوي في داخله حكمة إلهية غنية بالمعاني ويحتاج كل معنى شرح مفصل ، فكتاب القرآن الكريم أنزله الله ليكون مناسبا لمستوى معارف الإنسانية في كل مكان وكل زمان . ولهذا تم وضع الآيات بحكمة إلهية لتكون على نوعين : متشابهات ومحكمات ، بحيث تكون المحكمات هن أم الكتاب لأنها آيات لا يتغير معناها لا حسب المكان ولا حسب الزمان ، أما المتشابهات فيتغير معناها حسب المكان وحسب الزمان ، فمثلا إذا أردنا تعليم الطفل معنى كلمة (ماء) نأتي له بماء في الحالة السائلة ، فالمعلومة (الماء مادة سائلة) هي من المتشابهات ، لأن الماء في الطبيعة يوجد على ثلاث حالات (جامد ، سائل ، بخار) . فعبارة (الماء سائل) هي أنسب معلومة تلائم مستوى فهم عقل الطفل لأن الماء في الظروف الطبيعية التي يعيش فيها الطفل يوجد بحالة سائلة . أما إذا ذكرنا لطفل الحالات الثلاثة مباشرة فهي لا تلائم مستوى إدراكه الطفولي ، فيجب علينا عندها أن نشرح له تأثير الحرارة في تغيير الماء من حالة إلى حالة ويجب أيضا أن نذكر له نظام قياس درجات الحرارة ، ومعنى درجة الحرارة عند الصفر ، ودرجة الحرارة عند المئوية ، ولكن مستوى عقل الطفل في هذا العمر لا يستطيع فهم لا معنى (الصفر) ولا معنى (المئوية) ، وعندها بدلا من أن يكتسب الطفل معلومة بسيطة مفيدة له سيتعكر فكره الطفولي وبالتالي سيؤدي ذلك إلى تشويه الفطرة الإلهية التي وضعها الله في الطفل والتي تجعله يرى الشكل والمضمون معا في الشيء الذي يراه، بمعنى ان المعلومة ستشوه التعبير الروحي للماء في الإدراك الفطري للطفل ، فحاجة الطفل للماء في هذا العمر هو مضمونه ، الطفل عندما يعطش سيطلب الماء في حالته السائلة ، ولن يستفيد من الماء الجامد أو من بخار الماء في تكوينه الإنساني. لذلك فإن الوصف الصحيح للماء كمعلومة تناسب إدراك الطفل هي (الماء سائل) . أما عندما يكبر الطفل ويكتسب معارف من علوم أخرى كالفيزياء والكيمياء ، عندها نقول له ان الماء يتألف من إتحاد ذرتين من الهيدروجين مع ذرة واحدة من الأوكسجين ، فمعلومة أن الماء هو (H2O) هي معلومة (محكمة) ، ثابتة إلى الأبد .

