الخاطرة ٢٠٨ : الركود الفكري والتجديد الفكري الديني

خواطر من الكون المجاور

للمرة الثانية أقوم بتأجيل الجزء ال١٠ من سلسلة "ابن رشد الفيلسوف المظلوم " فالنقاش في المواضيع الدينية يُعتبر من أشد المواضيع حساسية وخاصة في المجتمع الإسلامي ، وكون المقالات القادمة تخص موضوع ديني يتعلق بالأمة الإسلامية ، وبسبب طبيعة تعليقات بعض القراء على مقالاتي الأخيرة ، لهذا رأيت أنه من الأفضل كتابة مقالة تمهيدية لما سيأتي .

في البداية أود أن أُذّكر القراء ثانية بمثال ذكرته قبل فترة قصيرة : النظافة من الإيمان ، فإذا سلك أفراد المجتمع طريقا مناقض لهذه الصفة وتحول مجتمعهم إلى مجتمع قذر عندها تأتي جرثومة الكوليرا وتنتشر في هذا المجتمع لتسبب به كوارث بشرية وإقتصادية . هنا العالِم الذي يملك البصيرة (ثقافة من علوم شاملة) هو الذي سيوضح للناس بأن السبب الأول لهذه الكارثة التي حلت على مجتمعهم هي القذارة التي عمّت في جميع أنحاء مجتمعهم نتيجة سلوكهم الذي جعلهم يُهملون شروط النظافة ، وأن جرثومة الكوليرا هي فقط كنوع من العقاب الالهي على سوء سلوكهم هذا ، يقول الله تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ .... .١١ الرعد). هذا قانون وضعه الله ليمنع المجتمع من التطور نحو الأسوأ . أما العالِم الأعمى البصيرة فيتهم جرثومة الكوليرا فقط ولا يذكر شيئا عن النظافة ، العالم الذي يتهم الجرثومة فقط كأنه يتهم الله بإرتكابه الخطأ لأنه خلق جرثومة الكوليرا . للأسف معظم علماء الأمة الإسلامية اليوم ، بدلا من أن يشغلوا عقولهم في البحث عن تلك الآراء المناقضة لتعاليم دينهم التي بسببها أبعدت أمتهم عن العناية الإلهية . يختارون أسهل وسيلة لتبرير الوضع فيتهمون الجرثومة (الأيدي الأجنبية) لما يحصل في بلادهم .

مشكلة الأمة الإسلامية منذ دخولها في عصر الإنحطاط وحتى اليوم ، أنها تعاني من حالة تسمى (الركود الفكري) ، الجميع سمع بهذه العبارة ومعظم المثقفين يظنون أنهم يفهمونها ويحاربونها لأنها تسبب تخلف المجتمع ، ولكن الحقيقة هي أن الكثير من هؤلاء يدافعون عنها وبشدة ، وإذا بحثنا في الإنترنت نجد علماء بشهادات دكتوراه في نقاشاتهم يدافعون عن الركود الفكري بقوة بحجة حماية الدين والمبادئ السامية والأخلاق الحميدة .

لتوضيح معنى الحقيقي لمصطلح الركود الفكري سنعرض لكم هذا المثال البسيط : إذا أتينا بطفل صغير وطلبنا عدد من فناني الرسم أن يرسموا هذا الطفل من قمة رأسه حتى أخمص قدميه ، سنجد أن الفنان الأول الذي أنعم الله عليه الإحساس الروحي بالأشياء سيحاول في رسمه للطفل أن يضع كل إهتمامه في التعبير الروحي في وجه الطفل ، لهذا في لوحته ستظهر مباشرة لعين المشاهد براءة الطفولة . الفنان الثاني الذي أنعم الله عليه الإحساس بالتعبير الروحي للأرقام ، سنجده يُركز على تناسق أبعاد جسم الطفل ، الطفل هو كائن مختلف عن الإنسان البالغ ، لأنه يعيش في مرحلة نمو مختلفة عن مرحلة نمو البالغ ، لذلك نجد الفنان يرسم الطفل بأرجل قصيرة ورأس كبير ، لهذا المشاهد سيشعر مباشرة أن الشخص الموجود في اللوحة هو طفل وليس بالغ . الفنان الثالث الذي أنعم الله الإحساس بتعبير الألوان سيحاول التركيز على دقة الدرجات اللونية ، الطفل هو كائن جديد على سطح الأرض مثله مثل الثياب الجديدة التي لم تلوثها العوامل الطبيعية ، لهذا ألوان بشرته وشعره في كامل نقائها ، المشاهد عندما يرى لوحة الفنان الثالث سيشعر مباشرة بنقاء الطفولة من ألوان اللوحة وسيعلم أن الشخص الذي يراه هو طفل وليس بالغ . الفنان الرابع الذي أنعم الله عليه بمقدرة أخرى سيستخدم هذه المقدرة في لوحته ليعبر بها عن معنى الطفولة من خلال تلك المقدرة ، وهكذا سيفعل الفنان الخامس والعاشر .. إلخ .