هكذا تماما هي نوعية المعلومات في القرآن الكريم ، الآيات من النوع (المتشابهات) كانت مناسبة لتلعب دور كبير في فترة بداية الإسلام فمعاني هذه الآيات في هذه الفترة أعطت العلماء المسلمين ثقة كبيرة بدينهم وأبعدتهم عن بقية الديانات الآخرى ودفعتهم في البحث فقط في طبيعة دينهم الإسلامي ، ففي تلك الفترة كان من الضروري على العالِم المسلم ان لا ينشغل فكره في معرفة فضل الديانات الأخرى على تطور الإنسانية لأنها ستجعله يتوه فكريا ، فكان دور هذه (الآيات المتشابهات) هو تكوين أمة منفصلة عن بقية الأمم ، لها القدرة على صناعة حضارة لها هوية خاصة بها . وهذا تماما ما حصل في تلك الفترة ، فهذه (الآيات المتشابهات) تخص الأمة الإسلامية في تلك الفترة فقط لتساعد المسلمين آنذاك في تنمية الشعور بالإنتماء للأمة الاسلامية والفخر به ، أما بعد دخول الحضارة الإسلامية في عصر الإنحطاط فالأمر أصبح مختلف تماما ، فكون أن نور الحضارات قد إنتقل إلى أمة أخرى وكون الأمة الإسلامية تعاني من إنحطاط شامل لذلك فالاعتماد على (الآيات المتشابهات) فقط ينمي الشعور ب(الأنا) في كل مسلم فتحوله إلى إنسان متعصب لدينه ثم يتطور هذا الشعور نحو الأسوأ فيصبح متعصب لمذهبه الديني فقط ، ويستمر هذا الشعور السلبي في التطور نحو الأسوأ حتى يصل إلى مرحلة لا تهمه سوى (الأنا) الخاصة به شخصيا فيصبح إنسان أناني محب لنفسه فقط ويمكن له أن يستخدم أبشع الأساليب لتأمين مصالحه الشخصية ، وهنا لا نقصد فقط مصالحه المادية ولكن أيضا أفكاره التي يؤمن بها . وهذه تماما ما يحصل اليوم في الأمة الإسلامية والذي سبب دمار عدة دول إسلامية بسبب تنمية الشعور ب(بالأنا) إلى أقصى درجاته.

القرآن الكريم يبدأ بسورة الفاتحة وبالآية المكتوبة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (١) ، في هذه الآية نجد أن الله يصف نفسه من البداية بأهم صفة من صفاته وهي الرحمة (الرحمن الرحيم) ، فكلمة (الرَّحمنُ) تعني الفائق الرحمة ، وهو وصف خاص بالله عزَّ وجلّ ، ولا يجوز أَن يقال لغيره . فالإسلام هو أولا دين رحمة ، والآية القرآنية في سورة الأنبياء تؤكد ذلك (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ(١٠٧ الأنبياء) . وهذا يعني أن القرآن بأكمله يطلب على المسلم أن يكون رحيما مع الآخرين ، لذلك فجميع الآيات التي تذكر الرحمة هي من المحكمات . ولكن للأسف فرغم أن علماء الاسلام بجميع مذاهبه اليوم يذكرون الآية (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) ربما مئات المرات يوميا ومع ذلك نجد أن إيمانهم معظمهم خالي من الرحمة ، فلو كانت الرحمة موجودة في إيمانهم لسيطرت على سلوكهم ولكانوا قد وجدوا العديد من الحلول لتوحيد الأمة الإسلامية دينيا ، لأن التوحيد الديني سيخفف من تلك الفتن الطائفية التي سببت مئات الألوف من الضحايا ودمرت ملايين العائلات وشردتهم من ديارهم .

الرحمة التي يشعر بها المسلم نحو أولاده أو أقربائه أو نحو أفراد طائفته فقط ، هي رحمة مزيفة لأن سببها ال(الأنا) التي تسيطر عليه . فأن يؤمن المسلم بأن دينه هو الصحيح فقط وأن بقية الأديان على خطأ ، فهذا الإيمان لا يعني فقط بأن المسلم خال من الرحمة تماما ولكن أيضا يكُذب صحة الآية الأولى من القرآن الكريم (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) . فهل من المعقول هذا الخالق الأرحم الراحمين والأعلم العالمين ، أن تكون أقواله في كتبه المقدسة ضعيفة يمكن لأي دجال او منافق أن يقوم بتشويهها ليجعل تلك الأمة التي تؤمن بها من الضالين إلى الأبد . أين الإحساس بالرحمة في قلب وفكر إنسان يعتقد أن دينه فقط هو على حق وأن بقية الاديان على ضلال ؟ أين صفة (أعلم العالمين) في هذا الإعتقاد طالما أن إنسان بسيط يستطيع تحويل كتاب مقدس الى كتاب كفر ودجل يضل به أتباع هذا الدين إلى الأبد ؟ تعاليم دين الإسلام الحالي التي تؤكد على صحة هذا الإعتقاد ، هي تعاليم دين لا رحمة فيه لا على أتباع بقية الديانات ولا حتى على أتباعه هو ، هذه حقيقة تؤمن بها جميع الأمم اليوم عن الأمة الإسلامية، فقط الأمة الإسلامية هي التي ترفض صحتها.