إذا جمعنا جميع تلك اللوحات وتمعنا فيها سنأخذ فكرة شاملة عن تكوين الأطفال الروحي والجسدي . هذا الشعور سيدخل في عقلنا الباطني ويسيطر على سلوكنا ويجعلنا كلما رأينا طفل نشعر نحوه بالعطف والحنان والمحبة ، وهذا الشعور الباطني سيفرض علينا تحمل مسؤولية حماية جميع تلك الصفات النقية التي وضعها الله في كل طفل . هذا الأسلوب الذي يستخدم عدة زوايا في توضيح مواصفات تكوين الطفل يسمى (التجديد الفكري) .«إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». فكل عالِم جديد سيجد شيئا جديدا في تكوين الإنسان أو تكوين الطبيعة أو في الكتب المقدسة لتصحح شوائب المعلومات الدينية وبنفس الوقت لتضيف إليها معلومات جديدة لم تكن معروفة من قبل .

أما (الركود الفكري) فيحصل عندما نأتي بفنان ونطلب منه رسم الطفل ، وعندما ينتهي من اللوحة نرسل الطفل إلى بيته ونأتي بفنان ثاني ونطلب منه أن يرسم الطفل الموجود في اللوحة الأولى ، ثم نأتي بفنان ثالث ونطلب منه أن يرسم الطفل الموجود في اللوحة الثانية ، ونطلب من الرابع أن يرسم الطفل من اللوحة الثالثة ، وهكذا كل فنان جديد يرسم الطفل من اللوحة التي رسمها الفنان الذي قبله . إذا تمعنا في اللوحة رقم ثلاثين او رقم أربعين ، سنجد أنه في اللوحة لا يوجد طفل ولكن يوجد ما يشبه التمثال الخشبي ، تمثال بلا ملامح بلا أي تعبير روحي بلا أي شيء يحرك من نشاط فكر وإحساس المشاهد . الركود الفكري سيجعلنا ننظر إلى الأطفال فلا نشعر بشيء ، شعورنا هذا سيدمر البيئة الروحية في عالم الأطفال وستكون نتيجته تشويه الفطرة التي وضعها الله في كل طفل .

الحضارة تولد عندما يرسل الله إلى أمة فكرة روحية جديدة، هذه الفكرة تحرر عقول العلماء فيبحث كل واحد منهم فيما يجري حوله بحسب تلك المقدرة التي أنعم الله عليه ، فيظهر أكبر كمية ممكنة المعلومات الجديدة عن كل شيء يتعلق بحاجات الإنسان الروحية والمادية ، فيحصل (التجديد الفكري) وتزدهر الحضارة ، عندما تنفذ طاقة الأمة لإعطاء شيء جديد يحصل أن السلطة الدينية (المؤلفة من كبار علماء الدين) التي إكتسبت قوة كونها هي حاملة الفكرة الدينية تنحاز إلى نموذج واحد وتحاول أن تفرض على جميع العلماء التقيد به ، عندها يسيطر قانون (الركود الفكري) على الأمة بأكملها ، فيحاول كل عالم تقليد النموذج الذي فرضته عليه السلطة الدينية ، ومع مرور الأجيال وبسبب محاولة التقليد المستمرة تخسر الفكرة الدينية قدسيتها وتصبح مثل تلك اللوحة الأخيرة في مثالنا التي بدلا أن تكون لوحة لطفل أصبحت لوحة لتمثال خشبي بلا أي ملامح .

الأمة المسيحية دخلت في ظلام العصور الوسطى بسبب سيطرة السلطة الدينية على فكر العلماء ، حيث ألغت العلوم وفرضت نموذج واحد (علم اللغة) لتفسير الكتاب المقدس من أجل تأمين الحاجات الإنسانية في مجتمعها ، فكانت النتيجة أنها وصلت بها الأمور أن تستخدم السلطة الدينية أساليب فظيعة لمنع كل إنسان يملك فكر حر في نقد أي معلومة من معلومات النموذج الذي فرضته السلطة الدينية ، فرغم أن تعاليم دين السلطة هي من الإنجيل الذي تعتمد تعاليمه على المحبة والتسامح ، ولكن نجد أن أسلوب السلطة الدينية في إغلاق فم كل مفكر حر ، قد أصبح لا يقل وحشية عن مستوى السلطة الرومية الوثنية في وسائل التعذيب التي كانت تطبقها على المسيحيين لإجبارهم على هجر دينهم .

وكما حصل مع الأمة المسيحية في العصور الوسطى حدث تماما مع الإمة الإسلامية عند دخولها في عصر الإنحطاط ، حيث تم إغلاق جميع المدارس التي ظهر منها علماء الطب وعلماء الفلك وعلماء الرياضيات ، والكيمياء ..إلخ ، و تركت فقط مدارس الشريعة ، ولأن مدارس الشريعة لوحدها لا تكفي لتأمين الحاجات الإنسانية المادية ، لهذا ظهرت أساليب أخرى في تامين هذه الحاجات ولكن بنوعية آخرى مختلفة عن نظام المدارس التي تتبع المنهج العلمي ، فظهرت مراكز دينية تعلم السحر والشعوذة وكأنه طب نبوي وتستخدمه في معالجة الأمراض الجسدية والنفسية ، هذه المركز الدينية كانت تعتمد في عملها على آحاديث باطلة مدسوسة على لسان رسول الله .

أقوى سلاح كانت تستخدمه السلطة الدينية في إغلاق فم كل عالِم يملك فكر حر يريد تجديد معاني المعلومات الدينية ، هو تلك الآحاديث الباطلة التي كانت بالنسبة للسلطة الدينية بمثابة آيات قرآنية معصومة عن الخطأ . فرغم أن الآحاديث الباطلة كانت موجودة أثناء فترة إزدهار الحضارة الإسلامية ولكن النسبة العظمى من أفراد السلطة الدينية في ذلك الوقت كان فكرهم فيه نور الله وإجتهاداتهم كانت بنية نقية هدفها خير الأمة ، لهذا كانت الآحاديث الشريفة الصحيحة هي التي تسيطر على حرية الفكر في تلك الفترة ، أما في عصور الإنحطاط فكانت نفوس النسبة العظمى من أفراد السلطة الدينية خالية من نور الله لأن إجتهاداتها كانت في سبيل إرضاء السلطة الحاكمة لهذا إعتمدت الآحاديث الباطلة ، ولذلك سيطر هذا النوع من الآحاديث على سلوك معظم أفراد الأمة . نظام الركود الفكري الذي إستخدمته السلطة الدينية مع مرور الأجيال خلق أمة متخلفة فكريا ، تتبع نموذج فاشل بلا ملامح وبلا تعبير روحي ، عقول أفراد الأمة الإسلامية أصبحت مثل الربوت ، يعمل تحت سيطرة السلطة الدينية بشكل كامل . فكما يقول الفيلسوف ابن رشد (إذا أردت أن تتحكم في جاهل فعليك أن تغلف كل باطل بغلاف ديني)