الحكمة الإلهية في القرآن الكريم تستخدم طريقة واضحة تماما للكشف عن الفرق بين الآيات (المحكمات) والآيات (المتشابهات) ، ولكن حتى يستطيع العالِم المسلم أن يرى هذا الفرق يحب أن يكون لديه (الإحساس بالرحمة) في أعلى مستوياته لتكون الرحمة هي القاعدة الاولى التي تسيطر على فكره أثناء بحثه ودراسته لفهم معاني آيات القرآن. فكما ذكرنا أن كلمة (متشابهات) مصدرها الشبه والتشابه ، الحكمة الإلهية تستخدم كلمة (شبه) في المكان المناسب الذي يعبر عن طبيعة ودور الآية المتشابهة ، حيث كلمة (شبه) تظهر في الأية (...... وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ.....١٥٧ النساء) فهذه الآية تتحدث عن الاختلاف بين الديانتين المسيحية والإسلامية في قضية صلب عيسى عليه الصلاة والسلام. الحكمة الإلهية في هذه الآية تؤكد أن معنى عبارة (وما قتلوه وما صلبوه) ليست من المحكمات ولكنها من المتشابهات أي أن هذه العبارة تحتمل معاني أخرى . لذلك لا يمكن لأي مسلم إستخدام هذه الآية لإثبات تحريف الإنجيل وضلال المسيحيين . فإن وضع كلمة (شبه) في هذه الآية ليس صدفة ولكن حكمة إلهية تؤكد صحة معنى المتشابهات ، وإلا لكان تم إستخدام كلمة أخرى بعيدة لفظا ومعنى عن كلمة (متشابهات) ، الحكمة الإلهية في تصميم آيات القرآن الكريم لا تنكر صلب عيسى المسيح في هذه الآية ، ولكن تضيف معلومة أخرى عن حادثة الصلب لم يذكرها علماء المسيحيين حتى اليوم ، وإن شاء الله في المستقبل سنشرحها بالتفصيل لنوضح حقيقة حادثة صلب المسيح ودورها في فهم التكوين الروحي للإنسان . قصة عيسى المذكورة في الإنجيل مذكورة أيضا في القرآن الكريم ولكن بطريقة رمزية بحيث القراءة السطحية له لا تستطيع إكتشافها .

بهذه الطريقة إستطاعت الحكمة الإلهية باستخدام عبارة بسيطة (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ) أن تجعل المسلمين في فترة الحضارة الإسلامية بدلا من أن يفكروا بموضوع صلب عيسى والهدف منه وعلاقته بدين الإسلام ، ابتعدوا عن الإنجيل وإهتموا فقط بفهم تعاليم القرآن ، أما اليوم فالأمر مختلف فالآيات المتشابهات بردها إلى الآيات المحكمات تأخذ معان جديدة تساهم في تنمية تعاون الديانات مع بعضها البعض لفهم الكتب المقدسة بالمعاني المناسبة لطبيعة التكوين الإنساني في عصرنا الحاضر .

الحكمة الإلهية في تصميم القرآن الكريم في سورة الحجرات أشارت إلى صحة هذه الفكرة التي ذكرناها قبل قليل ، في عدة آيات :

- إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)

- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ .... (١١)

- يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)

- قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا ... (١٤)

- قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦)