في النصف الأول من قرن الماضي وبسبب إحتكاك الأمة الإسلامية مع الشعوب الأوربية المتقدمة علميا ، بدأت تتسرب العلوم بمختلف فروعها إلى فكر بعض المسلمين فتحررت عقولهم من ذلك السجن المظلم الذي كانت تعيش به ، فحاولوا البحث في تلك المعلومات الدينية التي سببت تخلف الأمة الإسلامية ، ولكن النظام الصارم في السلطة الدينية حاول إغلاق أفواههم ، بعضهم صمدوا وبعضهم فشلوا ، ولكن التطور المادي الذي شاهده المسلمون في الشعوب الاوربية والذي بإمكانه تأمين الحاجات المادية التي يفتقدها أفراد الأمة الإسلامية ، فرض على السلطة الحاكمة وليس السلطة الدينية بفتح المدارس والجامعات التي تدرس جميع العلوم لتقوم بهذا الدور . مع دخول المنهج العلمي في المدارس بدأت عقول الطلاب بالتحرر ليس فقط في كليات العلوم ولكن أيضا في كليات الشريعة ، فازداد عدد المشككين من مفكرين وعلماء دين بصحة تلك الآحاديث الباطلة التي يعتمدها علماء الدين في السيطرة على نوعية إيمان عامة الشعب . ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن عدد المشككين في صحة بعض الآحاديث في تزايد مستمر بسبب دخول الأمة الإسلامية بمرحلة جديدة وهي (التجديد الفكري الديني) . التفسير الخاطئ لمفهوم (التجديد الفكري الديني) هو سبب ظهوره بشكله السلبي ليأخذ مفهوم سياسي (الربيع العربي) . لذلك كانت نتيجته وخيمة على الأمة الإسلامية ، لأن فكرة (الربيع العربي) أصلها مادي ، بينما (التجديد الفكري الديني) فأصلها روحي . الروح المشوهة لا تستطيع تكوين جسد متناسق ولكن تعطي جسد مشوه، تماما كما كانت نتائج (الربيع العربي).

أحد القراء استخدم حديث (مذكور على أنه صحيح السند) يناقض فكرة ذكرتها في مقالاتي وطلب مني في تعليقه عدم محاولة تضعيف الحديث لأنه من الآحاديث الصحيحة ، وعندما حاولت تضعيفه . أصابه الشك مباشرة في حقيقة نيتي وإيماني كمسلم ، وكان رأيه أنه طالما أنني حاولت تضعيف الحديث لإثبات صحة فكرتي ، فبهذا الطريقة فإنني أفتح أبواب عديدة ستجعلنا نشك في صحة جميع الآحاديث الشريفة ، وفي صحة القرآن و، و، ..إلخ . للأسف معظم المسلمين اليوم يوافقون صاحب هذا الرأي . لهذا أتحدث عن الركود الفكري الديني في هذه المقالة لأن هذا المنطق هو نفس المنطق الذي تتبعه السلطة الدينية منذ دخول الأمة الإسلامية في عصر الإنحطاط وحتى الآن .

هل فعلا أن التشكيك بصحة حديث شريف سنده صحيح سيفتح أبوابا تدمر الدين الإسلامي ؟

أولا جميع المذاهب الإسلامية لديها نسخة واحدة عن القرآن الكريم . والسبب أن القرآن الكريم له حكمة إلهية خاصة به ، وللأسف هذه الحكمة حتى الآن لم يحاول علماء المسلمين فهم وتفسير حقيقة سبب وجود نوعين من المعلومات في دين الإسلام : معلومات القرآن ، ومعلومات الآحاديث الشريفة . شرح هذه الحكمة الإلهية يحتاج إلى صفحات عديدة ، ولكن هنا يمكن تلخيص مبدأها بهذا المثال البسيط : معلومات القرآن الكريم يمكن تشبيهها بالمورثات الجينية في الإنسان ، المورثات الجينية تحمل صفات الشكل العام للإنسان قبل ولادته ، فهي مثلا تفرض وجود خمسة أصابع في يد الإنسان عند ولادته. الحديث الشريف في مثالنا هذا له دور في التأكيد على وجود خمسة أصابع في يد الإنسان عندما يولد ويكبر ، ولكن قد يصاب الإنسان بحادثة تؤدي إلى قطع أحد هذه الأصابع ، فبدلا من يكونوا خمسة سيصبحوا أربعة . فهذا الإنسان يده في الوقت الحاضر تحوي على أربعة أصابع ، ولكن مورثاته الجينية لا تزال ثابتة وعدد أصابع يده كمعلومة فيها هي خمسة وليست أربعة ، وجيناته الوراثية التي ستنتقل منه إلى أطفاله الذين سينجبهم سيكون عدد أصابع أيديهم خمسة وليس أربعة . نفس الشيء تماما بالنسبة للقرآن الكريم ، لذلك لا يمكن تحريف القرآن بأي شكل من الأشكال .

أما بالنسبة للآحاديث الشريفة فالأمر مختلف ، فالصحيح منها هو كلام مقدس وستبقى صحيحة أيضا إلى الأبد (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ٩ الحجر) ولكن مثلما أنه من الممكن بعملية جراحية قطع أحد الأصابع ، يمكن أيضا دس آحاديث لا علاقة لها بالرسول لتبدو لنا وكأنها صحيحة ، لهذا نجد أن كل المذاهب تشترك مع بعضها في صحة العديد من الآحاديث الصحيحة ، ولكنها أيضا تختلف بالعديد من الآحاديث الصحيحة من حيث صحتها ، ولهذا نجد كل مذهب له الآحاديث الصحيحة الخاصة به . والسؤال هنا من هو العالِم المسلم الذي يحق له أن يحدد لنا صحة حديث ما ، العالم السني ، أم الشيعي ، أم عالم آخر من مذهب آخر ؟ لا السني سيقبل العالِم الشيعي في القيام بهذا الدور ، ولا الشيعي سيقبل العالِم السني . لهذا كان من الطبيعي وجود مثل هذه الإختلافات في المذاهب لأن بعض الآحاديث الصحيحة ليست صحيحة . كتاب صحيح البخاري الذي ُيُعتبر بالنسبة لعلماء السنة شبه معصوم عن الخطأ ، جميع بقية المذاهب لا تؤمن بصحته . بقية المذاهب ليست كافرة ولا من الضالين ، ولكن وجود الآحاديث المدسوسة هو الذي أدى إلى إنقسام الأمة الإسلامية إلى عدة مذاهب ، هذه الإنقسام رغم عواقبه السلبية لكنه حكمة إلهية تتبع قانون مثالنا عن أرتباط الكوليرا مع القذارة ، فطالما يوجد آحاديث باطلة تنسب إلى الرسول لتسيء صفاته النبوية ، لهذا كان من الطبيعي ظهور المذاهب المختلفة .

إذا تمعنا في كل مذهب سنجده يُضعف صحة بعض الآحاديث التي تؤمن بصحتها المذاهب الأخرى ، لماذا إذن لم يتم التشكيك بآيات القرآن الكريم ، فجميع المذاهب اليوم تستخدم نفس النسخة القرآنية في جميع دول العالم . للأسف معظم علماء الدين اليوم في جميع المذاهب ، يمارسون إسلوب إغلاق فم كل عالِم متحرر فكريا بإستخدام حديث باطل يعارض رأي المتحرر فكريا في مسألة من مسائل الدين ، هذه الأسلوب بحسم النقاش بين الطرفين من خلال إستخدام حديث باطل على انه صحيح يعبر بشكل واضح تماما عن الركود الفكري الديني الذي يعاني منه معظم المسلمين اليوم .

كل آية قرآنية وكل حديث شريف يتبع نظام دقيق محكم يسمح لي في البحث فيها ، أما الحديث الباطل فكاتبه إنسان لذلك نظامه عشوائي مفصول عن جميع بقية العلوم لا يسمح لأي عالِم البحث فيه بعلوم شاملة ليرى فائدته ، لأن العلوم الشاملة هي نفسها سترفضه.