إن وضع هذه الآيات في سورة الحجرات ليس صدفة ولكن حكمة إلهية تحتاج إلى عين بصيرة لرؤيتها ، فسورة الحجرات تأتي في الترتيب بعد سورة الفتح التي بدورها تاتي في الترتيب بعد سورة محمد ، وهذا التسلسل هو رمزي له معنى أن سورة محمد ترمز لظهور الإسلام ، وسورة الفتح تعني فتح الله على المسلمين لتكوين الحضارة الإسلامية كأمة واحدة أي (حجرة) واحدة ، أما سورة الحجرات فتعني إنتهاء الحضارة الإسلامية ودخولها في عصر الإنحطاط ، فمعنى حجرات هنا هي الأمم التي تتكون منها الإنسانية ، لهذا الله عز وجل يستخدم كلمات واضحة في المخاطبة، كلمة (ناس) وتعني الإنسانية بأكملها وليس فقط الأمة الإسلامية ، ولهذا أيضا الآيات لا تستخدم كلمة (مسلمين) ولكن كلمة (مؤمنين) ، فكل مسلم لا يعني بالضرورة أنه مؤمن وكل مؤمن لا يعني بالضرورة أنه مسلم ، لذلك نجد أن الآية تذكر (قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا.....أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ، فهؤلاء المسلمين - الذين يخاطبهم الله في هذه السورة - مكانتهم عند الله لا تختلف عن مكانة أولئك اليهود والنصارى الذين ينتقدهم في قرآنه الكريم بسبب تحريفهم لتعاليم كتبهم المقدسة. فدين الإسلام الحالي لا يختلف عن بقية الديانات لأن جميعها قد حرفت معاني آيات كتبها المقدسة ، ولهذا الإنسانية اليوم بأكملها تعاني من إنحطاط روحي.

آيات سورة الحجرات هي من النوع (المحكمات) ، فهذا النوع من الآيات تخص ليس الأمة الإسلامية فقط ولكن جميع الأمم في كل مكان وزمان ، فهي تنمي في الإنسان الشعور ب(نحن) وأقصد ب(نحن) أي الإنسانية بأكملها ، فمصير الإنسانية لا يتوقف على أمة واحدة ولكن على جميع الأمم .

الآية (.... وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (١٢) ، موجودة في سورة الحجرات ، ووجودها هنا ليس صدفة ولكن حكمة إلهية ، والمقصود منها ألا يتكلم المسلمون عن عيوب الأمم الأخرى بحقد وكراهية ، وأن يتذكروا بما حصل بالمسلمين في المحاولة الثالثة لفتح القسطنطينية (عام ٩٨ هجري) التي ذهب فيها ربع مليون شهيد مسلم ، والتي فيها سّخر الله عناصر الطبيعة كلها ضد المسلمين لحماية المسيحيين ، فوصلت الحالة بهم من شدة الجوع والصقيع أن يضطر المسلم أن يأكل لحم أخاه الميت ليسد جوعه. فهذه الحادثة كما ذكرنا في المقالة الماضية هي حقيقة إلهية ويجب على كل مسلم أن يتذكرها ليعلم أن في الأمم الأخرى يوجد مؤمنين ومكانتهم عند الله لا تقل عن المسلمين المؤمنين ، لهذا لا يجوز عداوتهم او شتمهم ولكن بدلا من ذلك يجب على المسلمين التعاون معهم لتستطيع الإنسانية حل مشاكلها التي تعاني منها في شتى المجالات. " وخير الناس أنفعهم للناس" كما يذكر الحديث الشريف.