يقول الله عز وجل في سورة القلم (ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (١) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) . حسب تفسير علماء المسلمين حتى الآن لهذه الآيات هو آن هذه الآيات تتحدث عن أولئك القريشيين الذين إتهموا النبي بالجنون عندما أعلن عن ديانته الجديدة ، أي أن هذه الآيات ليس لها علاقة بالمستقبل ، ولكن إذا تمعنا في ترتيب زمن نزولها وترتيب مكان هذه السورة في القرآن، نجد أن الله قد وضع فيها حكمة إلهية تفتح بابا آخر لتفسير هذه الإيات ، فهذه الآيات في الترتيب الزمني لنزولها هي اول الآيات التي نزلت من النوع الذي سوره تبدأ بحرف أو بأحرف غامضة مثل : ألم ، ألر ، كهيعص ، حم ، ق ....إلخ ، ولكن ترتيب سورة القلم التي تبدأ بالآيات التي نتكلم عنها يأتي في آخر سور القرأن الكريم التي تنتمي لهذا النوع من السور (ألم ،الر ..) ، بعد سورة القلم لا يوجد سورة تبدأ بحرف غامض ، لهذا كون هذه الآيات هي أول الآيات التي نزلت يكون تفسيرها له علاقة بتلك التهمة (الجنون) التي اُتهم بها الرسول في بداية إعلانه عن الإسلام ، ولكن كونها أيضا في ترتيب القرآن هي آخر السور من هذا النوع ، فهذا يعني أن لها علاقة بالمستقبل ، القريشيون لم يسطروا كتب ومؤلفات (ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) يثبتوا فيها تهمة جنون النبي ، ولكن بعد وفاته بدأت أيدي الناس تسطر أقوال الرسول وأفعاله ، هذه الآيات التي تنفي جنون الرسول وتصفه بأنه على خلق عظيم ، هي في الحقيقة تتكلم عن كتب الآحاديث النبوية التي سطرتها أيدي الناس عن النبي بعد وفاته والتي يعتقدها المسلمون حتى اليوم أنها معصومة عن الأخطاء ، والمعنى المقصود من هذه الآيات أنه لو جمعنا جميع الآحاديث النبوية وعرضناها على لجنة من علماء النفس لدراسة شخصية نبينا فيها ، فإنهم سيخرجون بمعلومة أن نبينا كما تصفه هذه الأحاديث كان مصابا بالمرض النفسي الشيزوفرينيا (إنقسام الشخصية) . ولهذا كان من الطبيعي أن تكون نتيجة الآحاديث الباطلة واضحة في سلوك الأمة الإسلامية ، اليوم الأمة الإسلامية هي أيضا مصابة بنفس المرض ، وما حدث في (الربيع العربي) هو أقوى إثبات ، فالمسلمون اليوم يتكلمون عن الرحمة ولكن أفعالهم لا رحمة فيها ، يتكلمون عن السلام وأفكارهم لا سلام فيها ، يتكلمون عن إله واحد ونبي واحد ولكن نجد أن لكل مذهب له إله ونبي له طبيعة مختلفة عن المذاهب الآخرى .

إذا بحثنا في الإنترنت سنجد علماء النفس الذين بحثوا في كتب الآحاديث يشاركوني في الرأي ولكنهم لا يعلمون أن الآيات الأولى من سورة القلم هي التي تؤكد صدق صحة إحساسهم ، لهذا كانت آرائهم بدون ادلة قوية من القرآن الكريم تستطيع إقناع علماء الدين .

الحكمة الإلهية إختارت حرف (ن) كبداية لسورة القلم التي هي آخر السور من النوع الذي يبدأ بحروف غامضة ، لأن حرف (ن) رقمه في ترتيب الأحرف العربية هو (٢٥) ، الرقم (٥) الموجود في يمين العدد هو رمز العلوم الروحية ، أما الرقم (٢) الموجود على يسار العدد فهو رمز العلوم المادية ، وقد شرحنا هذا الموضوع بشكل مفصل في مقالات ماضية تتكلم عن لغة الأرقام ، فالمقصود بحرف (ن) هو العلوم الشاملة الروحية والمادية ، لذلك كان عنوان السورة يحمل إسم (القلم) لأن القلم هو رمز العلوم ، فالذي سيحدد صحة الحديث أو بطلانه يجب عليه أن يكون قد ألما بجميع أنواع العلوم الروحية والمادية(....وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ٧ آل عمران) ، لأن المعلومات الدينية سواء كانت في القرآن أو في الآحاديث الشريفة هي من الله وليست من عقل إنسان ، علماء الدين للأسف يعتمدون علم واحد هو علم اللغة في تفسيرهم للمعلومات الدينية ، علم اللغة ضروري ولكن لوحده يصبح علم فقير عاجز عن تفسير أي معلومة دينية ، واستخدامه لوحده في تفسير المعلومات الدينية سيؤدي إلى تشويه معنى المعلومة وبالتالي تشويه تعاليم الدين بأكملها .

هذا المبدأ في البحث العلمي والذي على أُسسه ظهرت العلوم وإزدهرت الحضارات ، ذكره الله في سورة يوسف ( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ۖ... ٦٧) . المقصود من كل باب في هذه الآية هو علم .

إعتقادي بأن هناك آحاديث غير صحيحة تم دسها على الآحاديث النبوية لم يأتي من الخيال ولكن من استخدام جميع العلوم في بحث الموضوع ، التشكيك بحديث يبدو صحيحا بالنسبة لعلماء المسلمين لا يفتح أبواب الشك في صحة آيات القرآن الكريم والآحاديث الشريفة ، ولكنها تغلق أبوابا عديدة فتحتها تلك الآحاديث المدسوسة التي مزقت الأمة الإسلامية وساهمت في الركود الفكري الديني حتى عصرنا الحاضر .

المعلومات الدينية هي القاعدة الروحية التي تحدد نوعية البيئة الروحية لعالم الأطفال ، والبيئة الروحية لعالم الأطفال هي التي ستحدد سلوك الأطفال عندما يكبروا ويصبحوا علماء بجميع فروع العلوم : طبيب ، فيزيائي ، محامي ، أديب ، فنان ، سياسي ...إلخ ، لهذا فإن نوعية هذه القاعدة الروحية لها تأثير كبير على سلوك المجتمع بأكمله ، فإذا كانت هذه القاعدة مشوهة ، عندها ستتشوه روح الإنسان في جميع العلماء ، وعندها يختفي نور الله من دور التعليم ويسير المجتمع بأكمله نحو الإنحطاط والإنهيار . اليوم للأسف جميع الأمم تعيش في مثل هذه المرحلة ، لهذا لا بد من وجود (تجديد فكري ديني) يقوم بنقد ذاتي يوقظنا من سكرتنا ويفتح أعيننا لنرى تلك الأخطاء التي تعشش في عقولنا وتتحكم في سلوكنا ونظنها أنها صحيحة .

البعض يذكر في تعليقاتهم أن مقالاتي (تضع السم في العسل) . هل يريدوني أن أخفي الحقيقة وأقول بأن علماء المسلمين اليوم معصومون عن الأخطاء وأن الدين الإسلام الحالي هو نفسه دين نبينا محمد ؟ فلنفرض أن تعاليم الدين الإسلامي كما هي اليوم صحيحة ، فلماذا إذن الأمة الإسلامية بدلا من أن ترسل أبحاث ونظريات علمية إلى بقية الأمم كما كان يحصل في الماضي ، ترسل اليوم ملايين النازحين المشردين إلى بقية الامم ، يتوسلون لهم بقبولهم في بلادهم ليعيشوا حياة آمنة ؟ هل الجرثومة هي السبب أم أولئك الذين سمحوا للجرثومة بدخول بلادهم هم السبب ؟

إن دين محمد صلى الله عليه وسلم صنع حضارة عريقة ، لأن تعاليم هذا الدين مختلفة عن الدين الحالي، فهي أجمل وأرقى بكثير مما يتصوره علماء المسلمين اليوم ، ولكن حتى نرى جماله ورقيه يجب علينا أولا أن نصل إلى مستوى علمي شامل مرموق ، وهذا لن يحصل إلا بالنقد الذاتي لنزيل جميع تلك الشوائب التي شوهت صورته الحقيقية في نفوس المسلمين.

قد يعتقد البعض أن الحرية الفكرية الدينية ستؤدي إلى تدمير المبادئ السامية والأخلاق الحميدة كم يحصل اليوم في الشعوب الغربية ، هذا الإعتقاد خاطئ ، لأن هذه الشعوب كان دورها تطوير العلوم المادية وقد قامت بدورها على الأكمل وجه في هذا المجال ، أما الأنحطاط الروحي الذي نعاني منه فسببه هو تخلف الأمم الشرقية التي أعطاه الله دور تطوير العلوم الروحية . التحرر الفكري الديني في الأمة الإسلامية ربما في البداية قد يخلق نوع من الفوضى الروحية ، الفوضى الروحية اليوم أعقد بكثير من الفوضى التي قد تنتج عن تجديد الفكري الدين . فعدد الملحدين المسلمين يزداد بشكل مخيف يوما بعد يوم بسبب الركود الفكري الديني . لا تسيئوا الظن بكل شخص يأتي بفكرة مخالفة لما تعلمناه من جيل عن جيل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ .. ١٢ الحجرات) ، فكل إنسان يمكن ان يُخطئ ويمكن أن يُصيب ، ولكن الله موجود وطالما أن هناك نية نقية في البحث عن الحقيقة في الجميع ، الله سيبارك حركة التجديد الفكري الديني لتساعد الأمة في النهوض ثانية لتساعد هي بدورها جميع الأمم في النهوض معها ، (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ٨ الزلزلة) ، ( وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ٨٧ يوسف) .

أكرر مرة أخرى : مقالاتي تعرض معلومات جديدة لم يذكرها أحد من قبل ، القارئ له كامل الحق في تقبلها أو رفضها ، (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) ، فالله وحده (هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) .

وسوم: العدد 810