الملحدون اليوم يستخدمون الآيات المتشابهات الموجودة في الكتب المقدسة على أنها آيات متناقضات ليسخروا منها ومن كل شخص يؤمن بالله ، وللأسف معظم علماء الأديان أيضا يستخدمونها لتثبت كل فئة منهم أن دينهم فقط هو على حق بينما بقية الأديان فهي على ضلال . وأفضل مثال على هؤلاء هو الدكتور ذاكر نايك الهندي ، الذي يعتبر أشهر داعية إسلامي في العصر الحديث ، حيث أن براعة حفظه لآيات القرآن بأكملها والآحاديث الشريفة وأرقامها غيبا وكذلك حفظه للإنجيل والتوراة والكتب الهندوسية ، أبهرت جميع المسلمين ، ولكن نجد أن جميع إثباتاته في ضلال الأديان الأخرى تعتمد على الآيات المتشابهات ، ولهذا السبب أصبح الدكتور ذاكر أكثر مسلم مكروه من بقية الأمم ، فجميعهم يعتبرون أن مناظراته التي تجذب عشرات الملايين المسلمين هدفها الحقيقي تنمية التعصب الديني ونشر الفتنة والعداوة بين الأديان ، لأن أسلوبه يعتمد فن تكريه غير المسلم في دينه . وطالما أن هذا العالم المسلم أصبح قدوة لمئات الملايين المسلمين ، لهذا كانت النتيجة أن يحصل العكس تماما ، فبدلا من أن ينتشر الإسلام كدين في بقية الأمم إنقلبت الأمور في الأمة الإسلامية رأسا على عقب فظهرت ثورات الربيع العربي التي تحولت إلى جحيم عربي لا يعبر سوى عن شدة الحقد بين المذاهب الإسلامية . فكان ضحيتها مئات الآلوف من القتلى والملايين من النازحين المسلمين . هذه الصورة الجديدة للأمة الإسلامية أقنعت جميع الأمم أن الدين الإسلامي هو دين فتن وعنف وإرهاب ، هناك كثير من النازحين اليوم وبسبب فظاعة ما عانوه في بلادهم من حروب أهلية وصلوا إلى مرحلة أن يكرهوا كلمة (دين) وكل إنسان يتكلم عن الدين . للأسف المسلمون بسبب إنحطاطهم الديني وعمى البصيرة فيهم بدلا أن يتهموا الدكتور ذاكر نايك وأمثاله من علماء الدين ، اتهموا الأيدي الأجنبية لما حصل في الأمة الإسلامية ، ولكن الحقيقة هي أن هذه الأيدي الأجنبية هي الجرثومة ، والقانون الإلهي يقول أن الجرثومة لا تنشط إلا في الوسط المناسب لها . فسبب تحول الأمة الاسلامية إلى وسط مناسب لنشاط الجراثيم (الأيدي الأجنبية) فيها هو إعتماد علماء الدين امثال ذاكر نايك وغيره على الآيات المتشابهات في القرآن بهدف فصل الإسلام روحيا عن بقية الأديان ..

المؤمن هو الإنسان الذي قلبه مليء بالرحمة ، وهذه الرحمة هي التي ستجعله عندما ينظر إلى بقية الأمم يرى أطفالها أولا فيشعر مباشرة بالرحمة والعطف نحوهم ، هذا الشعور السامي سيجعله يؤمن أن الآيات المتشابهات في الكتب المقدسة ليست متناقضات ولكنها إختلافات بسبب إختلاف زوايا الرؤية لنفس الموضوع ، لأن المؤمن يؤمن ان الله هو أرحم الراحمين ومن المستحيل أن تكون آيات الكتب المقدسة التي هي كلام الله هدفها هو نشر الفتن والعداوة بين المذاهب والأمم ليسبب في شقاء وتعاسة أطفالها . وعلى هذا المبدأ يحاول المؤمن أن يبحث بعمق في هذه الآيات ليصل إلى الحقيقة الإلهية فيها تلك الحقيقة التي تنمي الشعور بالتسامح والتعاون بين المذاهب وبين الأمم . الإنسان الضال روحيا هو الذي فكره وسلوكه ينتمي إلى (الأنا) فيسعى إلى تشويه حقيقة الآخرين، بينما المؤمن هو الذي فكره وسلوكه ينتمي إلى (نحن) فيسعى إلى تحقيق سعادة أطفال الإنسانية بأكملها لأن هؤلاء الأطفال هم مستقبل جميع الأمم . جميع أبحاثي هدفها تقوية الشعور بالإنتماء إلى (نحن) ، ودعائي الدائم لنفسي ولغيري هو " إلهي زدنا علما " ، فبدون علم لا يوجد إيمان حقيقي ، وبدون إيمان لن يأتي الفرج الإلهي .

في المقالة القادمة إن شاء الله سنتابع سلسلة (إبن رشد الفيلسوف المظلوم ).

وسوم: العدد 808